ليس سرا ولا خافيا على أحد، أن هناك أزمة اقتصادية كبيرة وواضحة تمر بها مصر ضمن سياق أزمة اقتصادية عالمية في اللحظة الراهنة، فهناك تصريحات متعددة رسمية وغير رسمية تتحدث عن تلك الأزمة وآثارها، وهناك برنامج حكومي معلن يحدد ملامح وطريقة التعامل معها بغض النظر عن مساحات الاتفاق والخلاف معها، وهناك وثيقة سياسة ملكية الدولة التي أعلنت قبل أسابيع وجرى حوار حولها مع بعض الخبراء، ثم جرى طرحها كأحد الموضوعات الفرعية التي يفترض أن تناقش ضمن ملفات الحوار الوطني، وهناك سعي لاقتراض جديد من صندوق النقد الدولي لا تزال مفاوضاته جارية وجانب من مطالب وملاحظات صندوق النقد للموافقة على القرض يعلن عنها بين الحين والآخر، وهي في كثير منها تزيد من آثار الأزمة الراهنة على المواطن حتى وإن كان البعض يراها (إصلاحات هيكلية لا بد منها)، وهناك إجراءات حكومية معلنة مؤخرا تبدو أقرب لسياسات تقشفية فيما يتعلق باستخدام الكهرباء وغيرها، ثم هناك قبل ومع وبعد، وأهم من كل ذلك، الآثار المحسوسة لدى عموم المواطنين باختلاف مستواهم الاقتصادي والاجتماعي وتصنيفهم الطبقي بتلك الأزمة وموجات الغلاء وتراجع القدرة الشرائية وغيرها.

وإن كان الاعتراف بالأزمة ووجودها واضحا ومعلنا، فإنه يبقى الخلاف حول أسبابها التي ترد غالبا إلى تأثيرات ما بعد جائحة كورونا ثم الحرب الروسية على أوكرانيا، ولكنها ليست وحدها فيما يتعلق بمصر، وإن كانت بالتأكيد من أسباب تفاقم الأزمة الحالية وتسارع مظاهرها، ودون إنكار أن هناك أيضا أسباب بنيوية وتراكمية ترجع لعهود سابقة وسياساتها الاقتصادية، إلا أنه هناك ضرورة واجبة للنظر بجدية لمجمل السياسات الاقتصادية وتوجهاتها الأساسية التي جرى اتباعها واعتمادها على مدار 8 سنوات سابقة، سواء على صعيد النهج الاقتصادي وانحيازاته وآثاره على عموم المواطنين وبالذات طبقاته الوسطى والفقيرة (ولا أقول إنها فقط من تأثرت)، أو على صعيد ترتيب الأولويات، أو على صعيد منهج الاقتراض الواسع الذى جرى، أو حتى على صعيد طريقة إدارة الاقتصاد وملفاته وقطاعاته.

لا أدعي أنني خبير أو متخصص اقتصادي يستطيع تقديم مقترحات ومعالجات جادة للأوضاع الاقتصادية الحالية، بل وأكاد أزعم أنه لا أحد لديه حلول جوهرية ذات أثر مباشر في اللحظة الراهنة في ظل تعقد وتداخل الأسباب والموضوعات والملفات، لكن هناك بالتأكيد في هذا البلد كثير من الخبراء والمتخصصين ممن لديهم رؤى نقدية، ولديهم مقترحات جادة، يمكنهم المساهمة في رسم خارطة طريق مختلفة تقدم معالجات حقيقية على المستوى المتوسط والطويل لأوضاعنا وأزماتنا الاقتصادية، شرط أن يكون هناك استعداد لدى السلطة للاستماع والتفاعل والتجاوب مع مثل هذه الآراء والتصورات والرؤى، حتى وإن انطلقت من نقد جاد وحاد لما سبق.

وإذا كان كاتب هذه السطور اشتراكي التوجه سياسيا فيما يتعلق بالتوجهات الاقتصادية، ومنحازا بوضوح لمفاهيم العدالة الاجتماعية الأكثر عمقا وأثرا بالتأكيد من إجراءات الحماية الاجتماعية، فإنني لا أتصور –وآمل ألا يكون ذلك رهان غيرى أيضا– أن أي حوار حول الأوضاع الاقتصادية حاليا يمكن أن يفضي لتوجهات اقتصادية اشتراكية النزعة، وإنما المطلوب في تقديري في هذه المرحلة هو فتح الباب أمام الرؤى ووجهات النظر النقدية لخبراء ومتخصصين في مختلف المجالات، وأن تكون هناك نوايا حقيقية معلنة مستعدة للاستفادة من كل الآراء والخبرات لتشكيل ملامح خطط حقيقية لمواجهة الأزمة وآثارها المقبلة، ليس في إطار ما يجرى حاليا فحسب، والذى لا يبدو حتى الآن خارجا عن السياق العام للممارسات والسياسات الاقتصادية التي جرت على مدار الأعوام السابقة، وإنما يمتد لما هو أوسع وأبعد من ذلك كثيرا.

هل لذلك كله علاقة بالدعوة للحوار الوطني، التي لا تزال حتى الآن في طور الإجراءات التحضيرية، التي طال مداها وطالت مجالاتها لأكثر مما ينبغي، وبما يفقد الدعوة كثيرا من زخمها وسقف التوقعات منها ويكاد يفتر الحماس لها؟ العلاقة المباشرة لا تبدو فقط من خلال طرح محور كامل ضمن هذا الحوار تحت مسمى المحور الاقتصادي يطرح 7 عناوين فرعية هي الأكثر عددا حتى ما بين المحاور الأخرى بما فيها المحور السياسي، وإنما الأهم هو علاقة تلك الأزمة الاقتصادية الراهنة ومجمل الأوضاع الاقتصادية عموما بالدعوة للحوار أصلا، وإذا ما كانت سببا مباشرا أو أحد الأسباب التي أدت لتلك الدعوة، وهو أحد التفسيرات والتحليلات التي تقال من أطراف مختلفة بين الحين والآخر، وبغض النظر عن مناقشة ذلك التحليل، فإنه إذا كان به جانب من الصحة، فهو يستدعي أمرين رئيسيين في تقديري: أولهما، إدراك أنه لا أحد مستفيد من استمرار تلك الأزمة وآثارها بأي شكل، حتى ولو كان البعض يراهن على أن تلك الأزمة وآثارها على المواطنين قد تدفع لتحركات جماهيرية أو انتفاضات شعبية أو احتجاجات مجتمعية، فهذا في الحقيقة وبمنتهى الوضوح والمباشرة أمر شديد الخطورة ورهان بالغ المقامرة في التوقيت الراهن، وإذا جرى –لا قدر الله– ستكون آثاره وعواقبه وخيمة على الجميع سلطة ومعارضة والأهم على المجتمع نفسه، وبالتالي فإن مسئولية جميع الأطراف تدعوهم للسعى لإنجاح دعوة الحوار الوطني، لا من حيث الشكل وإنما من حيث المضمون، وأن يكون حوارا شاملا واسعا جادا، لا مجرد شكل نحتفي به، ولا مجرد جلسات نقاش موسعة ومطولة لا تقدم حلولا، ورغم بعض الخطوات التي تقدم إشارات على إفراغ الحوار من مضمونه، ورغم بعض المؤشرات السلبية وعلى رأسها عدم قطع خطوات واسعة لحل أزمات مبدئية مثل ملف سجناء الرأي، وإطالة أمد الإجراءات التحضيرية أكثر من اللازم، وعدم وضوح آليات هذا الحوار أو مصير ما قد ينتج عنه من نتائج، إلا أن الرهان الرئيسي لا يزال في إدراك أن الأمور لا يمكن أن تستمر أو تستقيم بالوضع الحالي، وأن هناك خطوات جرت رغم تفاوت تقييماتها يمكن أن يستمر البناء عليها والتوسع فيها، لكن هذا كله يظل رهنا بجدية الحوار الوطني والملفات التي ستطرح فيه والشخصيات التي ستتولى إدارة ملفاته وجلساته والتوصيات التي ستنتج عنه واتساعه ليشمل دعوة كل أصحاب وجهات النظر والرؤى المختلفة والناقدة، وهو ما يحتاج لتسارع ملفين أساسيين بالتزامن، أولهما ملف سجناء الرأي، وثانيهما الإجراءات التحضيرية اللازمة والأساسية، لبدء جلسات الحوار الوطني.

مرة أخرى نعود للعلاقة المباشرة بين الأزمة الاقتصادية والحوار الوطني، فسواء كانت سببا في الدعوة للحوار، أو أحد الملفات المطروحة للنقاش في داخله، فكلاهما يعني أن هناك إدراكا ولو بمستويات مختلفة لأهمية وجود نقاش عام وواسع حول ذلك الأمر، ومع تفاوت التقديرات أيضا حول ما يمكن الخروج به، في ظل تعقد وتداخل الأزمة، واحجام وتشكك كثير من أصحاب الرؤى ووجهات النظر والخبرات، وحتى اتساع الملفات والموضوعات التي سيتم مناقشتها فيما يبدو حتى الآن، فربما يكون الأوفق في ذلك السياق، ودون تغيير لما تم إعلانه من وجود محور اقتصادي وقضايا ستتم مناقشتها، أن يتم البدء بجلسات وموضوعات المحور السياسي وقضاياه، وأن تتم المسارعة بعرض توصياته ونتائج الحوار فيه، وإعلان ما تم التوافق عليه والبدء في تنفيذ ما يمكن منه، ولعل ذلك يمثل مقدمة حقيقية وجادة، أولا لتأكيد جدية الدعوة للحوار والاستعداد لبدء عملية انفراج سياسي ومجتمعي حقيقية، وثانيا لفتح الباب واسعا أمام من لا يزال التشكك والقلق يساورهم بالذات من الخبراء والمتخصصين اقتصاديا وفى الملفات المختلفة، وثالثا لما قد يمثله ذلك من تمهيد بالغ الأهمية لاكتمال جولات وملفات الحوار ولو على مدى زمنى أطول نسبيا، وبما في ذلك فتح المجال العام أمام من سوف يشارك في الحوار بشكل مباشر أو يساهم بطرح رأيه ورؤيته من خارجه.

أخيرا، فإن الحوار الوطني لن يكتسب مصداقية كافية وجدية حقيقية لدى القطاعات الأوسع من المجتمع إذا لم ينتج آثارا تمس الحياة اليومية للمواطنين وتواجه موجات الغلاء المتتالية، وهو ما يحتاج لتفكير جاد وعميق ومدروس أيضا لما يمكن أن يطرح بشكل عاجل وسريع في نقاشات هذا الحوار، ودون انتظار لنهاية جلساته ومحاوره، يساهم في تخفيف آثار الأزمة الحالية، بإجراءات جادة ترقى لمستوى العدالة الاجتماعية ولا تتوقف عند حدود إجراءات الحماية الاجتماعية. وربما يكون ذلك فاتحة خير وبداية طريق مختلف يفتح آفاق أوسع لما يمكن طرحه من حلول في مواجهة أوضاعنا الاقتصادية الراهنة.

للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا