كتب- عبد الوهاب شعبان
داخل منزل مؤجر لا يحمل إطلاقًا مواصفات مبنى تعليمي كواحد من الحضانات يتراص أطفال في المرحلة العمرية من 3 إلى 5 سنوات. يحملون حقائبهم صباحًا ويستقلون وسائل مواصلات متباينة بين “توك توك” في القرى. أو “سيارة ميكروباص” في المدن. بهذا يبدؤون رحلة غياب عن المنزل. فيما يبدأ أولياء الأمور بالتوازي رحلة الخلاص من إزعاجهم. أو على الأرجح ما يتصورونه أول السلم التعليمي تأهيلًا لمرحلة الدراسة.
في غرف هذا المبنى المقسم لفصول مغلقة على الأطفال لا ينشغل أحد بما يسمى مهارات التربية النفسية والعقلية. حيث لا لُعبا تربويًا ولا حركات تعليمية. وإنما تخضع التجربة داخل دور الحضانة للعشوائية الخالصة. ويتراجع على نحو يهدد صحة الطفل النفسية هدف البناء الجسماني والعقلي والنفسي للطفل.
مواصفات أصحاب الحضانات قانونيا
بحسب القانون رقم 12 لسنة 1996 -الخاص بحماية الطفل فإن ثمة شروطا يجب أن تتوفر لترخيص “دار حضانة”. ابتداءً بـ”أن يكون طالب الترخيص مصري الجنسية وكامل الأهلية”. مرورًا بـ”عدم إدانته بحكم قضائي في جناية أو عقوبة مقيدة للحرية في جنحة مخلة بالشرف أو الأمانة”. وانتهاءً بـ”حسن السيرة وعدم قيامه بمهنة تتعارض مع العمل الاجتماعي والتربوي”.
وبخطاب موجه إلى مديرية الشؤون الاجتماعية المختصة وفق نموذج معد لذلك. وبعد رد الجهة المختصة في غضون ثلاثين يومًا بخطاب مصحوب بعلم الوصول يصبح الشخص “صاحب حضانة“. وبوسعه أن يبدأ في جمع الأطفال تحت شعارات براقة ومناهج مدهشة في عقمها. وذلك تحت إشراف معلمات لا تسمع إذا مررت بهن إلا صراخهن وتقرحات اللغة.
آخر ما يشغل فكر أصحاب الحضانات والقائمين عليها هو مستقبل الأطفال. وعلى نحو يصيب بالدهشة فإن رواجًا في أوساط السيدات العاملات والريفيات من ربات البيوت لهذه الدور الفارغة من المرجع النفسي التربوي. وهناك تتلاقى رغبة ولي أمر يريد أن يأوي طفله إلى مكان آمن تحت إشراف “سيدة” بغض النظر عن المضمون. مع رغبة صاحب البيزنس الذي يزين الفكرة بـ”زي ملون موحد” وشهادات ورقية شهرية يستقطب بها آخرين ويعزز موارده.
مناهج الحضانات.. طريقك لطفل مشوه
في إحدى مدن إيطاليا المعروفة باسم “ريجيو إميليا” اخترع التربوي لويس مالجيوزي منهجًا للأطفال دون سن السادسة. ويهدف إلى غرس النضج العقلي والخيال وحب الاستطلاع والرغبة في التواصل مع الآخرين. وكذا حسن التصرف في المواقف. ليستقر هذا في نفوس الأطفال.
ينظر هذا المنهج إلى الطفل باعتباره محور الحكاية. ويدرج في تفاصيله أن لكل طفل طريقة في التعلم. وتلاحظ هذه الطريقة من قبل المعلمات وفق ما يتعلمه الطفل بنفسه وليس وفق ما خطط له أصحاب “الحضانة”.
بمحاذاة تسلسل أهداف المنهج المتدرجة على المعلمات أن تراعي ميول ورغبات الأطفال. ولو أدى ذلك إلى التخلي عن حصتَي القراءة والكتابة لتلبية رغباتهم وتهيئتهم فيما بعد لذلك بطريقة علمية.
حضانات قرى مصر
بنظرة أفقية على الحضانات في القرى والمدن لا تقع عينك إلا على أصحاب مشاريع تجارية فقط. يهمهم في المقام الأول زيادة عدد الأطفال مع وضع بنود واشتراكات توازي قيمة الاشتراك الشهري للطفل الذي قد يتجاوز 300 جنيه في قرى الجنوب. ويصل إلى 2000 جنيه في الأحياء الراقية.
ونحو هدف الأسرة التي تسعى إلى تطوير سلوك ومهارات الطفل عطفًا على تقليل ساعات ما يعتبرونه “إزعاجًا”. تصبح الحضانات عبئًا ثقيلًا على المجتمع حسب وصف الخبير التربوي عنتر عبد العال -أستاذ التربية بجامعة سوهاج. الذي لفت إلى إلى أن مناهجها لا فلسفة لها. وإنما تدور في فلك العشوائية دون تركيز على جوانب نفسية لأطفال في مرحلة التكوين. فضلًا عن الجوانب الاجتماعية والمهارات الحياتية والهوية التي من المفترض أخذها في اعتبارات التربية.
معضلة “الحضانات” في مصر تتمثل في المعلمات المشرفات على تعليم الأطفال. وهي حسب رؤية الخبير التربوي “مهنة من لا مهنة لهن”. وذلك نظير استسهال أصحاب الحضانات لمهمة “التربية”. وتفضيلهم مربيات بمعنى “قادرات على إخضاع الأطفال” وكبتهم والسيطرة على تساؤلاتهم وكبح جماح خيالهم.
وهؤلاء الحاصلات على مؤهلات متوسطة وحاملات المؤهلات غير التربوية والتربويات الروتينيات اللاتي يفضلن إمضاء الساعات داخل دور الحضانات في الصراخ. وترك الأطفال أسرى للألعاب البليدة أو الجري في الفناء لا رقيب عليهن –على حد قوله- كما أنهن غير مدركات لقاعدة علمية تؤكد أن ما يزيد على 60% من شخصية الطفل تتشكل خلال هذه المرحلة العمرية.
خطورة غياب المؤهل تربويا
“عبد العال” استنكر سيطرة غير المؤهلات للعملية التربوية على نطاق الحضانات. وقال: “المعلمات في حضانات دولة اليابان غالبيتهن حاصلات على درجتي الماجستير والدكتوراه. لأن المجتمع هناك يدرك جيدًا خطورة هذه المرحلة التي من شأنها حال إهمال الأطفال أن تنتج طفلًا مشوهًا يصير فيما بعد عبئًا على مجتمعه”.
الباحثة في الصحة النفسية -ثناء سيد- حذرت الأسرة المصرية من إلقاء الأطفال إلى ما أسمته “الهاوية”. لافتة إلى أن استعجال الآباء والأمهات لإلحاق الأطفال دون سن الثالثة أو الرابعة بدور الحضانات دون استشارة ومراجعة للمناهج التربوية العلمية يعد جريمة في حق الطفل. غير أن الأسرة في أغلب القرى والمدن تعتبر الحضانة نوعًا من التميز الاجتماعي والرفاهية لغياب الوعي الكامل بمراحلة التنشئة النفسية السوية.
احذروا حضانات التشوه النفسي وقتل الخيال
وأضافت لـ”مصر360″ أن عدم تدريب المعلمات وحرية الحضانات في تدريس مناهج عشوائية يؤثران سلبًا على عقلية الطفل في هذه المرحلة. ويحدثان تشوهات نفسية لا تستطيع الأسرة علاجها فيما بعد. كما أن تركيز معظم الحضانات حاليا ينصب على المظهر دون الالتفات للمضمون.
يأتي ذلك بتكليف الأطفال بواجبات منزلية مكثفة وإهدار قيمة الخيال والسؤال -على حد قولها.
واعتبرت المشرفة النفسية على إحدى الحضانات بـ”الجيزة” أن هذه المرحلة في عمر الطفل هي الأخطر على الإطلاق. محذرة من انسياق الأسر وراء دفع مبالغ طائلة تقتل بها مدارك الطفل لصالح رغبة أصحاب الحضانات في الربح.
مناهج الروتين المدمر
يدخل الطفل إلى الحضانة وبحوزته حقيبة فارغة وعقل محمل بأمنيات العقل الفطري اللا محدودة. يحلم مثلًا بألعاب تشبع رغباته. وهي في الأصل التربوي مساحة ينمو فيها فضوله ويتشكل وجدانه. فيصطدم بغرفة ضيقة بها بضعة ألعاب بلاستيكية لا تصلح للاستعمال. ولأن عقولًا متحجرة تقزم طموحات الأطفال وتتسع لاستغلاله فقط فإن مراجعة أمر كهذا قد يدخل في حيز السخرية.
يعود هذا الطفل الذي ذهب بريئًا لم يلوثه شيء محملًا بواجبات مدرسية وتكليفات حذرت منها كل النظريات النفسية. ودفعت باتجاه خطورتها على شخصية الأطفال من الثالثة حتى سن الخامسة.
ولأن الحضانات في مصر أصبحت “جزرًا منعزلة” حسب وصف الدكتورة شيماء الحديدي -مدرس المناهج التربوية بكلية التربية جامعة سوهاج- فإن دورها اقتصر على إنطاق الأطفال. وذلك لإشباع رغبات أولياء الأمور الراغبين في نطق الطفل أحرفًا إنجليزية أو عربية في وقت مبكر.
هذه الحضانات الخارجة عن الإشراف الرسمي من وزارة التربية والتعليم -حسب الحديدي لـ”مصر360″- والتي تضع مناهجها بحرية تامة وحسب مزاج مؤسسها- صارت مثل كرة لهب تتدحرج لتحرق أسس البناء المجتمعي. دون أن يسألهم أحد: “ماذا تقدمون للأطفال؟”.
منهج مغلف بالدين ضد النظريات النفسية
ونحو هذا الروتين المدمر ورغم أن لكل طفل بيئته وثقافته فإن قطاعًا عريضًا من الحضانات في مصر يتبنى منهجًا يسمى “نور البيان”. وهو المنهج الذي لا يأخذ في حساباته إطلاقًا نظريات نفسية واحتياجات المراحل العمرية الأولى للأطفال.
يتضمن المنهج المغلف دينيًا والذي يقول صاحبه “الشيخ طارق السعيد” إنه مراجع من مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف خطة لتيسير تلاوة القرآن لجميع المراحل العمرية على اختلاف مستوياتهم. إلى جانب استحداثه أسلوبًا جديدًا في التهجي “الهجاء”. وتعتمد فكرته الرئيسية على طريقة تعليم الطفل القراءة والكتابة والتفرقة بين القراءة العامة وقراءة القرآن.
ورغم تحذيرات الدكتور مصطفى أبو سعد -الخبير النفسي- من إخضاع الأطفال في سن مبكرة لطريقة التلقين والتحفيظ التي من شأنها إحداث أثر سلبي نفسي لدى الطفل ونفوره من الحفظ والدراسة فيما بعد. فإن الحضانات تمارس دعايتها لجذب الأطفال تحت لافتة منهج “نور البيان”.
ويستهدف المنهج المخالف للأعراف النفسية التربوية تحفيظ الطفل في سن الحضانة -“3-5” سنوات- أجزاء من القرآن. ضاربًا ثوابت النظرية النفسية في عدم تكليف الطفل بأي واجبات حتى سن السادسة، واكتمال تركيزه الطبيعي، حتى لا يتسبب ذلك في نزعة عدائية للدراسة والكتب.
المنهج الذي يمضي بلا رقيب في “الحضانات” يفرض على الطفل في هذه السن المبكرة دراسة “أحكام التجويد” ومتونه. ويزعم معايشة مراحل الطفولة حتى سن المراهقة.
صراع التعليمي والنفسي
في ضوء ذلك يرد تربويون مشكلات المجتمع المصري المنتشرة بين أبناء الأجيال الحديثة من تدنٍ سلوكي وعزوف عن الذهاب للمدارس إلى أثر الحضانات الذي تعرض له الأطفال في مراحل مبكرة. داعين إلى تبني معايير واضحة الجودة وطرق تدريس تراعي الجوانب العلمية والنفسية ليتشكل وجدان الطفل في بيئة آمنة.
وحذرت الدكتورة أسماء عيسى -الخبيرة النفسية في مراحل الطفولة والمراهقة- من اعتبار الحضانة مجرد شقة يحتجز فيها الأطفال لحين عودة الآباء من أعمالهم. لافتة إلى أنها أهم المراحل في تشكيل وجدان النشء.
بداية الحل
وقالت: “الاعتناء بالتربويين والتربويات خريجات كليات رياض الأطفال هو بداية حل الأزمة”. مستنكرة اعتماد الحضانات على حفنة من غير المؤهلات نفسيًا للتعامل مع الأطفال. وانتقاء مناهج تداعب خيال صاحب المؤسسة فقط.
وأضافت لـ”مصر 360″ أن الأسر ينبغي أن تصر على إقامة ورش عمل ومناقشة داخل الحضانات في المناطق المختلفة. تتضمن حوارًا مفتوحًا مع المعلمات وأصحاب الدور للتعرف على مناهجهم وأفكارهم. على أن تتصدى الأسرة لمناهج التلقين وآليات التكليف وتطمئن تمامًا على وسائل التدريس والألعاب التنموية التربوية.
وحذرت أيضا من الضغط على الأطفال عبر تكليفهم بواجبات منزلية على حساب الأنشطة الترفيهية والتعليمية. مؤكدة أن هذه المناهج التربوية وممارسيها يدمرون الخيال ويجمدون القدرات الإبداعية لدى الأطفال.