بعد 24 ساعة من خبر الاعتداء على الكاتب البريطاني سلمان رشدي، أفادت وكالات الأنباء العالمية بأن جسده متصل بالأنابيب في العناية المركزة. في تلك اللحظات لم يكن أحد يعرف هل سيحتمل جسد الشيخ ذي الـ 75 عاما طعنتين في الرقبة والبطن أم لا! بينما قالوا إن الشاب الذي طعن الكاتب اسمه هادي مطر من أصل لبناني ويعيش في ولاية نيوجيرسي، ويبلغ من العمر 24 عاما.. أي أنه من مواليد عام 1998. أي أنه ولد بعد صدور رواية “آيات شيطانية” بحوالي 10 سنوات. وقال البعض إنهم يشكون في أن هذا الشاب قد قرأ الرواية. وربما يكون قد قرأها ولكن بواسطة وبمساعدة وبتوجيه الشخص أو الأشخاص الذين أشرفوا على تجنيده وتربيته من صغره كحامل رسالة كونية لتنفيذ حكم إعدام. وهذه الطريقة كانت متبعة في حرب الاستخبارات بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة إبان الحرب الباردة. ومن يريد أن يطلع على جوانب هذه الحرب فعليه أن يشاهد مسلسل “الأمريكيون” المكون من 75 حلقة موزعين على 6 مواسم. وهناك أفلام ومسلسلات كثيرة أخرى تكشف عن آليات تلك الحرب، وبالذات في تربية وتجنيد وتوطين فرق الاغتيالات وعمليات التخريب النوعية وسرقة الأسرار العلمية والتقنية.
الشاب هادي مطر ولد قبل أربعة وعشرين عاما لتهبه أسرته إلى العدم، وتهندس رأسه ووجدانه وتبرمج عقله على عملية قتل مقدسة. وخلال 24 عاما لم ينتبه الشاب ولو للحظة واحدة على ما يتم تلقينه له. لكن على العكس، يبدو أنه كان مستعدا لدخول الجنة. وإذا لجأنا إلى الأسطورة أو الخيال قليلا، فمن الممكن أن يكون هادي مطر لا علاقة له بأسرته التي يعيش معها أصلا، وإنما قد تم جلبه وتوطينه، أو خطفه منذ الصغر من أبويه الأصليين أو إرسال أسرة ما إلى أمريكا لتبدأ الحياة بشكل طبيعي ثم تنجب ابنا يتم تجنيده وبرمجته ليصبح قاتلا. ربما نعرف تفاصيل إضافية قريبا عن حياة الشاب ذي الأربعة وعشرين عاما الذي تقدم بقلب بارد ليطعن شيخا كاتبا في سن الخامسة والسبعين لم يفعل له شيئا ولم يمد يده له بأي أذى، بل لا يعرفه أصلا ولم يسمع عنه ولم يفكر لحظة في أنه موجودة في هذه الحياة الرائعة التي ينبغي أن يعم فيها الخير والحب والجمال.
تداول الأصدقاء الكثير من المعلومات المهمة حول فتوى الإمام الخوميني بإباحة دم سلمان رشدي. لكن أقرب الروايات للواقع، والتي ذكرها الصديق سيد كراوية، كانت تدور حول أن الخوميني في قراءته الأول للملخص الذي قدموه له عن رواية “آيات شيطانية”، قال إن “العالم كان دائما مليئا بالمجانين الذين يقولون مثل هذا الهراء، وهذه الرواية لا تستحق حتى الرد عليها”. ونشرت الصحافة الإيرانية هذا التعليق في 2 فبراير عام 1989. لكن الإمام غير رأيه فجأة، وأعلن عن فتوى بإباحة دم سلمان رشدي في 14 فبراير من نفس العام. في الواقع، كان يوم 14 فبراير هو تاريخ انسحاب القوات السوفيتية من أفغانستان. وكان هذا العام تحديدا مشحونا بالأحداث والأخبار الكارثية بشأن تفكيك حلف وارسو وهدم سور برلين وتراجع هيبة الاتحاد السوفيتي الذي سيتفكك هو الآخر بعد أقل من عامين. غير أن انسحاب القوات السوفيتية من أفغانستان كان يمثل انتصارا مدويا للمملكة العربية السعودية التي كانت تقود الحرب عمليا في أفغانستان كرأس حربة للولايات المتحدة والغرب عموما. وفي الوقت نفسه كان الخوميني الذي انتهى لتوه من حرب السنوات العشر مع العراق قد خرج بقواته من هناك. وحسب التقديرات المتداولة فقد خسر الإمام ما يقرب من مليوني شخص و150 مليار دولار في تلك الحرب التي انتهت بشكل رمادي غير محسوم. وكانت كفتها تميل نحو قوات صدام حسين. ولذلك فقد كانت هناك أنباء عن شعور ما بالهزيمة في إيران، وتقلبات غير محمودة العواقب في الداخل الإيراني لأسباب كثيرة، من بينها الشعور بالهزيمة وتبعات الحرب الاقتصادية والمعيشية، والمذابح والانتهاكات ضد المعارضة السياسية والدينية. بينما انتشرت المظاهرات أيضا وحصار السفارات الغربية في باكستان المجاورة احتجاجا على نشر رواية “آيات شيطانية”. وهنا بدأت الآلة السياسية- الدينية تعمل في اتجاه استثمار الموقف للتعتيم على ما يجري ومحاولة رأب الصدع وتفادي أي تحولات مفاجئة. وتفتق ذهن الخوميني عن إعلان إهدار دم سلمان رشدي بعد يومين من مظاهرات باكستان، ورصد مكافأة تقدر بمليون دولار لمن يقتله، والإفتاء طبعا بأنه سيكون شهيدا في حالة موته قتل أثناء تنفيذ العملية. وخرج الخوميني رابحا، فلم يتذكر أحد يوم خروج السوفييت من أفغانستان، وصار حديث تكفير رشدي وإهدار دمه بفتوى الخوميني حديث العالم! وفي الحقيقة، ليس هذا هو الموضوع الذي يمكنه أن يشغلنا في عشرينيات القرن الواحد والعشرين، حيث يتحرك العالم نحو اكتشاف حركة الكون قبل 14 مليار سنة، لكنه يصلح مدخلا لجملة من المعايير الإنسانية الحديثة في مواجهة الجهل والعنف والتضليل من جهة، ومدخلا لعالم سلمان رشدي الذي يقف في مواجهة الجهل والعنف والتضليل كأحد مكونات تقاليده الفنية والسردية.
العالم الروائي لسلمان رشدي
صدرت رواية “كيخوتة” للكاتب البريطاني سلمان رشدي في أغسطس 2019، وكانت الرواية الـ 12 من حيث العدد. وقالوا عنها في بروتوكول إحدى المسابقات إنها “تكسر الحواجز بين التخييل الروائي والسخرية”. ولكن عالم سلمان رشدي الروائي أوسع بكثير من هذا التوصيف المهم أيضا. فرواية “أطفال منتصف الليل” التي فازت بالبوكر عام 1981 والتي قيل عنها أنها واحدة من أعظم الروايات على مر العصور، تقف جنبا إلى جنب مع رواية “الحرب والسلام” للكاتب الروسي ليف تولستوي التي صنفتها أيضا صحيفة “نيوزويك” الأمريكية بأنها واحدة من أعظم الروايات في كل العصور. وفي الواقع ينطوي العالم الروائي لسلمان رشدي على جملة من السمات المميزة التي تتراوح بين تقاليد السيرة الذاتية، وتناول عالم المهمشين بكل فئاته العمرية، إلى صياغات الواقعية السحرية التي تمثل بوتقة خصبة لتفاعلات العالم الفني لدى سلمان رشدي.
وربما اكتسبت أعمال رشدي كما في “العار” أو في روايته الأخيرة “كيخوته” أو حتى في “أطفال منتصف الليل”، جانبا من تقاليد السرد الملحمي الذي يصور مصائر البشر وقصص الحب والمعاناة والمصائر التراجيدية على خلفية التحولات السياسية والتاريخية. ولا شك أن العالم يقرأ سلمان رشدي باهتمام شديد لاعتبارات كثيرة ليس بينها إطلاقا أي شيء مرتبط بالدين ولا بالأساطير التي تحاك عنه في شرقنا العربي، فهو الباكستاني- الكشميري المولود في الهند والمواطن البريطاني الحاصل على لقب “سير”. الأمر الذي يعكس ثقافة غنية ومتنوعة وعريقة من جهة، ويمنح أعماله تلك التلوينات السردية شكلا وموضوعا من جهة أخرى. إضافة إلى الخيال الثري والجموح بكل درجاتهما وتموجاتهما من جهة ثالثة. وهنا يمكن أن نضيف النزعة الحادة والساخرة في أعمال رشدي، خاصة عندما يتناول وسائل الإعلام وحجم الجهل والتضليل الذي تعيش فيه وتصنعه في آن معا، وعندما يتناول أنظمة الحكم في العالم من غربه إلى شرقه ويسلط مشرطه الفني لتشريح أبعد وأعمق وأحط المناطق السوداء في تصرفاتها وفي أرواح موظفيها ورؤسائها. الأمر الذي يذكرنا بسخرية ميلان كونديرا الحادة في رواية “البطء” وبكشوفات أومبيرتو إيكو في رواية “العدد صفر”.
في الواقع، يمكن اكتشاف أن النظرة الأحادية والمعايير المزدوجة لا تؤثران إلا على أصحابهما. إذ إن العالم يتحرك إلى الأمام ويبقى أصحاب النظرة الأحادية والمعايير المزدوجة محلك سر ينوحون على حالهم ويعيشون الماضي ويمتشقون سيوفهم من أجل الدين أو العرق أو الثأر. وبالتالي، فمنذ أن أصدر الإمام الخوميني “فتواه” المرعبة بقتل الكاتب سلمان رشدي، نظر إليه المثقفون والنقاد العرب نظرة فيها قدر من الاستخفاف، خاصة وأنه علق بأدمغتهم أنه روائي ضعيف أتت شهرته من رواية “آيات شيطانية” التي أثارت ضده كل النعرات الدينية المتطرفة، سواء في إيران أو في العديد من الدول العربية والإسلامية. وكثيرا ما تردد على ألسنة النقاد والمثقفين العرب أنه روائي لا يرقى إلى مستوى الروائيين والأدباء الغربيين الذين يدمن عليهم النقاد العرب ويفضلون الحديث عنهم.
وبطبيعة الحال، استطاع النقاد والمثقفون العرب نسج أساطير سلبية حول شخصية الرجل وحول أدبه ضمن تنظيراتهم “العمومية” و”التعميمية” النابعة من تقاليدهم العتيقة وثقافتهم “المركونة” ووضعوها في سياقات هزيلة للغاية. لكن سلمان رشدي أديب كبير ومثقف رفيع يقف إلى جانب كتاب ومثقفين وروائيين كبار من طراز أومبيرتو إيكو على سبيل المثال وإن كانت سياقات عالم كل منهما وتقاليد الكتابة لدى كل منهما تختلف عن الآخر.
قواقع الماضي وأوهام المستقبل
بمجرد أن ذاع خبر محاولة اغتيال سلمان رشدي، ظهر مقال مهم كتبه المفكر صادق جلال العظم عام 1992. وبتداول المقال، بدت حركة النخب في وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي على طبيعتها الماضوية المعروفة لنا جيدا. فقد ذهب كل منهم إلى “الماضي” ليستنبط الدلالات ويستشرف الدروس والعبّر. مع العلم بأن مقال صادق جلال العظم مقال جيد ومهم ويسلط الضوء على مشاكل أيديولوجية ومعرفية لدى النخب العربية، من كتابها إلى مفكريها، بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم الفكرية والأيديولوجية. فهناك بالفعل مشاكل بنيوية ليس فقط في المنهج، وإنما أيضا في العقل نفسه، أي في المنشأ وفي الـ “هاردوير”. ومع ذلك فلكي نكون أكثر شفافية وحرصا على المعرفة، يجب أن نفرق بين ما قاله رجاء النقاش ونصر حامد أبو زيد ونجيب محفوظ وهادي العلوي وغيرهم وبين الحض على القتل والتحريض على الثأر وإراقة الدماء أو الدعوة للنزال ولتجهيز السيوف لتسليمها إلى خالد بن الوليد فور ظهوره في منتصف تسعينيات القرن العشرين في قصيدة فاروق جويدة بعنوان “إلى سلمان رشدي”!
إن كلام نجيب محفوظ مهم، قبل قراءة الرواية وبعد قراءتها، ولا يوجد فيه أي تناقض أو شبهة عنف أو تحريض أو حض على القتل وإراقة الدماء. وكلام نصر حامد أبو زيد ورجاء النقاش يسير في نفس اتجاه “الحماسة” و”فورة الغضب” لكنه خال تماما وبشكل مطلق من أي شبهة عنف. أما كلام المفكر العراقي هادي العلوي فهو نابع من عملية استقطاب أيديولوجي في تلك الفترة، سواء إبان صدور الرواية عام 1988، وكان الاتحاد السوفيتي بكل مساوئه واستقطاباته وخيباته وضلالاته موجودا ولديه من العشاق العرب ملايين حتى بدون أن يعرفوا جرائم هذا “الطوطم” بحق العرب وبحق الفلسطينيين وبحق أتباعه الذي كان يتعامل معهم مثل القطعان، رغم شفافيتهم وحسن نواياهم وإخلاصهم، أو سواء في منتصف التسعينيات عندما كانت موجة “آيات شيطانية” تعلو وتنخفض وفقا لترمومتر السياسة والتلاعب بالشعوب وبالنخب..
قد يكون من المفيد عدم الغرق والاستغراق في مناقشة الماضي كالعادة. وإنما البحث عن نقاط تماس على الأقل بين موضوع سلمان رشدي و”آياته الشيطانية” وبين الحاضر. وقد يسعفنا العقل الراجح أو النوايا الطيبة في إيجاد تماسات مع المستقبل. فسلمان رشدي ليس الآيات الشيطانية فقط، بل 12 رواية من أهم الروايات في الأدب الحديث والمعاصر. وإذا كنا نحن في غاية الانشغال به على المستوى الديني والطائفي والعقائدي و”الشيطاني” فالعالم كله مشغول به ككاتب وأديب ومفكر لديه عالمه الفني والجمالي والإبداعي وتقاليده في الكتابة.
هناك خلل بنيوي ومعرفي ووجودي في العقل العربي ككل، وفي عقول النخب المعزولة التي تعتاش إما على السرقة والنهب الثقافيين والمعرفيين والعلميين أو في أحسن الأحوال على النقل والاقتباس غير المنهجيين وغير العلميين. وفي كل الأحوال لا يمكن أن يؤدي النهب والسرقة والاقتباس إلى أي نتائج أو أي تطوير من دون استخدام كل قدرات العقل وطاقاته. فالنخب المذكورة في مقال صادق جلال العظم فد تكون صادمة في آرائها بمعايير الوقت الراهن. لكن علينا أن نقرأ بعينين اثنتين لا بربع عين أو بنصف عين أو بعين واحدة حتى لا نظلم أنفسنا ونظلم الآخرين ونحارب طواحين الهواء ونظل ننوِّح ونبكي طوال الوقت ونعود لسكن كهوف الماضي استعدادا للمعركة الوهمية المقبلة. لقد وقفت آراؤهم آنذاك عند حدود وجهة النظر والرأي والذائقة، ولم يتطرق أي منهم إلى أي شبهة عنف. وهم بالفعل تعاملوا باستسهال واستخفاف واستعلاء مع العمل الأدبي “آيات شيطانية” لسلمان رشدي، وهذه مشكلتهم كأفراد، وكنخب، وكمبدعين.. وهي أيضا مشكلة النقد والنقاد في منطقتنا المنكوبة بنخبها وبناسها وبأنظمتها السياسية. ولكن علينا أن نميِّز جيدا بين الرأي ووجهة النظر والاستسهال والاستعلاء أو السير مع الموجة وبين التحريض على القتل وإراقة الدماء، مثلما ورد في قصيدة فاروق جويدة التي نشرتها صحيفة الأهرام الغراء، وهي صحيفة الدولة رقم 1، وكان التلاميذ ينشدونها في المدارس، ويتداولها طلاب الجامعات كتميمة أيديولوجية ومعجزة معرفية ستفتحان الطريق أمام الأمة الإسلامية نحو التحرر والتقدم والوحدة وقيادة العالم.
هذه ليست دعوة للتعتيم على ما جاء في مقال صادق جلال العظم، لأن المقال مهم فعلا ويستحق أن نستشف ما به من دروس، ولكنها دعوة مخلصة وصادقة لوضع الأمور في سياقاتها الطبيعية ومناقشتها من دون خلط أو شماتة أو “استعلاء” أو إدانة، إذ إن الإدانة فقط للتحريض على القتل وسفك الدماء وممارسة العنف ضد الآخر أيا كان، خاصة وأننا نتحدث عن مجالات إبداعية وفكرية ومعرفية وإنسانية عامة. وبالتالي، فليس من المجدي إطلاقا الوقوف عند حدود انتقاد تلك الأسماء الواردة في المقال، والشماتة في من تكررت معهم نفس أحداث سلمان رشدي، وألا نقف عند حدود النواح ومصمصة الشفاة أو توجيه نظرات الخبث والاستعلاء، بل من المهم إسقاط كل هذا الحدث بما يحيط به من ملابسات على واقعنا الآني لكي نتعلم الدرس جيدا، ونرتدي فعلا عقول الفرسان لنواجه الغثاثة والانتهازية والرداءة والقبح والعنف أيا كان مصدره ومبرراته، وألا نستخدم حادثة سلمان رشدي ومقال صادق جلال العظم للتبرير مجددا، سواء كان هذا التبرير لأنظمة قائمة حاليا أو لأوضاع سياسية وثقافية وعلمية متردية ووضيعة تسحقنا وتتلاعب بنا وبعقولنا وبأرزاقنا وبمستقبل أولادنا.