شغلت صور كنيسة أبو سيفين التي احترقت في منطقة المنيرة بإمبابة في الجيزة، الصحافة الدولية حتى إنها تصدرت نشرات الأخبار في كبرى المحطات والإذاعات إلا أن أكثر ما لفت تلك الفضائيات هو شكل مبنى الكنيسة الذي يبدو كبناية سكنية في حارة ضيقة لا يحمل من الشكل الهندسي للكنيسة إلا صليب حديدي معلق على سطح المبنى. فلا قباب ولا معمار قبطي في الواجهة ولا أثر يلفت العابر لوجود كنيسة في ممرات المنيرة المكتظة.

اقرأ أيضًا.. حرائق الكنائس.. كيف نتجاهل الأرقام وننتظر المعجزات؟

بين الخط الهمايوني وقانون بناء الكنائس عام 2016

الإجابة عن أسئلة الصحافة الدولية تعني فهم سياق مصري فريد يرتبط ببناء الكنائس في مصر، البلاد التي غاب عنها أي إطار تشريعي يحكم عملية بناء دور عبادة للمسيحيين لمدة تزيد عن القرن ونصف منذ صدور مرسوم عثماني عام 1856 يحمل اسم الخط الهمايوني وحتى إقرار أول قانون مصري معاصر لبناء وترميم الكنائس عام 2016 في مصر بينما تخللت الفترة الطويلة ما بين الخط الهمايوني وقانون بناء الكنائس قرارات وزارية ورئاسية تربط بناء أو ترميم كنيسة بموافقة رأس الدولة المصرية الأمر الذي أخضع حق الأقباط في الصلاة لموائمات وتفاهمات بين الكنيسة والدولة.

في سنوات غياب التشريع تلك التي زادت عن 150 عاما كانت أعداد الأقباط ككل سكان مصر في تزايد مضطرد بينما أعداد الكنائس كما هي فلا أماكن تكفي للصلاة ولا حلول سهلة للراغبين في سماع صوت الله. يروي محمد حسنين هيكل في كتابه “خريف الغضب” بعضا من ذلك. إذ يقول: “الرئيس السادات في بداية عصره وبعد حادث الخانكة مباشرة التقى البابا شنودة ووعده بضعف أعداد الكنائس التي كان يمنحها عبد الناصر للبابا كيرلس ولكن خلافهما حال دون ذلك”.

لماذا لجأ الأقباط للصلاة في عمائر سكنية؟

خضعت قضية بناء الكنائس منذ عصر الجمهورية الأولى لعلاقة الكنيسة والدولة بل وامتدت لتصبح محورا لعلاقة رأس الكنيسة برأس الدولة. فكلما كان بابا الكنيسة القبطية في علاقة ود مع رئيس الدولة منحهم كنائس أكثر وكلما تباعد الطرفين يحرم الأقباط من تلك الهبات السنوية والهدايا الرئاسية الموسمية.

أما في عصر مبارك، فكان عدد السكان قد تفاقم بالشكل الذي لا يسمح للأقباط بالصلاة بسلام فتصاريح بناء وترميم الكنائس تمنح بقرارات جمهورية وعادة تمنح في المواسم الانتخابية وضمن صفقات لتبادل المصالح والأصوات بينما كانت عملية بناء كنائس غير رسمية تسير في خط موازي.

مع الحاجة الملحة لبناء كنائس، لجأ الأقباط للصلاة في عمائر سكنية أو بيوت أو شقق بتفاهمات شفهية وموافقات أمنية غير مكتوبة ومع مرور الوقت تتحول تلك العمائر والبنايات الصغيرة إلى كنائس بسيطة تلبي حاجة الأقباط للصلاة وتضم بعض الخدمات الكنسية الملحقة. كنائس موجودة في الواقع ولا أصل لها في دفاتر وأوراق الحكومة، كنائس يمكن إغلاقها إذا ما قررت السلطات ذلك إما لأسباب أمنية أو حتى دون إبداء أسباب واضحة كجزء من سياسة العصا والجزرة الذي كان يمارسه نظام مبارك في علاقته بالكنيسة القبطية.

كيف تعامل قانون بناء الكنائس لعام 2016 مع أزمة الكنائس غير المرخصة؟

شارع الكنيسة المحترقة في المنيرة

يظل الوضع كما هو عليه لسنوات وسنوات، تزهق من أجل بناء كنيسة الأرواح حتى إن الدكتورة ماريز تادرس تدرج أزمة بناء الكنائس كثاني الأسباب المؤدية لوقوع حوادث العنف الديني في التاريخ الجمهورية المصرية الأولى، في دراسة منشورة عن الكنيسة والدولة.

في 2011 تقوم الثورة وتتبدل البلاد حتى إذا جاء العام 2014 بدستور جديد يمنح حقوقا أكثر للأقليات الدينية يعقبه صدور أول قانون لبناء وترميم الكنائس عام 2016 والذي يعالج قضيتين الأولى هي بناء كنائس جديدة أما الثانية فهي تقنين أوضاع الكنائس غير المرخصة.

