قبل 11 يومًا، نشر طارق عامر محافظ البنك المركزي حينها رسالة مطولة في إحدى الصحف الرسمية، يتذمر فيها من الانتقادات الموجهة لسياسات أسعار الصرف والفائدة والبورصة وميزانيات البنوك ومراكزها النقدية. واليوم الأربعاء اعتذر رسميًا عن الاستمرار في منصبه وقبل عام كامل من انتهاء مدته القانونية. وهي استقالة توقعتها شائعات انتشرت بشكل كبير في الأوساط الاقتصادية قبل أيام، تحدثت عن رحيل الرجل وأنه “لم يذهب لعمله في البنك المركزي” وأنه كان في إجازة بأحد المصايف -وقتهاــ قبل أن يصدر قرار اليوم بتعيينه مستشارًا لرئيس الجمهورية.
كانت رسالة طارق عامر -التي نقلها الشاعر فاروق جويدة- كفيلة بالكشف عن نية الرحيل عن إدارة البنك. إذ اتسمت بطابع هجومي على الإعلام الذي وصفه بـ”غير الفاهم”، والبورصة التي رأي أنها أصبحت مكانًا للمضاربات والاتفاقات غير العلنية التي تحقق خسائر للمجتمع، رغم أن الغرض منها أن تكون مصدرًا لتوفير رؤوس الأموال للمشروعات. وهذا لم يحدث تقريبًا، وفق نص الرسالة.
وقد تطرق عامر في هجومه إلى القطاع الخاص “الذي فُتحت له الأسواق على مصراعيها بسياسات قاتلة” خلقت فرص عمل لشعوب الدول الأخرى على حساب مواطنينا بفتح أبواب الاستيراد دون ضوابط وتدهورت الصناعة المصرية، وتابع “إننا اعتبرنا أن القطاع المملوك للدولة غير ناجح وأهملناه وهذا خطأ”.
الهجوم على الكل ورأي الناس
رسالة طارق عامر كنت مثيرة للاستغراب حينها، لتعارضها تمامًا مع وثيقة ملكية الدولة التي ستتخارج فيها من قطاعات كاملة خلال سنوات ثلاث. فضلًا عن تأكيدها على دعم القطاع الخاص ليشكل الجانب الفاعل في الاقتصاد.
يقول عامر إن تجربة القطاع الخاص لم تنجح فى تحقيق التوازن الاقتصادي والنقدي ومن ثم “فقدنا هذا وذاك”، وأن مصر تعمل منذ سنوات بسياسات تصحيحية تجد المقاومة من ذوى المصلحة الخاصة. والدولة لا تعمل لمصالح فئة ولكن لمصلحة الجزء الغالب من المجتمع المصري، حسبما قال.
كل هذا زاد الحديث حول توقيت رحيله، وعزز الجدل خبر اختياره، ضمن أفضل محافظي البنوك المركزية، من قبل مجلة “جلوبال فاينانس” العالمية. وقد طلب عدم نشر تهاني رؤساء البنوك على الاختيار، ووصل الأمر لمطالبة الصحف الإلكترونية التي نشرت الخبر بحذفه لو أمكن.
حدث هذا في أعقاب التعديل الوزاري الأخير، الذي قال عنه الدكتور عمرو عدلي، الباحث في العلوم السياسية، إن الأزمة ليست في تجنبه تغيير وزراء المجموعة الاقتصادية، وإنما في أدوار البنك المركزي التي زادت في العقد الأخير على حساب وزارة مثل المالية.
وأضاف عدلي أن البنك المركزي بات الجهاز الأساسي الذي يدير الاختلالات بالاقتصاد الكلي، وبالأخص في ملف العملة الصعبة. بينما هو جهاز منفصل عن الحكومة لا يتم تغييره معها. أي أن المركزي حل محل المالية في العديد من الملفات بشكل مباشر وغير مباشر بما فيها إدارة ملف التجارة والواردات وتنظيمها، وربما ذلك ما جعل رجل الشارع يحمل طارق عامر الكثير من الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها أخيرًا.
