أحاول هنا مقاربة ظاهرة المراكز (السناتر) التي لم تعد تعليمًا موازيًا كما كانت في أول أمرها، وإنما باتت هي الــ”تعليم” بعد أن تلاشى تمامًا (أو يكاد) دور المدرسة التي باتت وظيفتها شكلية خالصة، من حيث اعتماد أوراق انتساب الطلاب إليها، وتنظيم الامتحانات لهم، ثم منحهم –نهاية العام- شهادة موقّعة من الإدارة وعليها ختم شعار الجمهورية.

ربما يكون الوقت مناسبًا لطرح الأفكار التي تتعلق بالتعليم، وما ينبغي علينا القيام به، خاصة بعد التغيير الوزراي، واستبشار أولياء الأمور بتولي أحد المعلمين السابقين حقيبة التعليم، وصحيح أننا لا نعرف نوع المهام التي كُلِّف بها الوزير الجديد الدكتور “رضا حجازي”، ولكن لا بأس من الكلام ومن طرح الأفكار.

من المهم هنا أن نشير إلى أنّ ظاهرة السناتر ليست من صنع النظام الحالي، وإن كانت قد استفحلت في عهده واكتسبت حضورًا واسعًا حتى أصبحت هي “التعليم البديل”، وأنت تعلم أن بعض هذه المراكز تبدأ نشاطها مع أول أغسطس، أي قبل أكثر من شهر ونصف من البداية الرسمية للعام الدراسي.. ورغم كثرة الحديث عن عيوب هذه المراكز إلا أننا لا نجد ما يفيد قرب انتهائها أو حتى مقاومتها… وهنا يكون السؤال: لماذا؟

بعض المنشغلين بقضية التعليم يرى أن ظاهرة المراكز أدت إلى تفريغ المدارس من الطلاب، ولكن في المقابل يرى آخرون أنها مجرد نتيجة للمدارس التي هجرها طلابها بسبب عجزها عن تقديم خدمة مقبولة لهم، ويعود ذلك بالتأكيد إلى الزيادة السكانية المستمرة، وعجز الدولة عن بناء مدارس تستوعب هذه الزيادة المضطردة.

وهناك كلام كثير حول دور الإدارة (المعلمين خاصة) في تفريغ المدارس من طلابها، والذهاب بهم إلى هذه السناتر نظرا للعائد المادي الكبير الذي يحصلون عليه والذي لا يقارن بطبيعة الحال بضعف رواتب المعلمين.. وهذا كلام يبدو وجيهًا من زاوية، ولكنك لو نظرت إليه من زاوية عملية، لوجدت أن السناتر قد وجدت نتيجة لضعف المدارس وعجزها عن استيعاب جميع الطلاب في المراحل المختلفة، فالتكدس في المدارس ظاهرة لا تحتاج إلى دليل، فكما هو معلن، لدينا فصول دراسية تتجاوز في الأماكن الشعبية والريفية المزدحمة في الوداي والدلتا المائة طالب، وهذا لا يعني عجز الفصول عن استيعابهم فحسب، وإنما يعني عجز الإدارة كلها عن التعامل مع هذه الأعداد داخل فضاء المدرسة، وما يتطلبه ذلك من توجيه هذه الطاقات وتوزيعها على الأنشطة المدرسية المختلفة، وهي أنشطة لم تعد موجودة، أو موجودة ولكنها تعاني عجزًا كبيرًا، وهذا يعني أن لدينا طاقات بشرية هائلة، لا تعرف المدرسة كيف تديرها، فضلا عن توفير المقاعد الكافية، وأنت تدرك بالتأكيد ما يترتب على هذا كله من اضطرابات أمنية تتصل بما بين هؤلاء الطلاب المزدحمين من مشاكل أمنية تلقي مزيدًا من العبء على جهاز الأمن.