في حديث تلفزيوني سابق، يقدر البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية أعداد الكنائس غير المرخصة ما يقترب من الأربعة آلاف كنيسة تم تقديم أوراقها للجنة وزارية شكلت لأجل هذا الغرض.

القانون رقم 80 لسنة 2016

وحسب مجلس الوزراء المصري فإن اللجنة الرئيسية لتقنين أوضاع الكنائس تم تشكيلها بموجب القانون رقم 80 لسنة 2016 بشأن تنظيم بناء وترميم الكنائس، للبت في طلبات تقنين الكنائس والمباني القائمة في تاريخ العمل بالقانون رقم 80، بعد التثبت من توافر عدة شروط أهمها تلقي طلب التقنين من الممثل القانوني للطائفة الدينية، وأن يكون المبنى سليما من الناحية الإنشائية وفق تقرير من مهندس إنشائي معتمد من نقابة المهندسين، وأن يكون مقاما وفقا للاشتراطات البنائية المعتمدة، وأن يلتزم المبنى بالضوابط المنظمة لأملاك الدولة العامة والخاصة، وانتهت اللجنة منذ تشكيلها في يناير 2017، من تقنين أوضاع ما يزيد عن ألفي كنيسة حتى الآن.

ورغم انتقادات المنظمات الحقوقية لقانون بناء وترميم الكنائس بسبب كثرة الجهات والوزارات التي تشارك في اللجنة الوزارية المختصة بتقنين أوضاع الكنائس غير المرخصة فإن بعضا من هذه الاشتراطات التي حددها القانون تضمنت السلامة البنائية والإنشائية. واشتراطات الحماية المدنية وهو ما اعتبره كثيرون عراقيل بيروقراطية تحول دون تقنين أوضاع الكنائس.

تولي اللجنة الوزارية المكلفة بمنح تراخيص الكنائس غير المقننة، أهمية بالغة لمعايير السلامة الإنشائية والدفاع المدني. في بيان رسمي صدر عن مجلس الوزراء في الخامس من مارس عام 2019 يوضح المستشار نادر سعد المتحدث باسم المجلس تفاصيل اجتماع لجنة تراخيص الكنائس فيقول: “الاجتماع استعرض أيضا موقف الإجراءات التي قامت بها الكنائس والمباني التي تم تقنين أوضاعها بشأن استيفاء اشتراطات الحماية المدنية. حيث تمت الموافقة على منحها مهلة أربعة أشهر إضافية لاستكمال إجراءات الحماية المدنية”. كما شدد: “في ضوء ما تلاحظ من وجود تأخير في التزام الكنائس بالانتهاء من استيفاء اشتراطات الحماية المدنية، فقد شدد رئيس الوزراء على الأهمية البالغة للالتزام باشتراطات الحماية المدنية حفاظاً على الأرواح والمنشآت الدينية”.

كنيسة أبو سيفين تم تقنين أوضاعها عام 2019

أما كنيسة القديس أبو سيفين بإمبابة التي كانت ضحية حريق أمس، فقد كشف القس ميخائيل أنطون ممثل الأقباط الأرثوذكس في اللجنة الوزارية لتقنين أوضاع الكنائس أنها حاصلة على ترخيص بالفعل عام 2019 وتم تقنين أوضاعها والتأكد من استيفائها معايير السلامة الإنشائية والدفاع المدني. مؤكدا في مداخلة تلفزيونية أن الحادث الذي وقع فيها كان “قوة قهرية”.

من ناحيته، يكشف ماركو الأمين الباحث المتخصص في التاريخ الكنسي عن غياب فكرة الحماية المدنية عن الكنائس في مختلف أنحاط الجمهورية. كما أوضح: “ما يزيد عن 80% من كنائس محافظة الجيزة لاسيما الأحياء الشعبية تقع في مباني سكنية وليس كنائس مستقلة بشكلها الكلاسيكي. بل أن هذه البنايات يتم استخدامها في أمور متعددة مثل الكنيسة في أحد الطوابق وخدمات مدارس الأحد وحضانة وسكن الكاهن أو سكن العاملين في الكنيسة في أحيان أخرى.

الأمين يضيف: “الكنائس ذات المباني المستقلة وهي قليلة في الجيزة فتضم جوارها مبنى خدمات يحمل الطابع التقليدي للبنايات السكنية فمعظم هذه الكنائس كان يتم شرائها كعمائر وتحويلها إلى كنائس”.

وحسب الأمين فإن كل طابق في هذه الكنائس المبنية وسط التجمعات السكنية يضم أكثر من تكييف وأحيانا تكييف مركزي. كما أضاف: “في كنيسة الأمير تادرس بالمنيا التي تعرضت لهجوم إرهابي عام 2014 تسببت أنابيب الفريون وأجهزة التكييف في سماع أصوات انفجارات ثم سقوط المبنى بالكامل”.

وطالب الأمين أساقفة الإيبراشيات ومجالس الكنائس باتباع إرشادات الحماية المدنية وتوفير طفايات الحريق ونظم الإطفاء في كافة الكنائس حتى لا تصبح عرضة للخطر في أي ظرف من الظروف.