كان يحلو للرئيس “أنور السادات” في آخر سنوات حكمه أن يصف نائب رئيس مجلس الوزراء للشئون الاقتصادية ووزير التخطيط والمالية والاقتصاد الدكتور “عبد الرزاق عبد المجيد” بأنه “إيرهارد-مصر”، حيث قال رحمة الله عليه في خطابه الذي ألقاه باجتماعٍ مع هيئة التدريس في جامعة الإسكندرية في 16 مايو/أيار 1981 ما نَصُه: “أنا مِبتدى من هذه السنة تحدي من الباب الواسع فيه الـ50 ألف فدان، وإسكندراني من عندكم من هنا هو الدكتور عبد الرزاق عبد المجيد غالبًا ما سيسمونه في وقت من الأوقات إيرهارد بتاع مصر. إنتم فاكرين إيرهارد بتاع ألمانيا الذي غير وجه اقتصاديات ألمانيا”. كانت تلك أول مرة أسمع فيها اسم “إيرهارد” وقد كنت حينها طالبًا بالجامعة، فبدأت بحثي عن هذا الرجل سعيًا لمعرفةِ ما يعيه الكبار عن إيرهارد “الأصلي” الذي وصف الرئيس السادات وزيره بأنه النسخة المصرية منه. (خروج محدود عن النص لكن الشيء بالشيء يُذكر، كان للدكتور عبد الرزاق عليه رحمة الله نوادر تُحكى، أتذكر منها أنه صَرَحَ ذات مرة بإحدى جلسات مجلس الشعب أن على مصر أن تتخلص من 4 ملايين حمار لأنها تستهلك مليون وخمسمائة ألف فدان من البرسيم، وأن مصر أولى بتلك الفدادين، وقد نتج جراء هذا التصريح ارتفاع بأسعار اللحوم حيث رَاجَ حينها أن الحكومة قد قررت إلغاء زراعة البرسيم. أتذكر أيضًا أن الرئيس السادات عندما طَلَب من الدكتور عبد الرزاق أن يُفَكِكَ للناس ما قد يلتبس عليهم من معضلات رقمية تتعلق بالموازنة العامة، فما كان من الرجل إلا وقد وقف بإحدى جلسات مجلس الشعب مرة أخرى قائلًا: “ورحمة أُمي الموازنة فيها فائض”، وأجزم -بعيدًا عن الجانب الفلكلوري من قَسَمِهِ الغليظ- أنه كان يقصد الفائض “الأوَلِي” لا الفائض “الكُلي”.)

نعود إلى “إيرهارد” الأصلي…بعد إعلان إستسلامها إثر هزيمتها بالحرب الكونية الثانية، لم يكن على أرض ألمانيا بنية فوقية ولا تحتية، إنهارت العملة (مارك الرايخ) على وقع تلاشي الاحتياطي من الذهب والنقد الأجنبي بسبب الإنفاق الحربي بالغ الضخامة وبِحُكم التزام ألمانيا بسداد تعويضات هائلة بالعملات الأجنبية وهو ما تزامن مع التدمير الذي أصاب المصانع والأبنية وندرة البضائع والنقص الحاد بالأيدي العاملة بسبب وفيات الملايين من الناس بما نتج عنه مستوى استثنائي من التضخم عاد بموجبه الألمان قرونًا للوراء حيث كان التعامل يتم “بالمقايضة” بل ووصل الأمر في كثير من الأحيان إلى التعامل بالسجائر باعتبارها عُملةً للتبادل. لا شك في أن ما تلقته ألمانيا من مساعدات وصلت إلى 13 مليار دولار في نطاق مشروع مارشال كان له أثر كبير في إعادة الإعمار بالإضافة إلى قيام بعض الدول كبريطانيا بإسقاط الديون السيادية الألمانية وإن كان لهذا “الكرم” الإستثنائي غرض سياسي كانت دول الحلفاء تهدف من وراءه إلى استقطاب ألمانيا “الغربية” التي انفصلت عنها جزءها الشرقي حين اتفق “الثلاثة الكبار” أمريكا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي في “يالطا” قبل نهاية إعلان استسلام ألمانيا رسميا بثلاثة أشهر على تجنب وقوع ألمانيا في مأزق اقتصادي يماثل ما حدث بها بعد الحرب الأولى حين وصل سعر الدولار الأمريكي إلى 2 تريليون مارك ألماني (نعم، كان الدولار بعد الحرب الأولى يعادل 2 تريليون مارك ألماني)، ثم اجتمع الثلاثة الكبار ثانيةً في بوتسدام بعد الحرب ليترسخ التقسيم الذي تضيق مساحة وغرض هذا المقال عن الإسهاب في استعراض أسبابه ودوافعه وأحداثه التاريخية.

ماذا فعل “إيرهارد” الأصلي؟ تبنى الرجل الذي شغل منصب وزير الاقتصاد الاتحادي في الفترة من صيف 1949 إلى خريف 1963 ثم انتُخِب بعد ذلك مستشارًا لألمانيا ليبقى بهذا المنصب حتى خريف 1966 سياسة “اقتصاد السوق الاجتماعي” Soziale Marktwirtschaft الذي اتبعته أغلب دول اسكاندينافيا بعد ذلك والقائم على الجمع بين اقتصاد السوق الحر من ناحية وتجنب مثالب الاحتكار واستغلال العمالة من ناحية أخرى من خلال التدخل الحكومي لتحفيز النشاط الاقتصادي وترسيخ سياسات تضمن منافسة عادلة في المجالات الإنتاجية وفي ذات الوقت توفر ضمانات اجتماعية للعمال.

تحرك الرجل الذي كان صاحب الفضل الأول في “المعجزة الاقتصادية الألمانية” على ثلاثة مستويات تمثل أولها في استبدال مارك الرايخ بالمارك الألماني لكبح جماح التضخم حين تم تقديم منحة نقدية لكل مواطن بقيمة 50 مارك ألماني ثم القيام بتعويض/استبدال كل 10 من مارك الرايخ المنهار حرفيًا بالمارك الألماني الجديد، وتمثل الثاني في الاستغلال المُخطَط بالغ الانضباط حصيلة أموال مشروع مارشال لإعادة الإعمار، وتمثل الثالث في التنمية الذاتية المعتمدة على ما يشبه -في عصرنا الحالي- المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر بحيث يبدأ الإنتاج من الورش الصغيرة متصاعدًا إلى المعامل المتوسطة ثم كبريات المصانع حيث يقوم المشروع الصغير بإنتاج ما يلزم المشروع المتوسط من مدخلات يجرى عليها عمليات تصنيعية لإنتاج ما يحتاجه المشروع الأكبر من مدخلات أكثر تعقيدًا لصنع منتج نهائي بمقاييس صارمة في منظومة متتالية مترابطة وشديدة الدقة وفق معايير صارمة للجودة بشكل يضمن استمرارية الإنتاج والإمداد بأعلى المستويات وفي مواقيت بالغة الدقة وبصورة تُؤمِن توظيفًا دائمًا مع تدخل الدولة في رسم سياسات تنظيم الأسواق وحماية العمال وتوفير التعليم المهني عالي الجودة. بنهاية العام 1949 كان الإنتاج قد ازداد بنسبة 80% عما كان عليه الأمر عند بدء سياسة “اقتصاد السوق الاجتماعي”، وبنهاية عقد الخمسينات كانت أعمال التنمية الشاملة قد تضاعفت لتتفوق ألمانيا على كل من فرنسا وبريطانيا إذ بلغت نسبة النمو السنوى 7% تقريبًا وانخفضت نسبة البطالة من 11% في 1950 إلى 0.7% في 1965.

تذكرت تجربة “إيرهارد” ونحن على أعتاب الحوار الوطني الذي أقترحُ على مجلس أمناءه وهو يضم أساتذة اقتصاد كبار يأتي على رأسهم الدكتور “جودة عبد الخالق”، تخصيص “عنوانٍ” مستقل في كل لجنة من اللجان الفرعية بالمحور الاقتصادي لدراسة تجارب النجاح (كتجربة لودفيج إيرهارد ومثيلاتها) وتراث نقد الأنظمة الاقتصادية (كمساهمات هايمان مينسكي وبول كروجمان وجوزيف ستيجليتز وسمير أمين وتوما بيكيتي وغيرها) بالعصر الحديث في الشأن الذي تضطلع اللجنة الفرعية بدراسته، لا لاستنساخ تلك التجارب أو لِنَقْلِ ذلك التراث حرفيًا فالظروف الموضوعية والذاتية مختلفة دون شك، ولكن بغرض استلهام المعاني العامة والمقاصد الكلية في سياقاتِ عَالَمٍ مُغاير تتبدل ملامحه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بتسارع شديد.