باختصار شديد، المقصود بالتكتيك هنا هو صناعة أزمة كبيرة تبرر إسقاط الديمقراطية وتمنح الفرص لتأسيس أو استمرار أو استئناف الديكتاتورية.

ثم يلزم في البداية وضع بعض النقاط على بعض الحروف حتى تنجلي عدة حقائق طال اختلاطها حتى تاهت معالمها.

الحقيقة الأولى: صحيح أن الحكام الذين تعاقبوا على حكم مصر في العهد الجمهوري من إلغاء الملكية عام 1953 حتى يومنا هذا 2022، صحيح أنهم جميعا اختاروا الحكم الفردي المطلق الذي يكون فيه الرئيس فوق الدولة وتكون فيه الدولة فوق الشعب ويكون الشعب مستبعدا بالكامل من معادلة الحكم، وصحيح كذلك أن كل هؤلاء الحكام – نجيب ثم ناصر ثم السادات ثم مبارك ثم السيسي- كلهم من ضباط الجيش، لكن تجاربهم جميعا لا تمثل غير أنفسهم، وإذا كانت لا تمثل اختيار الشعب فهي بالقدر ذاته لم تكن تمثل الجيش.

الحقيقة الثانية: من فترة ما قبل ثورة 23 يوليو 1952 حتى يومنا هذا، كان العسكريون مثل المدنيين، منهم من يميل للديمقراطية ويدافع عنها، ومنهم من يميل للديكتاتورية سواء كانت حكما عسكريا أو دينيا أو ملكية استبدادية مثلما كان عليه الحال في العقود الثلاثة التي أعقبت ثورة، 1919 فليس صحيحا -على الإطلاق- أن كل العسكريين مع الديكتاتورية أو أن كل المدنيين مع الديمقراطية، فقد عارض كثيرون من الضباط ديكتاتورية الملك قبل ثورة 23 يوليو، ثم عارض كثيرون منهم ميول جمال عبد الناصر الديكتاتورية، وقد تم تقديم الكثيرين من الضباط الديمقراطيين للمحاكمات وفقدوا رتبهم وتم إخراجهم من الجيش بالذات في الفترة الحاسمة التي استغرقت قريبا من عامين وانتهت بنجاح التوجه الديكتاتوري بقيادة عبد الناصر، وهو التوجه الذي انكتب له النجاح حتى يومنا هذا، لكن نجاح هذا التوجه لا يلغي حقيقتين: أنه يمثل أصحابه فقط، وأنه لا يمثل الجيش ولا يمثل كل ضباط الجيش.

الحقيقة الثالثة: أن الجذور الديكتاتورية لدى نجيب وناصر والسادات لم تكن ترجع -فقط- لكونهم عسكريين، لكن كذلك ترجع لتأثير حركة الإخوان ثم حركة مصر الفتاة، وكانت الحركتان لهما الانتشار الأكبر والتأثير الأعمق على الطبقات الوسطى الصاعدة بما فيها ضباط الجيش، كانت الإخوان ضد الأحزاب وضد التعدد الحزبي وكانت مصر الفتاة تشاركها التوجه ذاته، وكلتا الحركتين توفرت لهما بعض خصائص الفاشية والعنف بل والإرهاب، وقد انتقلت هذه الخصائص إلى الضباط مثلما انتشرت في أوساط المدنيين.

الحقيقة الرابعة: أن المؤسس الفعلي لتنظيم الضباط الأحرار هو جمال عبد الناصر، والقائد الفعلي لثورة 23 يوليو هو عبد الناصر، وواضع الأسس الراسخة لدولة يوليو هو عبد الناصر، ومن يُنسب إليه الفضل في تأسيس قاعدة “الرئيس فوق الدولة والدولة فوق الشعب والشعب مستبعد على الهامش” هو عبد الناصر، وصحيح أن كل الحكام من بعده ليسوا في وزنه ولا في قامته، لكنهم جلسوا على كرسي طغياني هو صانعه، ومارسوا من الطغيان ما ينافس طغيانه ويتفوق عليه، هذه الهندسة الطغيانية لم يأت بها عبد الناصر من الجيش وإنما جاء بها  -بالتحديد- من فاشية مصر الفتاة، يقول الدكتور نزيه نصيف الأيوبي، في بحثه “تطور النظام السياسي والإداري في مصر 1952- 1977” في ص 64 من كتاب “مصر في ربع قرن” صادر عن معهد الإنماء العربي، الطبعة الأولى، بيروت، يقول: “على الرغم من أن عبد الناصر قد تعرف على معظم الاتجاهات والجماعات الموجودة كالإخوان والماركسيين والوفد، إلا أنه لم ينضم إلا إلى حزب مصر الفتاة بمبادئه الوطنية الصارخة التي لابد وأنها قد ألهبت الحس الوطني لهذا الشاب اليافع”. وثمة روايات عديدة مماثلة تذكر عضوية جمال عبد الناصر في التنظيم السري وهو الذراع المسلح للإخوان.