لقد كانت المراكز بديلًا ارتاح إليه الجميع: المعلمون من ناحية، وأولياء الأمور والطلاب من ناحية ثانية، والإدارة التعليمية من ناحية أخيرة، صحيح أن المراكز “السناتر” تعاني الازدحام نفسه، ولكنها مؤسسات حرة، يأتيها الطالب طائعًا، ليقضي فيها ساعة أو ساعتين يتلقى فيها دروسه في هذه المادة أو تلك (بنظام المحاضرات وليس الحصص)، وبعدها يعود إلى بيته.. إنها مكان يختار فيه الطالب المعلم الذي يقدم له المادة، وهذا بخلاف معلم المدرسة أو (الفصل) الي يُفرض عليه فرضًا نتيجة توزيع الجداول داخل المدرسة، ومقدار الأنصبة المعتمدة لكل معلم حسب درجته.. بما يعني أن الطالب لو جلس في هذا الفصل الضيق الذي يفيض عن طلابه أو يفيض عنه طلابه، فإنه غالبًا سيجد نفسه أمام معلم قد لا يكون هو الأفضل بالنسبة لديه، وفي ظل التنافس الكبير على التعليم والرغبة في تحصيل الدرجات (أو التقفيل) لن يكون معلم الفصل اختيارا مقبولا بالنسبة للطلاب..!

المعلم السوبر

لقد باتت المراكز (السناتر) الآن مؤسسة كاملة، من حيث الإدارة التي تتحكم فيها وتنظم مواعيدها وتوفر لها المعلمين المشهورين الذين تقوم بالدعاية لهم، ولعلك تتذكر في بداية الألفية هذه الإعلانات التي كنا نجدها على الجدران المختلفة من قبيل: الأستاذ فلان.. إمبراطور اللغة الإنجليزية، وفلان سيبويه اللغة العربية، أو فلان أينشاتين الفيزياء… إلخ. كانت هذه الدعاية بداية لتحول المعلم من قيمة إلى سلعة، بقدر ما كانت بداية لتقديم الحلّ بعيدًا عن المدرسة المزدحمة بطلابها، والعاجزة عن ممارسة دورها التربويّ الأصيل بسبب هذا الازدحام، كانت السناتر هي الفضاء الذي يوفر القاعات الواسعة، ويقدم المعلومة لمئات الطلاب بعيدًا عن أي ادعاءات تربوية؛ فالسناتر يقتصر دورها على هذه الساعة مدفوعة الأجر التي يقضيها الطالب في هذا المكان فحسب… فلا وقت  هنا لفكرة الأنشطة أو اكتشاف الموهبة، أو الحاجة إلى أخصائي نفسي أو اجتماعي… كل هذه الوظائف والمهام تخلت عنها المدرسة بحكم العجز، وتخلت عنها السناتر بحكم أنها ليست من اختصاصها.

لقد تحول التعليم مع السناتر إلى سلعة، ودعنا نُقرّ بأن التعليم سلعة، أو بتعبير أدق استثمار في المستقبل، ولكنه رغم ذلك ظلّ –عقودًا طويلة- محتفظًا بمنظومة من القيم الأخلاقية والاجتماعية المهمة، ليس باعتبارها فضلة يمكن الاستغناء عنها، وإنما باعتبارها جزءًا أصيلا من العملية التعليمية نفسها؛ فالطالب في المدرسة لا يتلقى المعارف المحضة فحسب، وإنما يتلقى معها مجموعة القيم الاجتماعية التي تُميز هذا المجتمع أو تُشكِّل الهوية الجماعية والجمالية لأمة من الأمم، بالإضافة إلى قيم التعليم المباشرة: كالحرص على الأمانة والدقة، والطريقة التي يخاطب بها الطالب معلمه، والطريقة التي يخاطب بها الزميل زميله… إلخ

وهذه القيم بالتأكيد لا يهتم بها عالم “السناتر” وإنما تهتم بها المدرسة، أو لنقل: إنها جزء لا يتجزأ من وظيفتها، فالمدرسة لم تكن في أي وقت مجرد مكان لجمع المعلومات أو الحصول على الشهادة.. وإنما هي بالأساس مكان لبناء الشخصية الإنسانية، واكتشاف مواهبها ومهاراتها ثم العمل على تطوير تلك المهارات، وهذا ما يجعل المدرسة مكانًا حيًّا يحمل ذكريات حقيقية في عقول طلابها وقلوبهم، إنهم ينتمون إلى ذلك المكان الذي هداهم إلى ذواتهم، واستخرج منهم مواهبهم، ودلّهم إلى طريق المستقبل، وهذا الانتماء إلى المكان الصغير (المدرسة) له مردوده المباشر في الانتماء إلى المكان الكبير الذي هو (الوطن)..

