قصة لجان الامتحانات الخاصة بأولاد “الأكابر” كما سمتها الصحافة شغلتني كثيرا، ولمن لا يعرف فالقصة يمكن اختصارها في حصول عدد من أبناء عائلات كبيرة على مجموع مرتفع في الثانوية العامة تجاوز الـ90% بدرجة بدت بالفعل ملفتة ومثيرة للشكوك. إذ أن العقل الطبيعي لا يمكن أن يصدق أن هؤلاء الأبناء جميعهم متفوقين، وليس فيهم طالب أو طالبة، يمكن أن يحصل على مجموع صغير، لا سيما أن نتيجة الثانوية العامة في مجملها هذه السنة سيئة، وأن أكثر من 150 ألف طالب وطالبة تخلفوا سواء بالرسوب في مادة أو مادتين، أو إعادة السنة بالكامل.
الملفت أن معظم هذه اللجان التي وُجهت إليها الاتهامات بالغش كانت في محافظات الصعيد لا سيما محافظة سوهاج، وهو أمر يثير الشكوك بشكل أكبر حول وجود المجاميع المرتفعة في محافظة معينة وفي لجان محددة بالاسم.
اقرأ أيضًا.. حظر النشر وحرية الصحافة.. ضوابط ومعايير
وزارة التربية والتعليم من ناحيتها قالت إنها بدأت تحقيقا قانونيا في القصة كلها، وإنها لن تتوانى عن تطبيق القانون في حالة التأكد من وجود مخالفات أو “غش جماعي”.
تاريخيا يعرف الجميع أن مصر كان بها لجان “لأولاد الأكابر” في امتحانات الثانوية العامة، وهي لجان أشبه بالفنادق التي يدخلها الطالب متسلحا بالمركز الاجتماعي لوالده أو عائلته، ليخرج من الامتحانات وهو يتجهز لدخول كليات القمة، بصرف النظر عن كفاءته أو اجتهاده أو استيعابه للمقررات الدراسية، فقد حجز مكانته في المستقبل بلا حق أو كفاءة، ولكن لمجرد انتماءه لعائلة غنية وصاحبة نفوذ في المجتمع.
يحدث هذا في نفس اللحظة التي يفقد فيها زميله المجتهد أو ابن المواطن البسيط مكانه وحقه في دخول كليات القمة، لمجرد أن “أبناء الأكابر” استحوذوا بالغش وبدون وجه حق على حق هذا الطالب المجتهد في الارتقاء والصعود الاجتماعي الذي يجب أن يكون مصدره الوحيد هو التعليم والاجتهاد، وهذه هي الضربة الأقوى للعدالة الاجتماعية ولتكافؤ الفرص بين الجميع، ولعدالة فكرة الصعود الاجتماعي والطبقي عن طريق الاجتهاد والتعليم.
في أعقاب ثورة يناير 2011 انتظر الجميع تحقيق العدالة الاجتماعية، والخلاص التام من الواسطة والمحسوبية والترقي عن طريق نفوذ العائلة ومركزها الاجتماعي، ورفعت الثورة شعار العدالة الاجتماعية كهدف رئيسي من أهدافها الكبرى، وتضمن دستور 2014 موادا تكفل العدالة الاجتماعية للجميع، إلا أن الواقع ما زال يكذب كل هذه النصوص النظرية، فالأهداف التي تبنتها الثورة بخروج جماهيري حاشد في الميادين، وبتضحيات عظيمة تقدمت ما زالت حبرا على ورق.
الأصل في موضوع لجان “أولاد الأكابر” هو قضية العدالة الاجتماعية، وانتقالها من خانة الشعارات إلى التطبيق والممارسة الفعلية، فمن يصدق أنه بعد كل التضحيات التي قدمها المصريون خلال العشر سنوات الأخيرة فإن وزيرا في الحكومة يستبعد إمكانية أن يتم تعيين ابن عامل النظافة في القضاء، ويعتبر أن هذا الأمر من المحرمات.
صحيح أن الوزير تمت إقالته بعد تصريحه المخزي، لكنها تبقى واقعة كاشفة لمدى عجز السلطة الحالية عن تأكيد وترسيخ قيمة العدالة الاجتماعية حتى في اختيار مسئوليها الذين يجب أن يكون دورهم هو ترسيخ مفاهيم العدالة والمساواة والشفافية وتكافؤ الفرص.
الحقيقة أن الاجتهاد ومكتب التنسيق، رغم تخلف فكرته عن العصر، ما زال هو الصورة الوحيدة لفكرة المساواة وتكافؤ الفرص، وعندما يتم كسر الصورة الوحيدة الباقية لفكرة العدالة فإن المجتمع ييكون قد فقد أهم عنصر من عناصر تقدمه وهو منح الحق للمجتهدين وأصحاب الكفاءة في النجاح والتحقق الذي سيأخد بيد المجتمع نفسه ويحركه إلى الأمام.
منذ بداية حكم السلطة الحالية افتقد الحكم بشكل واضح للرؤية، وهي الخطة العامة التي تتحول مع الوقت إلى خطط وسياسات، افتقد الحكم للرؤية العامة فلم يعرف أحد موقفه بشكل جاد وحقيقي من قضية العدالة الاجتماعية، فرغم الحديث الذي لا ينقطع عن المستقبل والجمهورية الجديدة، فإن القواعد القديمة لا تزال باقية ومسيطرة، فلا هدمنا الواسطة والمحسوبية، ولا بنينا مجتمع المساواة وتكافؤ الفرص، ولا رسخنا بوضوح لرفض كل الإجراءات التي تمنح المستقبل “لأولاد الأكابر” على حساب الملايين من أبناء البسطاء، ولا أغلقنا الباب الذي يصعد منه “معدومي” الكفاءة عن طريق نفوذ أسرهم، ولا بعثنا برسالة تطمئن الناس أن القادم سيكون مختلفاً عن الماضي.
البداية ليست فقط من تحقيق ستجريه وزارة التعليم عن “لجان الأكابر”، بل يجب أن يكون بإعلان واضح من السلطة كلها حول موقفها ورؤيتها لمجتمع العدالة الاجتماعية، مجتمع المساواة والمواطنة وسيادة القانون، مجتمع لا تمييز فيه بسبب النوع أو الرأي أو الدين أو المركز الاجتماعي، مجتمع يحكم طريق النجاح فيه معيار واحد هو الكفاءة والاجتهاد، وأعتقد أن هذا الإعلان يمكن أن يكون هو البداية في احترام وترسيخ قيمة العدالة قبل أن تتحول إلى تشريعات وسياسات واضحة وحاسمة وحازمة.
ولعل لجان الأكابر تكون هي الفرصة الأنسب لتفعيل الدستور وتشكيل مفوضية التمييز التي نص عليها الدستور، وهي الهيئة التي يمكن أن تساهم -إذا سُمح لها بحرية العمل- في ترسيخ مفاهيم العدالة ونبذ كل صور عدم احترام المساواة بين كل أبناء البلد، فتأكيد قيمة العدالة الاجتماعية هو مشوار طويل يحتاج إلى جد واجتهاد من السلطة والمجتمع على السواء، ولكن في كل الأحوال يجب أن يبدأ المشوار بالسلطة الحاكمة، فهي التي في يدها كل المفاتيح، وهي التي يجب أن تعلن الآن وليس غدا انحيازها للعدالة الاجتماعية بإجراءات واضحة وليس بمجرد كلام أو شعارات، هذه الإجراءات ستحتاج إلى تشريعات جديدة وهيئات جديدة وتعامل حاسم مع كل صور التمييز، وتأكيد أن أبناء الفقراء والبسطاء يمكنهم الحصول على حقهم بالكفاءة والاجتهاد، وأن أحدا لن يظلمهم ويحرمهم من حقهم العادل في العمل والنجاح فقط لأنه أحد “أبناء الأكابر”.