لا يليق بدولة بحجم مصر ولا بتاريخها النيابي، أن يصدر قرار بإجراء تعديل وزاري يشمل نحو نصف الحقائب الوزارية، وآخر من يعلم به هم السادة نواب الشعب المناط بهم دستوريا مساءلة الحكومة ومراقبة أعمالها ومتابعة تنفيذ برنامجها، فيقتصر دورهم على الموافقة على خطاب رئيس الجمهورية الذي أرسله إلى المجلس، والتصفيق بحرارة على اختياراته الجديدة واستبعاده وزراء لم يتمكن هؤلاء النواب من الاقتراب منهم أو المساس بهم عندما كانوا على رأس مواقعهم.

صباح السبت الماضي عقد مجلس النواب جلسة طارئة للنظر في رغبة رئيس الجمهورية لـ«إجراء تعديل وزراي على النحو المبين بالكشف المرفق لاتخاذ اللازم»، بحسب ما جاء في نص كتاب الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى المجلس الموقر الذي تلاه المستشار حنفي جبالي رئيس «النواب».

وبعد 15 دقيقة فقط من بداية الجلسة الطارئة صدق نواب البرلمان على رغبة رئيس الجمهورية دون مناقشة ولا تشاور ولا حتى محاولة استضياح أسباب إقالة الوزارء الذين شملهم التعديل، أو التعرف على السيرة الذاتية وسوابق أعمال المرشحين لتولي المسئولية خلفا للمُبعدين.

اللافت أن الموافقة على رغبة الرئيس بالتعديل جاءت بأغلبية كاسحة، فلم يتمكن أحد من رصد المعارضين للمقترح إلا بعد إنقضاء الجلسة عندما أعلن بعض النواب الذين يمثلون حزبي «المصري الديمقراطي الاجتماعي» و«العدل» وعدد من زملائهم المستقلين رفضهم أو تحفظهم على التعديل وإجراءاته بالنحو الذي جرى.

لم يخالف مجلس النواب الإجراءات التي أوجبتها نصوص الدستور ومواد القانون وبنود لائحته الداخلية في هذا السياق، إلا أن تمرير تلك الإجراءات على هذا النحو خالف كل الأعراف والتقاليد الديمقراطية وكشف عن مدى التراجع والتردي الذي وصلت إليه الأوضاع السياسية والنيابية في بلادنا.

لم يجتهد السيد المستشار رئيس المجلس ونوابه حتى في إخراج وهندسة مشهد مُحكم يُضفي عليهم وعلى مؤسسات السلطة في بلادنا مسحة من الديمقراطية، ويقنع الجمهور الُمتلقي بأن إرادته محل احترام وأن نوابه يقومون بواجبهم في مناقشة قرارات السلطة التنفيذية التي من المفترض أنها تخضع لهم ولسلطانهم ولا يخضعون لها ولا يصدقون على قرارتها دون أن تنبس أفواهم بكلمة اعتراض.

قبل بداية الجلسة بنحو ساعتين نشر النائب البرلماني مصطفى بكري على حسابه الشخصي بموقع «تويتر» تغريدة يشرح فيها الإجراءات المتوقع اتباعها في الاجتماع المنتظر، «تبدأ الجلسة العامة بكلمة من رئيس المجلس يخطر فيها النواب بفحوى وأسباب الجلسة العاجلة، ثم يدعو اللجنة العامة لاجتماع لعرض أسماء التعديل عليها، ثم يعرض الأمر مجددا على الجلسة العامة لأخذ الرأي وترفع الجلسة».

لم يتبع «النواب» الخطوات والإجراءات التي تنبأ بها زميلهم المخضرم، وكما خذل رئيس المجلس وأعضائه النائب مصطفى بكري خذلوا الرأي العام بمتابعينه ومراقبينه الذين تسمر بعضهم أمام شاشات الفضائيات المصرية ليتابعوا ويرصدوا ما سيدور في الجلسة المنتظرة التي حامت حولها الظنون وثارت بشأنها التوقعات فذهب البعض إلى أنها ستُخصص لمناقشة الرد المصري على تعدي إثيوبيا على حقوقنا في مياه النيل وإعلانها عن إتمام الملء الثالث لسد النهضة دون التشاور مع دولتي المصب.

لم يمنح رئيس المجلس الفرصة لتداول ومناقشة التعديل الوزراي حتى يتعرف نوابه الذين لم يُبلغ معظمهم علما بأسباب دعوته إلى جلسة طارئة حتى قبيل ساعات قليلة من انعقادها.

ورغم أن الرئيس السيسي أشار في كلمته التي نشرها قبل الجلسة بدقائق على صفحته الرسمية إلى أنه دعا مجلس النواب إلى الانعقاد في جلسة طارئة لـ«مناقشة تعديل عدد من الحقائب الوزراية التي تم التوافق على تغييرها بعد التشاور مع رئيس الوزراء بهدف تطوير الأداء الحكومي»، إلا أن المجلس الموقر تعامل مع فكرة التشاور حول أمر رئاسي أو مناقشته على اعتباره من «الجدل المذموم المنهي عنه شرعا لأنه يفتح أبواب الكراهية والخصام»، متبعا في ذلك آراء بعض علماء السلف الذين حرموا الجدل وشيطنوا أصحابه.

اقرأ أيضًا: هل استجابت الحكومة للأزمة الاقتصادية بالتغيير الوزاري؟

لم يعرف أحد من السادة النواب وناخبيهم بالتبعية ما هي الأسباب التي دعت القيادة السياسية إلى استبعاد وزير ولا المعايير التي تم الاستناد إليها لاستقدام آخر؟، كما لم يعلم أحد ما هي الأخطاء التي وقع فيه المبعدون حتى تتم محاسبة خلفائهم في حال تكرارها.

كل ما تمكن الرأي العام من رصده دون أن تتطرق إليه الجلسة الطارئة أن معظم من تم استوزارهم كانوا نوابا لأسلافهم أو مسئولين كبار تولوا مواقع قيادية في ذات الوزرات التي حملوا حقائبها، ما يعني أنهم كانوا جزء من المنظومة القائمة ينفذون الخطط والاستراتيجيات ذاتها، ما ينبئ بأن «أحمد لن يختلف كثيرا عن الحاج أحمد»، مادام الاثنان ستقف مهمتهما عند تلقي التعليمات والتوجيهات وتنفيذها دون نقاش أو جدال. الاستثناء الذي أدهش وحير الجميع هو اختيار مصرفي ومسئول بنكي لتولي حقيبة الآثار والسياحة يتشابه اسمه مع أحد الأساتذة المتخصصين في هذا المجال.

كان من المتوقع أن يكون تغيير الحكومة أو تعديل بعض الحقائب الوزراية هو أحد مخرجات الحوار الوطني ضمن عدد من الإجراءات الأخرى، بحسب ما رجح بعض الساسة المنخرطين في مناقشات ومشاروات الحوار، لكن استباق جلسات هذا الحورا بتعديل نصف الحكومة خفض من سقف توقعات الأحزاب التي قررت المشاركة وأشاع حالة من الإحباط في الأوساط السياسية.

القضية ليست في تغيير وجوه وإبدالها بأخرى، القضية في مراجعة السياسات والتوجهات والاعتراف بأخطاء ترتيب أجندة أولويات المرحلة السابقة، القضية في احترام مؤسسات الدولة تنفيذية كانت أم تشريعية لإرادة ورغبات الشعب صاحب السلطة والسيادة الأول.

لمصر تاريخ حافل مع الحياة النيابية، عرفت بلادنا التمثيل البرلماني قبل قرن ونصف تقريبا، وانتخب المصريون عام 1881 أول مجلس له صلاحيات رقابية وتشريعية واسعة، كان تشكيل هذا المجلس ثمرة نضال الأمة التي ثارت ضد استبداد الأسرة العلوية وفسادها وخرجت خلف أحمد عرابي ورفاقه للمطالبة بتأسيس حكم نيابي يحترم حقوق الشعب ويعمل على تحقيق آماله في الحرية والعدالة وتحسين الأحوال المعيشية.

أنجز هذا البرلمان الذي انتخب أعضاؤه في أجواء من الحرية وبعيدا عن التدخل الحكومي، أول مشروع دستور للبلاد «اللائحة الأساسية»، أقر هذا الدستور مبدأ المسئولية الوزارية أمام مجلس النواب، وخول للمجلس إقرار مشروعات القوانين وتقرير الموازنة العامة والرقابة على أعمال الحكومة وموظفيها.

ورغم أن هذا تجربة هذا المجلس تم التآمر عليها ووأدها وانتهت باحتلال الإنجليز للبلاد إلا أن مصر ظلت هي صاحبة السبق في تشكيل المجالس النيابية وإصدار وثائق دستورية تحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم في المنطقة، بل إنها صدرت تجربتها وخبراتها وأوفدت مستشاريها وقانونييها لمساعدة دول الجوار في وضع الدساتير وتأسيس البرلمانات.

بعد كل هذا التاريخ الحافل يصل بنا الحال إلى أن يقتصر دور نواب البرلمان الحالي على التصديق على رغبة الرئيس والتصفيق لاختيارته دون مناقشة أو تشاور حتى ولو من باب “برو العتب” وذر الرماد في العيون.