المدارس الشاغرة

بالتأكيد أنت تدرك قيمة المدارس، وأن المعادلة السابقة: سناتر مزحمة مقابل مدارس شاغرة ليست في صالح أبنائنا ولا في صالح المدرسة ولا حتى في صالح الأمن، فكثير من الجرائم المتوحشة التي سمعنا بها في الأيام الماضية ربما تعود في جانب منها إلى مرور أكثر من عشرين عامًا على المدارس الشاغرة، وهذا يعني أنّ لدينا جيلًا كاملًا -أو أكثر- لم يذهب إلى المدارس، ولم تتكون مواهبه داخل هذا النظام العام، وإنما تشكلت ونمت على نحو عشوائي، فهم يفتقدون إلى مهارات التواصل والتحاور وما يتصل بهما من قيم التفاوض الاجتماعي التي يتعلم فيها الطالب كيف يوازن بين ما يريد وبين حق الآخرين في الاعتراض أو الرفض..!

لدينا جيل كامل –أو أكثر- لم تتبلور شخصيته الاجتماعية في فضاء الزمالة الطبيعية داخل المدرسة، ولم يمارس أنشطة جماعية، يدرك فيها بالخبرة والتراكم أنه جزء من كل، وأنَّ مشاعره تجاه غيره لا قيمة لها بمعزل عن مشاعر الآخر تجاهه… لقد كانت الجرائم الأخيرة ضاغطة ليست على الأمن وحده، وإنما على أعصاب المجتمع كله، لقد أوجدت حالة من الخوف العام من هؤلاء الأبناء، كما أوجدت حالة من الخوف العام عليهم.

الطالب الذي أصبح زبونًا..!

لقد ملأت “السناتر” الفراغ الذي تركته المدرسة من زاوية واحدة، هي زاوية تحصيل المعرفة، ولكنها بالتأكيد لا تقدم أي شيء آخر، فعلى أعتاب السناتر بات المعلم سلعة بالنسبة إلى التلميذ وإلى أولياء الأمور، وبالقدر نفسه بات التلميذ سلعة بالنسبة للمعلم.. هناك خدمة يقدمها المعلم وهناك طالب يدفع مقابلًا لهذه الخدمة وانتهى الأمر.. لقد بات الطالب زبونًا.. وهناك فرق كبير بين الطالب والزبون، فالطالب علاقته بأستاذه علاقة إنسانية، أعمق من مجرد تقديم المادة العلمية، كثير من المعلمين في فترات سابقة كانوا قريبين من طلابهم، ويعرفون الكثير عن ظروفهم الاجتماعية والنفسية، إنهم يعرفونهم بالاسم، ويدركون ظروفهم ويحاولون علاجها بطريقة أو أخرى، وقد تستدعي المدرسة أحد أولياء الأمور لتعرف منه أكثر، ولتطلب منه التعاون معها في هذه المشكلة أو تلك التي تخص ابنه..!

هنا كان المعلم مربيًا وصديقًا، وبعض المعلمين تخطى هذا الدور وبات أقرب إلى القدوة الروحية لطلابه… لا يمكننا مقارنة هذا الواقع بعالم السناتر الذي لا يعرف أسماء طلابه، بقدر ما يعرف عددهم، إنهم -بالنسبة إليه- أرقام تتصل بشكل مباشر بحصيلة البيع والشراء في نهاية اليوم الدراسي أو نهاية كل شهر حسب طريقة الدفع والتحصيل..!!

الخلاصة:

ما أخلص إليه، أن السناتر لم توجد من فراغ، وإنما هناك أسباب أوجدتها، ورغم كل انتقادنا لها إلا أنها تقوم بدور أساسي في تلصيم العملية التعليمية وترميمها.. ورغم ذلك، فإن استمرار هذه السناتر خطر كبير على المجتمع، خطر على أمنه وسلامته، بقدر ما هي خطر على مستقبله وقيمه.. وهذا يعني أنَّ استمرارَ معادلة المدارس الفارغة والسناتر البديل أمر صعب جدا، وتكلفته أعلى مما يمكن لمجتمعنا أن يتحمله.. وهذا يعني أخيرًا، أن ملف التعليم يجب أن يوضع قبل جميع الملفات، وأن تتعاون فيه أكثر من وزارة، بل وأن يفتح الباب على مصراعيه لمشاركة المجتمع المدني..!

للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا