لعل القارئ يتفق معي بداية علي صعوبة -إن لم تكن حساسية – تناولي لمسار ومآلات عملية الحوار الوطني، التي أشارك فيها عضوا في مجلس الأمناء، وذلك بصفتي أحد ممثلي الحركة المدنية الديمقراطية المعارضة، فضلا عن صفتي المهنية ككاتب في الشأن العام، له آراؤه المعلنة في أغلب القضايا، ومنها قضية الحوار منذ أطلقت الدعوة الرئاسية له في أواخر إبريل الماضي.
فقد كنت ولازلت من المشفقين من الإفراط في التوقعات، وفي قدرة هذا الحوار ومن سيضطلعون به على الاستجابة لتلك التوقعات. لا لنقص في الفهم أو في العزم، ولكن نظرا لتضخم وتعقد المشكلات وتراكمها في الداخل المصري، ومن حول مصر في الإقليم وفي العالم، وانسداد قنوات العمل السياسي في بضع السنوات الأخيرة، وسيادة أساليب الإقصاء والملاحقة. وهو ما يقتضي -في مجمله- اختيار استراتيجة النفس الطويل، وتقسيم هذه الاستراتجية إلى مراحل، على أن تكون نقطة البداية هي إنجاز محدد، يفضي إلى نتائج غير محدودة، تبني الثقة وتشيع الارتياح لدى الرأي العام، ولدى أطراف الحوار أنفسهم.
وكان تقديري في أول مقالاتي عن الحوار هنا في موقع “مصر 360” بعنوان “حوار الخطوة خطوة“ هو أن القضية الملحة هذا الصيف على الدولة والمجتمع هي المديونية الخارجية، وفجوة التمويل، وبيع الأصول العامة، وما يرتبط بذلك من سياسة مالية ونقدية وسعرية، وكان حوارا مجتمعيا قد بدأ حول هذه القضايا، ووسط هذا الحوار المجتمعي أعلنت الوثيقة الرسمية المسماة بسياسة ملكية الدولة، فكانت بدورها رافدا مهما لذلك الحوار المجتمعي، والذي كان قد شهد مقترحات متنوعة، منها مشروع للتقدم لنادي باريس لإعادة جدولة الديون المصرية، ومنها التعديل الشامل لسياسات الاستثمار والانفاق لتتركز على الإنتاج، وتتوقف عن المشروعات الكبيرة غير ذات الإنتاجية المباشرة الجارية حاليا، أو منذ سنوات، ومنها كذلك تشجيع المصريين في الخارج على تكوين شركات وصناديق استثمار في بلدان مهجرهم لشراء أسهم الشركات والأصول العامة التي تقرر الحكومة طرحها للبيع.
لكن وكما لاحظ وكتب كثيرون، فإن هذا الحوار المجتمعي لم يكن مؤثرا بما يكفي في قرارات الحكومة وسياساتها الاقتصادية، إلا فيما يتعلق بتعديل سياسة بيع المواني تحديدا إلى سياسة إسناد حق إدارتها إلى شركات أجنبية، وهذا تطور إيجابي بما أنه يمثل استجابة لقلق الرأي العام من بيع مرافق بالغة الأهمية والحساسية، وتبقى ملكيتها للمصريين الحاليين، والمصريين من الأجيال التالية، والشاهد أن الحكومة تتفاوض على قرض كبير جديد من صندوق النقد الدولي، وتطرح مزيدا من الشركات لاستحواذ صناديق استثمار سعودية وإماراتية بالدرجة الأولى.
قد نتفهم أن الحاح أزمة النقد الأجنبي لخدمة الديون وتمويل الاستيراد لتلبية الاحتياجات الضرورية اليومية للسوق المحلية لن ينتظر مخرجات الحوار المجتمعي، أو ذلك الحوار الذي يجري استجابة وتطبيقا لدعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي، ولكن من المتوقع أو يجب ألا تتجاوز صفقات البيع أو القروض الجديدة سداد هذه المستحقات والاحتياجات العاجلة، تمهيدا لإعادة نظر شاملة في أولويات الإنفاق والاستثمار الآنية والتالية، والتي يجب ألا تتقرر بمعزل عن ذلك الحوار بشقيه.
على أي حال لم تكن رؤيتي إذن هي التي أخذ بها في الجلسات الثلاث التي انعقدت حتى الآن لمجلس أمناء الحوار، ليس فقط من حيث الموضوع بعدم البدء بالحالة الاقتصادية ديونا وأصولا ومستوى معيشة، ولكن أيضًا من حيث المنهج، بمعنى التقدم على مراحل، إذ ما دامت القضايا الاقتصادية الملحة أو الضاغطة هي محل حوار مجتمعي، وما دامت الحكومة ماضية في اختياراتها العاجلة، كما سبق القول، فلم يكن هناك محل إذن للبدء في جلساتنا بالشأن الاقتصادي (مرحليا بطبيعة الحال)، ومن ثم يكون الأولى والمنطقي هو البدء بالإصلاح السياسي والتركيز على تحقيق إنجاز ملموس فيه، خاصة وأنه دائما المدخل الطبيعي لكل إصلاح تال في الاقتصاد والمجتمع، وأنه لولا سخونة مشكلة الديون وفجوة التمويل ما كنت أنا ولا غيري فكرنا في أولوية الاقتصادي مرحليا على السياسة.
لكن ما حدث هو أن التوافق انعقد على أن يجرى الحوار على محاور ثلاثة رئيسية متوازية، تنقسم بدورها إلى لجان فرعية، وهي المحور السياسي والمحور الاقتصادي والمحور الاجتماعي، في حين يصل عدد اللجان الفرعية إلى 17 لجنة، وبالطبع فقد احتجنا ثلاث جلسات امتدت كل منها إلى خمس ساعات للوصول إلى هذا التوافق، وهو ما كان سببا رئيسيا فيما يشعر به البعض من بطء في وتيرة الحوار، خاصة وقد سبقه استهلاك وقت طويل نسبيا في التوافق على أعضاء مجلس الأمناء، وعلى ما تسميه المعارضة بضمانات نجاح الحوار، ويقصد به في المقام الأول العفو عن سجناء الرأي الصادرة بحقهم أحكام قضائية، وتصفية حالات الحبس الاحتياطي في القضايا السياسية التي لا تتضمن استخدام عنف أو التهديد به أو التحريض عليه.
ومن المفارقات أن أقطابا مهمين في الحركة المدنية الديمقراطية مثل الأساتذة حمدين صباحي وفريد زهران وأكمل قرطام متفقون في الرؤية على أن مهمة الحوار الأولى هي الاصلاح السياسي، بل إن مجلس أمناء الحوار أقر في لائحته أن مهمة الحوار هي خلق مساحات مشتركة طبقا لمضمون الدعوة الرئاسية إلى هذا الحوار، لكن أعضاء مجلس الأمناء من كل الأطياف لم يقاوموا إغراء أو أمل النجاح في تناول تلك القائمة الطويلة من القضايا، وهي كلها مهمة، ومرة أخرى كان الفهم السائد في الحركة المدنية الديمقراطية، أن هذا حوارا يجرى بين سلطة وبين معارضة شرعية، وبينهما مستقلون يصفهم موقع الأمانة الفنية للحوار بأنهم ممثلو الوسط، فهي إذن أطرافا سياسية، و كذلك فلا معنى للمساحات المشتركة إلا العمل السياسي السلمي -توافقا ومنافسة- في إطار الدستور القانون.
ولذا كان الأكثر منطقية وفائدة أن ينصب التركيز في المرحلة الأولى على تحقيق إنجاز سياسي ملموس، كما قلنا توا. وفي اعتقادي أن الإصلاح السياسي يجب أن يبدأ بخطوتين رئيسيتين: الأولى تعديل قانون الاجراءات الجنائية للعودة بمفهوم الحبس الاحتياطي إلى معناه الحقيقي كاجراء مؤقت لضمان سرعة التحقيق، وإبطال المفهوم المطبق حاليا، والذي يحول هذا الحبس الاحتياطي ذاته إلى عقوبة جزائية، والثانية تعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية أو الانتخابات إلى القائمة النسبية لخلق المساحات المشتركة المبتغاة من خلال التمثيل السياسي من المحليات إلى النقابات إلى البرلمان بمجلسيه، و هو ما يهيئ مناخا يختلف كلية عن مناخ الإقصاء والملاحقة للسياسات والحلول البديلة وأصحابها، ويوفر تلقائيا حرية الحركة والاجتماع والتعبير للأحزاب والقوى السياسية الشرعية.
هنا يعود التساؤل حول أوضاع المسجونين الحاليين والمحبوسين احتياطيا في قضايا سياسية لا تتضمن عنفا ولا تهديدا ولا تحريضا، والرد هو أن ما خلصت إليه الحركة المدنية الديمقراطية (المعارضة) بعد الإشادة بقرارات العفو الرئاسية التي صدرت منذ إطلاق دعوة الحوار حتى أيام قليلة مضت هو التطلع إلى العفو عن بقية الشخصيات الواردة في قائمة قدمت إلى الجهات الأعلى الراعية للحوار، باعتبار أن هذا مبدأ فوق حواري وضمانة سابقة على بدء جلسات الحوار الفعلية أي جلسات المحاور ولجانها الفرعية، وكما رشح من اجتماعات أعضاء الحركة، فإنها اتخذت قرارا داخليا بتعليق مشاركتها في تلك الجلسات المقبلة على تحقيق ذلك المبدأ، أو تلك الضمانة، على أن يكون مفهوما أن تعديل مواد الحبس الاحتياطي في القانون يجب أن يؤدي تلقائيا إلى تصفية الحالات القائمة.
من الواضح أن إنجازا كهذا ينطبق عليه وصف الإنجاز المحدود الذي يؤدي إلى نتائج إيجابية غير محدودة، من بينها الشعور بالارتياح العام، و خلق الثقة لدى عموم المواطنين في جدية الحوار وإمكانات نجاحه، وذلك إلى جانب تسهيل مهمة المتحاورين في المحاور الرئيسية واللجان الفرعية، التي قد يغرق الحوار كله في تفاصيلها الكثيرة (بل الأكثر من اللزوم في رأيي الشخصي)، فهكذا نكون قد أوجدنا حقا مساحة مشتركة صلبة، بحيث ينطبق على الحِواريين أو المتحاورين الوصف البديع للمفكر السياسي البريطاني إدموند بيرك، وهو ينصح أعضاء برلمان بلاده: ”إنكم لستم سفراء لدول متحاربة“.
وإذا كان من المقرر أن يستأنف مجلس الأمناء اجتماعاته في السابع والعشرين من الشهر الجاري لاختيار المقررين والمقررين المساعدين للمحاور الثلاث الرئيسية واللجان الـ17 الفرعية، تمهيدا لبدء جلسات الحوار الفعلي، فمن حقنا أن نتطلع إلى ذلك المزيد من قرارات العفو الرئاسية وإلى رؤى محددة من المتحاورين (مؤيدين ومعارضين ووسط ) تنجز المرحلة الأولى من الإصلاح السياسي بسرعة وحسم.