خلال السنوات الأخيرة من حكم الرئيس مبارك، ازدادت تناقضات النظام وضوحا وتجذرا، فقد تفاقمت مشكلات الفقر والجهل، كما أظهر الإعلام الفروق الطبقية الشديدة بين أصحاب المال والنفوذ وبين الكادحين، فقد توسعت مظاهر الثراء من مراكز تجارية ومجمعات سكنية وقرى سياحية، في الوقت الذي يئن فيه قطاع واسع من الجماهير في العشوائيات من ظلم وتهميش. تراكمت مشكلات المجتمع بالإضافة إلى غياب الأمل والحلم، لتُحمل الشارع المصري بقدر من الطاقة السلبية يزيد بمرور الزمن وتراكم الأزمات، حاول نظام مبارك التنفيس عن تلك الطاقة عن طريق الإعلام والرياضة، وهو ما ساعد بدرجة ما ولكنه لم يكن كافيا.
استطاعت ثورة يناير 2011 أن تحول الطاقة السلبية بالمجتمع إلى طاقة إيجابية، كما فجرت ينابيع جديدة للطاقة الإيجابية بين الشباب الذي آمن بقدرته على الفعل والتغيير، انفجرت الطاقة في مركز الثورة بميدان التحرير ثم اتسعت بعد تنحي مبارك في 11 فبراير، فتوغلت في شوارع وبيوت المصريين، وظهرت في اللجان الشعبية التي تكونت في الأحياء لتحمي السكان ثم عملت في خدمة الأهالي في محاولات لتغطية دور الدولة من نظافة وتجميل وتوفير احتياجاتهم الأساسية، كانت أبرز مؤشرات تلك الطاقة الطوابير أمام اللجان الانتخابية في انتخابات برلمان 2011 وانتخابات الرئاسة 2012، وقد شعر المواطنون لأول مرة بمعنى كونهم مواطنين.
تآكلت تلك الطاقة الإيجابية مع تراجع الثورة ومؤشرات فشل التغيير المنشود، ثم جاءت ثورة 30 يونيو لتقوم بدفعة جديدة من الطاقة، سرعان ما احترقت بعد أن أظهر إعلام النظام الجديد عداءه الشديد لثورة يناير، وقد برزت صراعات وتصاعد خطاب الكراهية والتحريض، ازدادت حدة الطاقات السلبية في المجتمع مع أزمات التعويم والتضخم والديون، كما أدى تراجع حرية التعبير والتمثيل النيابي إلى كبت تلك الطاقة داخل نفوس المواطنين دون حناجرهم.
حاول النظام معالجة أزمة الطاقة السلبية عبر خطابات نشر الإيجابيات والحديث المتواصل عن إنجازات الدولة، ووصل الأمر إلى القبض على مواطنين بتهمة ترويج شائعات بهدف نشر مناخ تشاؤمي، كما اعتبر النظام المشروعات القومية فرصة لرفع الروح المعنوية للمواطنين، لإثبات قدرة الدولة على البناء ومواجهة التحديات، كما صرح الرئيس في تعليقه على مشروع “قناة السويس الجديدة”، وقد فشلت تلك الخطة أيضا فلم تفلح محاولات اقحام الطاقة الإيجابية في عقل المواطن، بينما يواجه مصاعب حياتية قادرة على تقويض كل تلك المحاولات.
تتضح مظاهر الطاقة السلبية في المجتمع بتزايد العنف المجتمعي، والعزوف عن المشاركة في كل ما يخص العمل العام، والامتناع عن الحديث بالشأن العام، والاكتفاء بمجرد الشكوى المتكررة من الظروف الاقتصادية، تعتبر مشكلات العنف المجتمعي وارتفاع معدلات الجريمة مؤشرا خطيرا أيضا، كما تشهد ملايين طلبات الهجرة التي يتقدم بها المصريون سنويا لجميع سفارات العالم بذلك، يكفي أن نعرف أن مصر تحتل المركز الأول عالميا في طلبات الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
شاهدنا خلال الفترة الماضية جرائم عنف شديدة القسوة مما لم نعتد السماع عنها، بالرغم من شدة القبضة الأمنية، بالإضافة إلى تزايد معدلات الانتحار وانتشار لتعاطي المواد المخدرة على جميع المستويات والأعمار، وأنواع أكثر شدة وخطورة من المخدرات التي تدفع المتعاطين إلى التنفيس عن طاقتهم السلبية دون وعي.
مع تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الشعب المصري وتتسبب في تزايد معدلات الفقر والبطالة والشعور بالعوز والعجز ليولد مزيدا من الطاقة السلبية، وهي أخطر ما يواجه المجتمع في هذه اللحظة.
أتمنى أن تكون طاولة الحوار الوطني فرصة لاستيعاب الطاقات السلبية لدى المجتمع، ونبع أمل جديد يخلق طاقة إيجابية قد تساعد الشارع المصري على تجاوز تبعات الأزمة الحالية، رغم أن النظام كان سببا رئيسيا في كبت الطاقة الإيجابية التي فجرتها ثورة يناير بسبب عدائه للثورة، كما أنه لم يستطع الاستفادة من الطاقة التي منحتها ثورة 30 يونيو، وجاء خطاب النظام وخطواته التنفيذية يحمل هجوما واضحا على الشعب المصري، مرة بحجة الزيادة السكانية ومرة بحجة الإنفاق الزائد ومرات بحجة عدم الإنتاج وغياب الوعي، يأتي كل ذلك مع كبت واضح لحق الشعب في الرد على الخطاب الإعلامي الموجه.
يجب أن نعترف بتراجع حدة الهجوم الإعلامي على ثورة يناير والمعارضين والشعب المصري ككل، ولكن هذا غير كاف وحده، بل يحتاج المجتمع الى مساحات واسعة للتعبير، وحياة سياسية تعتمد مبادئ الديمقراطية، تستوعب طاقات الشباب ورغبة المجتمع في التغيير، وتفتح نوافذ للأمل.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا