كان ذلك منذ ربع قرن أو يزيد حين استفزني حديث شيخ الجامع في منطقتنا عن حرمة التلفزيون وتحريم الكومبيوتر والنت. فانتحيت به عقب الصلاة جانب المسجد الأيمن وقلت: يا مولانا الأدوات لا تُحرم. الحرمة تقع على الأفعال. أنت وكل الدعاة إلى الله تؤمنون بأنكم تستخدمون هذا “الميكرفون” فيما يرضي الله. وهناك آخرون -في رأيكم- يجعلونه في خدمة الشيطان. وكذلك التلفزيون والنت. يحرم فيه كل ما حرَّمه الله ويباح فيه ما أباحه الشرع والعرف وما يقره الخلق القويم.

ضربت للشيخ مثلًا بنفسي وذكرت له أن أغلب عملي بجهاز الكمبيوتر ويقوم على النت، وهو بالنسبة لي مفيد، ويوفر لي أوقاتًا لم تكن توفرها الأدوات الأخرى للمعرفة، مع تسليمي بأن فيه الكثير من الغث، وعليه الكثير من الملاحظات، ويحمل في طياته الكثير من الجهل النشط، فضلًا عما فيه من موبقات.

**

كان الشيخ ينظر لي وهو يتفحص ملامحي الغاضبة مما أسميته ساعتها “فتوى تحريم الأدوات لا الأفعال”، وانتبه لقولي إن الأدوات لا تحرم ولا تحلل، إنما يحرم أو يحلل ما يفعله بها البشر، وأن الدين كما القانون والعرف لا يُحرم على الإنسان أن يستخدم السكين في تحضير طعامه، ولكنهم يُجمعون على تجريم وتحريم استخدام السكين في قتل إنسان، بل في القتل غير الرحيم للحيوان.

انتهى النقاش بيني وبين شيخ الجامع بطريقة تكاد تكون كوميدية حين قال لي: أنت يا مولانا من الخاصة، ولا يحرم عليك استخدام النت أو التليفزيون، ولكنك ربما لا تعرف الكم الهائل من المشاكل التي تصل إلى مسامعي من بيوت خربها النت، وزيجات تسبب في هدمها، وكلها مشاكل تُعرض عليَّ من مرتادي المسجد سواء من الزوجات أو الأزواج، وأكثرها يكون النت هو العامل المشترك بينها، فتخيل أنت كم المشاكل في مجتمع غير المتدينين.

**

كان شيخنا من مشاهير الشيوخ وقتها، وكان معدودًا ضمن أسماء القمة الذين طبقت شهرتهم الآفاق، وكانت الآفاق وقتها يحدها مساحة الجامع الذي يعتلون منبره، وقليل من الصحف التي تنقل عنهم أو تتابع أخبارهم، والمسجد مهما اتسعت مساحته مضافة إلى الساحات المقتطعة من محيط الجامع بالشوارع أو الساحات المجاورة غير المأهولة، فهي لن تتسع لغير بضع مئات لا تزيد على الألف إلا في النادر.

مشاهير الشيوخ كانوا معدودين، وكانت شهرتهم محدودة، تعد بالآلاف حتى ظهرت شرائط الكاسيت، وتكفل الميكروباص بتوسيع دوائر النشر، وإذاعة المحتوى الذي تحمله تسجيلات هذا العدد المحدود من مشاهير العلماء وخطباء المساجد. وكثيرٌ منهم من علماء الأزهر.

بمقاييس السوشيال ميديا اليوم فإن بعض شيوخ الكاسيت كانوا نجوم التريند في أيامهم، ولا شك أن خطيبًا مثل الشيخ عبد الحميد كشك كان من ملوك التريند الصوتي، وكانت خطبه التي يتجمع الألوف كل جمعة لسماعها في مسجد عين الحياة بمنطقة دير الملاك بحي حدائق القبة بالقاهرة تتطرق للحديث في السياسة وتتناول مشاهير الفن والصحافة، وله عبارات ما زالت “تريند” حتى اليوم.

**

من الكاسيت إلى الفضائيات خرج على المشاهدين رفقاء شيخنا الذي كان يحرم التلفزيون والنت، واتجه بعضٌ من تلامذته إلى اليوتيوب فاقتحموا عالمه، وجذبوا إليه عشرات الألوف من متابعيهم وأتباعهم، واقتطعوا مساحة كبيرة من «تورتة» المشاهدات، واحتلوا مواقع مؤثرة في الرأي العام لم تتوفر لمشايخهم الذين تربوا على أيديهم.

مع الفضائيات انتشرت ظاهرة الدعاة الجدد، وملأت الشاشات وجوه مستجدة في عالم الدعوة، والحديث باسم الدين، وفرضت عليهم أدوات ووسائل الدعوة المستجدة أسلوبها، وخضعوا لقوانينها، وأولها قانون السوق الإعلامي، وانتشروا فيها وانتشرت بهم فضائيات كثيرة ملأت مساحات إعلامية واسعة لا تتاح لغيرهم.

ومع انتشار الفضائيات الدينية وقع أكثر المشاهدين في وهم كبير، وخطأ فادح يبدأ بإطلاق صفة “رجل دين” على كل من ارتدى الزي الأزهري، أو جلس على منصة الحديث إلى العوام في أمور دينهم، أو خرج علينا من فضائية من الفضائيات التي راجت في تلك الأيام.

**

الغريب أن مثل هذه الصفة لا وجود لها في الثقافة الإسلامية، وهي صفة أسبغت على بعض الشيوخ، وكثير من طلاب العلم الشرعي “كهنوتية” ليست من الإسلام في شيء.

ولَّى كثير من البسطاء وجوههم شطر كل من هبَّ ودبَّ ليسألوهم في قضايا فقهية، ويستفتونهم في مسائل حياتية، تخرج عن نوعية تخصصات المتصديين للفتوى باسم الدين، ويصل السؤال أحيانا إلى مسائل دنيوية معاشية، لا يفقه فيها المسئول أكثر مما يفقهه السائل.

لم يقتصر على البسطاء، بل تعداهم إلى كثيرين ممن حصلوا على شهادات عليا في تخصصاتهم العلمية أو النظرية، نتيجة لهذا الانفصال الذي وقع بين تدريس العلوم الحديثة وتحصيل العلوم الشرعية، حتى وجدنا دكاترة ومهندسين وأطباء يسألون عن أمور دينهم هؤلاء الذين ارتدوا الجلباب أو أطلقوا لحاهم وحصلوا من علوم الشرع بعض قشورها، أو ساعدتهم حدة ذاكرتهم على حفظ وترديد ما في الكتب كأنهم أسطوانات مدمجة تنطلق في إذاعة ما سطر عليها من مواد فيها الغث وفيها السمين، يرددون ما فيها من دون فهم أو بمفاهيم مغلوطة في كثير من الأحيان.

**

على شاشات الفضائيات رأينا بعضُهم يفتي في الزواج والطلاق كما يفتي في السياسة والاقتصاد، ويتحدث عن المخدرات كما يخوض في علم الحشرات من دون علم ولا تأهيل ولا سلطان مبين، وقليلٌ منهم من يقول: “لا أدري” مع علمهم بمأثور القول الصحيح: “من فقه العالِم أن يقول لا أعلم”، وربما يرددون كثيرا القول المنسوب لبعض الصحابة والتابعين بأن “من قال لا أدرى فقد أفتى”، ولا شك أنه من حسن الفتيا أن يلتزم المستفتي بتعليم السائل بأن المسئول لا يعلم حكم المسألة، فليسأل غيره ممن يتقنها ويحسن الفتيا فيها.

ومن أسفٍ أن بعض هؤلاء الذين تصدروا لسنوات شاشات التلفزة ممن قرأوا في كل شيء، ولم يتسن لهم التعلم على منهجية تعليمية سليمة، وصاروا على الحقيقية لا يتقنون أي شيء، وقليلٌ منهم من يرد نفسه عن الخوض في كل المسائل العلمية المعروضة عليه.

**

كان لي تجربة شخصية مع أحد العلماء الكبار ممن أجلهم، سألته يومًا عن شيء كنت أبحث عن إجابة شافية حوله، فقال لي الرجل بكل تواضع العلماء إذا شئت الحقيقة فهذا الأمر لا يدخل فيما أتقنه، لكني سوف أساعدك على الرجوع إلى ما أظنه يعطيك بعضا مما تبحث عنه، وذكر لي ثلاثة مراجع لكلٍ منها موقف مختلف عن الآخر، وأحدها جمع كل ما قيل حول المسألة.

وأستطيع أن أقرر بكل يقين بأني تعلمت من هذه التجربة ما لم يكن متاحا لي لو أن الشيخ اقتصر على ترديد بعض الجمل المحفوظة التي تتناول الموضوع.

كانت تلك الواقعة ـ وغيرها مع علماء آخرين ـ هي التي كسرت عندي صنمية «الكهنوت» حتى مع من أحببت من هؤلاء الشيوخ والعلماء الذين رفضوا عن علمٍ وعن حسنِ تدين “صنمية ذلك الكهنوت” تحت اسم رجال الدين.

**

العالم ليس بالعمامة ولا بالزي، وليس في الإسلام كهنوت، إنما ابتدعه هؤلاء الذين لا يريدون أن يستخدموا عقولهم فيما خُلقت له، فيجعلون كلام الدعاة بديلا عن تشغيل عقولهم، ويقولون بجرأة على الحق لا مثيل لها: “اربطها في رقبة عالم واطلع منها سالم”، فراجت من يومها صناعة ذلك الكهنوت المقيت.

الكهنوت المرفوض الذي يتمثل في أن تدعي فئة ضيقة من الناس احتكار فهم الدين وتفسيره، ومن ثم احتكروا أو حاولوا احتكار مهمة تقديم الدين (الذي هو مراد الله من العباد) للناس، ووصل هذا الاحتكار ببعضهم إلى محاولة فرض مواقفهم (حتى في السياسة، وفي الانتخابات وفي الموقف من المناورات العسكرية الصينية في مضيق تايوان) يحاولون فرضها على تصرفات وأفكار ومعتقدات الناس حتى تكون بزعمهم موافقة لمراد الله.

جناية مثل هؤلاء المتصدرين للحديث باسم الدين لا تقل عن جناية بعض الذين يخلقون منهم كهنوتا جديدا يُعبد من دون الله، وبعضهم لا يقول رأيا إلا إذا رجع إلى شيخه، حتى لو تعلق الأمر بالعلاقات الاجتماعية، أو بشأنٍ عامٍ لا يُدركه الشيخ، ولا يعرف عنه الداعية إلا القليل الذي لا يُغني ولا يُسمن من جوع.

**

مع الفضائيات ومن بعد مع اقتحام الكثيرين لمواقع التواصل الاجتماعي وعلى رأسها التيك توك والفيس بوك واليوتيوب اختلط حابل العلماء بنابل الجهال، صار الكل يخوض في الدين بالسؤال وبالإجابة، وكما أنك لن تعدم أجوبة تناقض العقل ولا تستقيم مع الفطرة السليمة، ولا تتأسس على علمٍ صحيح، فإنك لن تعدم أسئلة أقل وصف لها أنها ساذجة أو متنطعه.

صديقي الراحل الدكتور وائل عزيز يرحمه الله (وهو الذي جمع بين علوم الشرع والعلوم الحديثة، فحصل على الدكتوراة في الهندسة والحاسب الآلي،  وعلى دكتوراة أخرى في علوم الحديث) كانت له هواية متابعة برامج الإفتاء على القنوات الفضائية المختلفة، وقد كتب شهادته حولها فقال: في أحيان كثيرة تكون الأسئلة المطروحة بعيدة عن تخصص الشيخ الموجه إليه السؤال، ولكنه في كل الأحيان يجيب، بل وبإسهاب وشروح ما أنزل الله بها من سلطان، يعتمد فيها على مهارته اللغوية وقدراته الخطابية أكثر من اعتماده على علمٍ حقيقي أو دراسةٍ متخصصة.