الحقيقة الخامسة: هذه الجذور والروافد المدنية المعادية للديمقراطية -الإخوان ومصر الفتاة- تركت أثرها على عبد الناصر من زاويتين، من زاوية موقفه الحقيقي من الديمقراطية، ثم من زاوية استعداده لانتهاج العنف سبيلا لتحقيق أغراضه السياسية، وهنا أنقل عن مذكرات واحد من القادة الكبار لتنظيم الضباط الأحرار ومؤسسي دولة يوليو وهو عبداللطيف البغدادي 1917 – 1999، عن موقف جمال عبد الناصر من الديمقراطية يقول في ص 47: “حتى يمكن الحكم على موقف جمال عبد الناصر حكما سليما فلابد أن تتضح لنا حقيقة نواياه التي مازالت غامضة حتى اليوم”.. انتهى الاقتباس الأول من البغدادي. ثم عن موقف عبد الناصر من الاستعداد لممارسة العنف يقول في ص :31 “حدثت بيني وبين جمال عبد الناصر مشادة عنيفة، على أثر محاولة اغتيال اللواء حسين سري عامر، وكان جمال عبد الناصر قام بمحاولة الاغتيال مساء يوم الثامن من يناير 1952، وكان جمال أخذ قرار الاغتيال دون أخذ رأي الضباط الأحرار، وأشرك معه فيها كل من حسن إبراهيم وكمال رفعت وحسن التهامي “انتهى الاقتباس الثاني من البغدادي. أكثر من ذلك يذكر البغدادي في ص 32 أن تنظيم الضباط الأحرار اجتمع في 17 يوليو أي قبل الثورة بستة أيام ووضع خطة لاغتيال عدد كبير من القادة السياسيين، ولم يوقف هذه الخطة التي أسماها بالمذبحة غير عدم توفر الإمكانات البشرية والمادية اللازمة للتنفيذ خاصة وأن الخطة كانت تقتضي أن تجري عملية الاغتيالات في ليلة واحدة.

أردت من النقاط الخمس السابقة توضيح حقيقتين: ليس كل العسكريين يميلون للديكتاتورية، ثم إن ديكتاتورية البعض منهم لها جذور مدنية، ثم هذه الجذور -في أغلبها- ذات روافد تعود للإخوان ثم مصر الفتاة، ثم لم يكن ما قبلهم ديمقراطية حقيقية فقد أفسدها الملك والانجليز وكبار الملاك والرأسماليين.

***

التكتيك المذكور في صدر المقال، والذي لجأ إليه عبد الناصر بعد ثورة 23 يوليو 1952 وعاد وكرره -ببراعة المشير طنطاوي بعد ثورة 25 يناير 2011، هو تكتيك “تعميق الأزمة” وقد اقتبسته من ص 71 وما بعدها من المؤرخ الدكتور شريف يونس في كتابه “نداء الشعب: تاريخ نقدي للإيديولوجيا الناصرية “طبعة 2012، دار الشروق.

فبعد أزمة مارس 1954 بدأت القوى المضادة للضباط الأحرار تفيق وتستيقظ وتستعيد روح النشاط والحركة بما في ذلك القوى الحزبية والديمقراطية القديمة، هنا أحست الديكتاتورية الناصرية الوليدة بالخطر، وقد تأكدت أن الشارع ليس معها رغم ما أنجزت من خلع الملك ثم إلغاء الملكية ثم الإصلاح الزراعي ثم إعلان الجمهورية، بدا للديكتاتورية البازغة أن الشعب ينكر جميلها ويجحد فضلها بسرعة، هنا ظهر التكتيك الجديد في دماغ جمال عبد الناصر.

يقول دكتور شريف يونس “بدأت قوى كثيرة مؤيدة لعودة الديمقراطية تتحرك، اجتمع مجلس نقابة الصحفيين وطالب بإلغاء الأحكام العرفية فورا، وإلغاء الأحكام التي صدرت عن غير طريق القضاء العادي، والإفراج عن المعتقلين، وأصدرت نقابة المحامين قرارات مشابهة، وتبعتهما هيئة التدريس بجامعة فاروق (الإسكندرية)  التي كانت أول جهة تؤيد الضباط بعد الانقلاب ثم هيئتي التدريس في جامعتي فؤاد وإبراهيم (القاهرة وعين شمس)، بما يعني أن أكثر هيئات الإنتليجنسيا الحديثة نفوذا عبرت صراحة عن رفضها للإجراءات الديكتاتورية لحكم الضباط الأحرار ورغبتها في نظام حكم مدني دستوري”. ص 71 من الكتاب المذكور.

ثم يقول دكتور شريف يونس: “بدت الأمور وكأنها ستُفضي إلى تصفية سلطة الضباط “.

ثم يقول: ” واقع الأمر أن عبد الناصر كان قد قرر حل الأزمة لصالح الحكم الجديد عن طريق تعميقها (تعميق الأزمة).

ثم يقول: “وقد أخبر – أي جمال عبد الناصر- مسئولي السفارة الأمريكية بنواياه صراحةً: أنه سيترك الأوضاع تتدهور لمدة شهر أو شهرين، لأن البلد يجب أن تتعلم درسا، وتوحي كلمة “الدرس” بمدى خيبة أمل عبد الناصر وأعوانه، فقبل كل شيء كان الضباط قد قاموا بحركتهم من أجل الشعب، وتضامنا مع كفاحه ضد الاستعمار والملك، وأكدوا في بياناتهم قبل الانقلاب أنهم لن يقبلوا أن يستعملهم الملك في قمع الشعب، وطردوا الملك الذي عذب الحركة الوطنية طويلا، وأجروا الإصلاح الزراعي، ولكن الجمهور النشط خيب آمالهم، فبرغم ترحيبه بهذه الخطوات لم يكن الجمهور على استعداد لقبول عواقب الإصلاح استنادا إلى الدبابات، وأول هذه العواقب هو القضاء على الحياة السياسية للبلاد، ومن هنا أتت فكرة “الدرس” ص 72م. ثم يقول: “كذلك أوضح عبد الناصر لضباط الجيش نيته في الاحتفاظ بالسلطة” ص 72.

ثم يقول: “تولى عبد الناصر فعليا قيادة الصراع إزاء الاختلافات الكبيرة داخل مجلس الثورة بشأن ما يجب عمله، مُختارا العناصر التي اعتبرها مناسبة لمساعدته، من خارج وداخل المجلس”. ص 73.

ثم يقول “وكانت الخطوة الأولى تدبير تفجير ست قنابل في القاهرة لإشعار الجمهور بعدم الأمان، ويشرح أن الهدف من هذه التفجيرات كان التمهيد لإعلان الأحكام العرفية أي حالة الطوارئ. ص 73.

كانت لدى عبد الناصر خطة لخوض المعركة من أجل الديكتاتورية لم يتوفر مثلها للقوى الديمقراطية المنقسمة والمتنافسة، فلم يتم ما كان يتخوف منه وهو تصفية حكم الضباط في المهد، والذي تم هو العكس، هو تصفية كل صوت مسموع غير صوت الضباط، تمت التصفية قمعا وحيلةً وخداعا وبطشا وذراعا وتطهيرا وإذلالا حتى لانت ثم هانت ثم نامت البلد بين أصابعه من 1954 ولم تتنفس إلا بعد القارعة الكبرى 1967. فلم يرتفع في البلد صوت إلا في مظاهرات الطلبة 1968.

***

بين هذين التاريخين، بين انتصار الديكتاتورية البازغة على الديمقراطية المنقسمة في 1954، ثم هزيمة الديكتاتورية أمام إسرائيل 1967، لم يكن المصريون يعرفون كيف تُدار شؤونهم ولا كيف تتقرر مصائرهم ولا لماذا ينهزمون ولا لماذا يموت أبناؤهم على جبهات القتال.

1 – فمثلا لم يعرف الناس أن النظام خسر حرب 1956 عسكريا وتكلف ما بين ألفين إلى ثلاثة آلاف قتيل.

2 –   ولم يعرفوا أن تسوية عام 1957 للعدوان الثلاثي تضمنت مرور إسرائيل الملاحي من مضيق تيران إلا حين أعلنت إذاعات الأردن ذلك لإحراجه.

3 –  ولم يكن توازن القوى الإقليمي معروفا لدى الناس، بل جرى إيهامهم أن النظام يمتلك جيشا جبارا لا يُقهر أقوى من جيش إسرائيل.

4 –  ولم تكن فترات التقارب من دول سماها النظام رجعية مثل السعودية والأردن تذاع إلا كأخبار عن لقاءات رسمية.

5 –  ولم يعرف الناس أن النظام كان يتلقى معونة من الولايات المتحدة إلا حين أثيرت قضية قطعها.

6 –  وكانت مفاوضات النظام غير المباشرة مع إسرائيل عن طريق الولايات المتحدة، بما تنطوي عليه من قبول مبدأ الاعتراف بإسرائيل، بشروط، سرية تماما، لم تُعرف إلا لاحقا، من خلال الوثائق الأمريكية حين تم الإفراج عنها، ومازالت هذه المفاوضات السرية مجهولة لدى معظم المتعلمين حتى الآن.

7 –  وقبل حرب 1967 التي كان النظام يتجنبها، اصطفت أقواس النصر تبشر الجمهور بدخول تل أبيب، بينما كان هذا غير وارد أصلا لأسباب دولية، فضلا عن التوازنات العسكرية وهكذا.

هذه النقاط السبع وردت في ص 729 – 730 من كتاب شريف يونس والذي ختم بوصف نظام جمال عبد الناصر بأنه “نظام يقبض على عنق شبه دولة حديثة”.

***

“نظام يقبض على عنق شبه دولة حديثة ” وصف عبقري لخلاصة الديكتاتورية الناصرية.

بين التاريخين، تاريخ انتصار عبد الناصر في تأسيس ديكتاتوريته البازغة 1954، ثم تاريخ هزيمة ديكتاتوريته أمام إسرائيل 1967، لم يكن الشعب فقط هو الذي لا يعلم ماذا يجري، بل كان الحاكم ذاته، كان عبد الناصر ذاته لا يعلم حقيقة الأوضاع داخل الجيش، كان محجوبا عنه تماما، كانت البلد – في ظل ديكتاتوريته الغشيمة – قسمة مناصفة بينه وبين صديقه ثم غريمه عبدالحكيم عامر، عبد الناصر له الرئاسة، وعبدالحكيم له الجيش، وكان النصر الإسرائيلي أكبر خدمة ممكن يقدمها حكام مصر لعدوها وعدوهم، خدمة حمقاء سوف تظل مصر والعرب تدفع تكاليفها ربما لألف عام مقبلة.

في ص 236 من طارق البشري في كتاب “الديمقراطية ونظام 23 يوليو: 1952 – 1970” طبعة 2013 عن دار الشروق، ورد ما يلي:

-كانت في مصر سلطتان، سلطة دستورية تتمثل في رئيس الدولة، وسلطة فعلية تتمثل في رئاسة القوات المسلحة، وسلطة القوات المسلحة لم تكن محصورة في الجيش فقط، وإنما امتدت إلى خارجها بالتعاون مع المخابرات العامة، واستهدفت السيطرة على وزارة الداخلية وأجهزة الدولة الإدارية والإنتاجية والقطاع العام وتصفية الإقطاع واعتقالات الإخوان المسلمين ثم أسندت إلى الجيش مهمات إدارية مثل إصلاح مرفق النقل العام والسيطرة على الجمارك.

-وقد بلغ من ابتعاد عبد الناصر عن معرفة أوضاع الجيش أنه في صميم أزمة مايو 1967 التي انتهت بحرب يونيو وهزيمتها المعروفة، لم يكن عبد الناصر على بينة من حالة سلاح الطيران المصري، ولا كان قادرا على سؤال المشير في هذا الشأن.

للأسف الشديد، هذا النزاع بين الصديقين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، لم يكن له من حل غير هزيمة جبارة بمثل هذه البشاعة، قبل الهزيمة كان عبد الناصر أعجز من أن يعرف ما يدور في الجيش، ثم كان أعجز من أن يسأل صديقه عن أوضاع الجيش ثم لم يتورع عن الزج بمصر والعرب من خلفه في حرب فتحت أمام إسرائيل طريق الهيمنة على الإقليم كله، حرب لم يتم حسابه ولا حساب صديقه عليها، هذه الحرب أفادت عبد الناصر من زاويتين: تصفية صديقه وخصيمه ومن حوله في مؤسسات الدولة، ثم إعادة تشديد قبضته الديكتاتورية على مجمل البلد.

وإذا كان شريف يونس ختم كلامه بأن النظام لم يعد غير قبضة على عنق دولة شبه حديثة،

فإن البشري يختم بأن مشروع ثورة 23 يوليو انكسر في 5 يونيو 1967.

***

التكتيكات التي اتبعها جمال عبد الناصر بعد أزمة مارس 1954، هي التكتيكات التي اتبعها المشير طنطاوي بعد ثورة يناير 2011.

وإذا كان عبد الناصر هو مؤسس الحقبة العسكرية الأولى التي انتهت بسقوط مبارك، فإن المشير طنطاوي هو مؤسس الديكتاتورية العسكرية الثانية التي بدأت عمليا من لحظة سقوط مبارك ثم تأسست رسميا مع تنصيب الرئيس عبد الفتاح السيسي في صيف 2014.

وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.