طارق عامر.. سنوات التعويم وأشياء أخرى
قضى طارق عامر 7 سنوات في رئاسة الجهاز المسئول عن السياسة النقدية بمصر. إذ تولى مهامه محافظًا للبنك المركزي في نوفمبر 2015، قبل أن يصدر الرئيس قرارًا بالتجديد له لفترة ثانية من نوفمبر/تشرين الثانى 2019 وحتى نوفمبر/تشرين الثانى 2023. وخلال تلك الفترة شهدت رحلته صعودًا وهبوطًا.
في 3 نوفمبر/تشرين الثانى 2016، فاجأ طارق عامر السوق المصرية بتحرير سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار، والتسعير وفقًا لآليات العرض والطلب. أطلق بذلك الحرية للبنوك العاملة بالنقد الأجنبي من خلال آلية الانتربنك الدولاري، التي قفزت وقتها بسعر صرف الدولار من مستوى 8 جنيهات إلى 14.50 جنيه.
ومنح التعويم الأول تنافسية كبيرة للصادرات المصرية زادت بنسبة 18% في أول 3 أشهر، فضلًا عن زيادة تحويلات العاملين بالخارج بنسبة 12%، واجتذاب نحو 46 مليار دولار إلى البنك المركزي والبنوك المحلية من خارج السوق وداخله، وتحسن أداء ميزان المدفوعات.
مضت الأمور جيدة إلى حد ما بعد التعويم وموافقة صندوق النقد الدولي على القرض الأول الذي تحمس له طارق عامر -حينها- على اعتبار أن تحسن الصادرات وعوائد التصدير وتحويلات المصريين بالخارج كفيلة بالسداد، وفي ظل انخفاض الفائدة التي يحصل عليها الصندوق مقارنة بالفائدة المحلية والمؤسسات المقرضة الأخرى. وهي مغامرة أثبتت الأيام اللاحقة خطورتها.
اقرأ أيضًا: مصر تسدد ديونها من احتياطي يتراجع.. لماذا تخلى “المركزي” عن “مقدساته”؟
أوضاع خارجية تقلب الطاولة
ضربت جائحة كورونا عوائد السياحة المصرية مع تبني سياسات الإغلاق بالخارج. كما انخفضت حركة مرور السفن في قناة السويس، فتراجع الاحتياطي النقدي من الذروة التي بلغتها قبل تفشى جائحة كورونا عند 45.5 مليار دولار، إلى 40.8 مليار دولار بنهاية أكتوبر/تشرين الأول 2021.
أمام تراجع العملات الأجنبية حصلت مصر في عام 2020 على ترتيب احتياطي بقيمة 5.2 مليار دولار، إضافة إلى 2.8 مليار دولار في إطار أداة التمويل السريع التابعة لصندوق النقد الدولي، لمساعدتها على معالجة تأثير فيروس كورونا، لكن جاءت الحرب الروسية لتعيد تعقيدات الأمور مجددا خصوصا مع تزامنها مع رفع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الفائدة ونزوح الاستثمارات غير المباشرة “الأموال الساخنة” بقيمة 20 مليار دولار.
في 21 مارس/ آذار الماضي، أعاد البنك المركزي تخفيض قيمة الجنيه المصري أمام الدولار تزامنًا مع زيادة سعر الفائدة. وذلك لامتصاص تخارج الاستثمار الأجنبي من البلاد، والسيطرة على موجة التضخم العالية. ليبلغ متوسط سعر صرف الجنيه أمام الدولار 18.15 جنيه للشراء، و18.29 جنيه للبيع بحسب بيانات البنك المركزي المصري، بدلًا من 15.64 جنيهًا للشراء و15.74 جنيهًا للبيع.
ودخلت مصر مجددًا (إبريل/نيسان الماضي) في تفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد لم يتم تحديد قيمته حتى الآن. لتستكمل الرحلة التي بدأتها قبل ست سنوات مع الصندوق. إذ حصلت على قرض بنحو 12 مليار دولار في 2016 ضمن برنامج الإصلاح الاقتصادي. ثم في عام 2020، ونتيجة لتداعيات أزمة كورونا، وحصلت على قرض بآلية التمويل السريع بقيمة 2.77 مليار دولار، كما حصلت مصر على قرض آخر ضمن برنامج الاستعداد الائتماني بقيمة 5.2 مليار دولار. إلى جانب دعم بقيمة 2.8 مليار دولار من مخصصات السحب الخاصة التي وزعها الصندوق على الدول الأعضاء.
الجرأة والمخاطرة.. سياسة طارق عامر التي قد تؤدي للإفلاس
لطارق عامر مدرسة في السياسة النقدية تعتمد على الجرأة التي يتحدث عنها باستمرار. يقول إنها سر النجاح حال وجود موضوعية المنطلقات والمعطيات العلمية.
وفي تحرير سعر الصرف الأول اتخذ القرار رغم وجود حجم احتياطي نقد أجنبي لمصر كارثي لا يتجاوز 800 مليون دولار. وهو رقم يجعل أي مسئول يفكر ألف مرة قبل اتخاذ قرارًا قد يؤدي للإفلاس.
ربما كانت الجرأة هي سببًا في مشكلات الجنيه بعد التعويم الثاني. فحينما دخل الفيدرالي الأمريكي في سباق لرفع الفائدة تخارجت الأموال الأجنبية بسرعة، ليتعرض الاحتياطي النقدي لضغوط كبيرة، وصعوبة في تدبير التزامات تمويلية كبيرة تصل إلى 18 مليار دولار قبل نهاية يونيو 2023.
تلك الجرأة التي دفعت طارق عامر في رسالته إلى شن هجوم عنيف على أسماء كثيرة لم يسمها. يقول إن البنك المركزى عندما يرفع أسعار الفائدة لتعويض المواطن عن التضخم يثور “أصحاب المصالح”. رغم أن مصر لديها أعلى أسعار عائد فى العالم وهذا يؤثر على البورصة المصرية، دون النظر إلى 20 مليون مواطن يعيشون على العوائد لمدخراتهم.
يضيف أن الرقيب ــ البنك المركزي وهيئة الرقابة المالية ــ حينما يتدخل لضبط قواعد التعامل “يتكالب” عليه أصحاب المصالح بالضغوط والإعلام “غير الفاهم” أو الوسائل الأخرى، ويتحدث عن النقد الأجنبي أشخاص لم يدربوا التدريب العملي الكافي على الأمور الفنية. فقرار أسعار الفائدة الذي يتم الحديث عنه ببساطة يتم بناءً على تحليلات وبرامج معقدة.
“آن الرحيل”.. رسالة تتكرر للمرة الثانية في 9 سنوات
امتلك طارق عامر سيرة ذاتية قوية على المستوى المصرفي. إذ كان تلميذ فاروق العقدة “محافظ سابق للبنك المركزي” ونائبه الذي شارك في وضع خطة الإصلاح الأولى للجهاز المصرفي عام 2003 وشهدت دمجًا للعديد من البنوك المحلية ورفعا لرأسمالها لمواجهة المخاطر. ليرحل بعدها إلى رئاسة البنك الأهلي لمدة دورتين (2008 ـ 2013)، في فترة شهدت الأزمة المالية العالمية.
وقبل البنك الأهلي، تقلد منصب نائب رئيس بنك مصر الدولي (2002- 2003)، رئيس قطاع الاستثمار وتمويل الشركات في سيتي بنك لمنطقة الخليج ومصر (1996- 2002). وكذا رئيس قطاع الاستثمار وتمويل الشركات ببنك أوف أمريكا بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والخليج. فضلًا عن منصب مدير إدارة المراسلين بأكثر 15 سوقًا متنوعًا.
في خضم “تخليه عن منصبه أو إقالته”، قال طارق عامر إن رحيله يفتح الباب أمام دماء جديدة في البنك المركزي. وهي المقولة نفسها التي أطلقها قبل 9 سنوات حينما استقال من رئاسة البنك الأهلي المصري، بعد أيام من اختياره خلفًا لهشام رامز محافظًا للبنك المركزي في 2013. قال حينها :”آن الرحيل وتسليم الراية لخبرات أخرى”.