يقول الدكتور وائل عزيز: رأيت شيوخا يجيبون عن أسئلة من نوع: ابني عمره خمس سنوات وهو كثير الحركة ويكسر الأدوات المكتبية ويعتدي بالضرب على أخيه الأكبر، ماذا أفعل معه؟، وسؤال: ابني حصل على مجموع كبير في الثانوية العامة ويريد دخول كلية الحقوق رغم أنه يمكن أن يدخل كلية الطب، بماذا تنصحنا؟، وسؤال: لقد وجدت على تليفون زوجي الخاص رسائل من فتيات بها كلمات غزل ونكات خارجة، ماذا أفعل معه؟، وسؤال: ابنتي فتاة في السادسة عشرة من عمرها وجدتها تدخن وتشاهد مجلات جنسية، ماذا أفعل؟

**

المشكلة التي تتفاقم بمرور الوقت ومع اقتحام هذه النوعيات من المتصدرين للحديث باسم الدين أنه تخلق أجيالًا على هذه الشاكلة، تتحدث في كل شيء بغير علم، وأذكر أني صدمت صدمة كبيرة حين دخل عليَّ في غرفة مكتبي بالمنزل شاب من أبناء الجيران كنت اصطحبه وهو صغير إلى المساجد التي حولنا لصلاة الفجر، وكنت أحببه وهو شاب يافع في أن يكون من هؤلاء الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمن السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله ومن بينهم ذلك الشاب الذي نشأ في عبادة الله.

صدمتي من هذا الشاب الذي طالت لحيته حتى صارت تشبه لحية واحد من مشاهير الفضائيات، وأشهرهم على وسائل التواصل الاجتماعي حاليًا، جاءت قبل أن يجلس، حين رأى كتابا عليه صورة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فنظر إليَّ ممتعضًا، وهو يقول بيقين الواثق المتمكن: “كيف تحتفظ في مكتبتك هذه بأمهات الكتب في العلوم الإسلامية مع كتابٍ يحمل صورة هذا الصنم الذي تعبدونه من دون الله”؟

**

مثل هؤلاء سلَّموا عقولهم لمن سمموها، أو لعبوا فيها كما شاء لهم الجهل والتجهيل، تسألهم عن شيءٍ فيقولون: “يقول الشيخ”، تسألهم وماذا تقول أنت؟ ها أنت سمعت الشيخ فهل أعملت عقلك فيما يقول؟ كأنهم قطعوا عليهم الطريق على أي تفكير، أو كأنهم استبدلوا بعقولهم عقول مشايخهم، بحجة أن الشيخ أفتى، وبالتالي فالموضوع منته، فإذا عرضت عليه رأيًا لعالمٍ آخر مناقضا للرأي الأول يتجاهلونه بحجة أن شيخه من “العلماء الربانيين” وتلك صورة من أسوأ صور الكهنوت المرفوض عقلا وشرعًا.

مصيبة هذا “الكهنوت” أنه يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وصار بعضهم نجومًا بينما توارت نماذج العلماء في كل التخصصات، وتحول دور الداعية الفضائي أو دعاة التيكتوك والفيسبوك من الدعوة والإرشاد وحث الناس على محاسن الأخلاق وتوعيتهم بالقيم الدينية الرفيعة إلى أن صار الواحد منهم في موقع ولي الأمر يقضي في شؤون الناس ويحكم على تصرفاتهم وتحول المشاهدين إلى رعية ومريدين.

**

المصيبة الأكبر “لكهنوت السوشيال ميديا” تتجسد في تكريس إلغاء العقل وتغييب ملكة التفكير، يتشدد بعضهم فيتشدد الناس، ويتساهل بعضهم فيتساهل الناس، ولست أشك في أن هناك حكمة وراء هذه الأخبار التي تتابع عن بعض هؤلاء الدعاة الذين ملأوا الشاشات واقتحموا العقول وتقلبوا بين الرأي ونقيضه، وفضحتهم أعمالُهم التي لا تنسجم مع أقوالهم، وأقوالهم التي لا تنسجم مع العقل السليم، ولعل ما جرى على لسان الشيخ الدكتور مبروك عطية ما يكفي من التوضيح.

ولعلي لا أكون متجاوزا الحق إذا قلت إن تلك الحكمة تريد أن تقول لنا: أسقطوا هذا “الكهنوت”، فلا “كهنوت” في الإسلام، والأصل أنه لا رجال دين في الإسلام، وقبل ذلك وبعده اعملوا عقلكم في كل ما تسمعون، ولو كان القائل صاحب أطول لحية في هذا العصر، أو صاحب أكثر المشاهدات على الفضائيات ومواقع السوشيال ميديا.

**