بعث السيد طارق عامر محافظ البنك المركزي برسالة إلى الكاتب الكبير فاروق جويدة ونشرها في عموده بجريدة الأهرام قبل أيام، وتمثل هذه الرسالة من وجهة نظري مساهمة بالغة الأهمية في مسار الحوار الوطني الذي يجتمع نهاية الشهر الجاري. إذ أنها المرة الأولى علي حد علمي التي يقوم فيها مسؤول رفيع في مصر بنقد «السياسات الكلية»، التي يسير عليها الاقتصاد المصري منذ عشرات السنين. وهي السياسات التي قادت البلاد إلى أزمات متكررة آخرها الأزمة الراهنة، والتي تشير كل التقارير الجادة إلى أن المعاناة القاسية التي تصاحبها ستستمر معنا لفترة ليست بالقصيرة.
نقد عامر الذي تضمنته الرسالة لم يدع مجالا للتخمين في شأن أنه لا يقصد إجراء هنا أو هناك أو يتحدث عن الاقتصاد بمعناه الأجوف المغرق في التخصص بل يقصد الاقتصاد السياسي بمعناه الحقيقي باعتباره خيارات سياسية أو انحيازات اجتماعية تحدد من هم المستفيدون من عوائد النمو الاقتصادي ومن هم المتضررون منه؟.. وماهو نموذج التنمية؟.. هل هو نموذج مستقل وقوي قادر على التكيف مع المتغيرات وامتصاص الهزات غير المتوقعة، ومبني على هياكل الاقتصاد الحقيقي السلعي الإنتاجي (الصناعي والزراعي) أم نموذج هش قائم على عوائد الريع و هيمنة قطاع الخدمات ويكون دوما عرضة للانتكاس والانكشاف مع كل أزمة من الخارج أو الداخل.
يتفق ما قاله السيد عامر – نسبيا وفي حدود معينة – مع ما نادى به خبراء وعلماء اقتصاد وطنيون من معظم المدارس الفكرية من أن مشكلة مصر هي السياسات الكلية المتبعة والتي صممت لصالح فئة أو طبقة اجتماعية محدودة للغاية فيشير إلى أن هذه السياسات أسست وعبر عشرات السنين – إشارة واضحة إلى سياسة الانفتاح الاقتصادي منذ 1974- إلى مايلي:
- بيع أصول الدولة للقطاع الخاص وتمويل هذا البيع من البنوك المصرية حتى 2005!!
- انتهاج سياسة التجارة الحرة وفتح أسواق مصر أمام البضائع الأجنبية المنافسة فتهاوت الصناعة والزراعة المصرية .
- تحويل المواطن المصري إلى النمط الاستهلاكي وبدا معه استنزاف موارد مصر من النقد الأجنبي.
- سياسات مالية مصاحبة لسياسات خطيرة بالغة الضرر في التجارة الخارجية انهارت معها الصناعة والزراعة حتي وصل الوضع إلى أن أصبحت مصر تستورد احتياجاتها الضخمة من الغذاء من الخارج، وهذا الضعف الاقتصادى تحول إلى اعتماد تام على الخارج، وتعود المجتمع على هذه السلع وهذا النمط من الاستهلاك، لذا أصبح من اللازم على الدولة توفير احتياجاته وأصبحت مستويات الأسعار والتضخم فى سيطرة المنتجين فى الخارج..
- أساسات المناخ الاقتصادي للبلد التي تم إرساؤها قبل ٢٠١١ وهذا التحديد الزمني من جانب محافظ البنك المركزي هام للغاية فهو يشير إلى الفترة الأخيرة من عصر مبارك خاصة مرحلة إعداد الوريث للحكم في السنوات العشر الأخيرة والتي تضمنت أسوأ مستوى لتزاوج الثروة بالسلطة وفيها تم تحويل سياسات سلفه الرئيس السادات في الانفتاح بكل ما تحمله من آليات فساد ونزح الثروة لصالح شريحة رفيعة للغاية من شرائح المجتمع إلى تشريعات وقوانين تحمي وتقنن هذا الفساد «كله بالقانون» .
- يقول عامر «افتقدت هذه الأساسات في رأيي الإدراك والفهم العميق وتأثيره على المدى الطويل»، ويضرب لنا مثلا بتدمير قطاع الزراعة نتيجة هذه السياسات الكلية، ويتحدث عن محاولة تصحيحية تقوم بها الدولة حاليا في هذا القطاع تسعى لإعادته إلى إنتاج السلع الغذائية الاستراتيجية التي تمس الأمن الغذائي من جهة ويستنزف استيرادها من الخارج موارد مصر من النقد الأجنبي «تحاول الدولة تدارك هذه النتائج لتوجهات سياسات يتم تصحيحها تدريجيا وهذا واضح فى توجهات الدولة فى الاهتمام بقطاع الزراعة حين تحولت 1٫5 مليون فدان إلى حدائق فاكهة فى حين نستورد المواد الغذائية الأساسية مثل القمح والذرة وزيت الطعام والأسماك واللحوم والفول بعشرات المليارات من الخارج!! وبدأت صناعات تقودها الدولة وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية».
- هنا يستخلص عامر دروس تجربة الاقتصاد المصري وخطأ سياساته الكلية، وإن المشكلة في أساسات الهيكل الاقتصادي غير الإنتاجي، وفي ترك الحبل على الغارب للقطاع الخاص فيقول مستخدما كلمات واضحة لا لبس فيها مثل «خاطئة، ولم تنجح ، وقاتلة»، وإن من يقاوم تصحيحها هم ذوو المصلحة الخاصة «أرى أننا بعد أن قررنا أن القطاع المملوك للدولة غير ناجح أهملناه وهذا خطأ ، وأن القطاع الخاص فتحت له الأسواق على مصراعيها لسياسات من رأيى أنها كانت قاتلة.. لأنها خلقت فرص عمل لشعوب الدول الأخرى على حساب مواطنينا بفتح أبواب الاستيراد دون ضوابط وتدهورت الصناعة المصرية».
- ويضيف عامر «لم تنجح -الحقيقة أنها فشلت فشلا ذريعا- تجربة القطاع الخاص فى تحقيق التوازن الاقتصادى والنقدى ومن ثم فقدنا هذا وذاك، ونحن الآن ومنذ سنوات نعمل فى سياسات تصحيحية طبعا بالتأكيد تجد المقاومة من ذوى المصلحة الخاصة، ولكن الدولة لا تعمل لمصالح فئة ولكن لمصلحة الجزء الغالب من المجتمع المصري».
- ويتعجب عامر من الاهتمام الكبير لهؤلاء -يشير اندهاش عامر هنا إلى الخبراء المنظرين لمصالح الشريحة الرأسمالية العليا- بالبورصة «وهى الفكرة والغرض منها أن تكون مصدرا لتوفير رؤوس الأموال للمشروعات، وهذا لم يحدث تقريبا وأصبحت هى فقط بورصة للمضاربات والاتفاقات غير العلنية التى تحقق خسائر للمجتمع وعندما يتدخل الرقيب لضبط قواعد التعامل يتكالب عليه أصحاب المصالح بالضغوط والإعلام غير الفاهم أو الوسائل الأخرى».
في تحليل بسيط يؤدي طارق عامر خدمة وطنية كبيرة لبلده بشرط ألا يتراجع عما كتبه بخط يده أو يعيد تفسيره بطريقة تخالف المنطق الصريح فيه تحت ضغوط من اسماهم هو نفسه بـ«أصحاب المصالح الخاصة» الذين روجوا مؤخرا لفكرة إنه استقال او استقيل بعد هذه الرسالة .
هذه الخدمة قد تساعد في أن تنقذ الحوار الوطني من الغرق في التفاصيل التي قد تودي به إلى نفس مصير الفشل الذي آلت إليه حوارات وطنية سابقة، إذ يجيب كلام عامر علي السؤال المراوغ الذي يطرحه البعض عن عمد لتفريغ الحوار من مضمونه، وهو سؤال «ما هو جوهر الحوار الوطني ؟ هل هو حوار سياسي ؟ أم حوار اقتصادي واجتماعي وثقافي».
في الحقيقة إنه حوار سياسي بامتياز وحتى في المحور الاقتصادي فلا أتوقع أن يجلس الدكتور جودة عبد الخالق وزملاؤه في هذا المحور لكي يناقشوا قرار الوزير الفلاني او الوزيرة الفلانية، وإنما سيجلسون للنظر في السياسات الاقتصادية الكلية التي تحدث عنها عامر أخيرا بعد أن بح صوت جودة وزملائه من المتخصصين عقودا في الجهر بها. فإما أن يعدلوها ويبنوا سياسات تنهي الضعف الاقتصادي المصري واعتماد الاقتصاد المصري المفرط على الخارج، ويعود للإنتاج السلعي الحقيقي وينهي نهب العشرة في المائة لمعظم الدخل القومي وثلث البلاد يرزح تحت خط الفقر.
أي إما أن يتمكن الحوار من بلورة سياسات اقتصادية -كما يقول عامر لمصلحة الجزء الغالب من المجتمع المصري وليس لصالح فئة صغيرة- كما هو الحال منذ 48 سنة، وإما يستمر البلد في مدار الاستدانة ومد اليد خارجيا، والفقر والاحتقان الاجتماعي داخليا.
ما عدا ذلك فإن الحوار قد يتحول إلى استهلاك للوقت حتى تخف آثار الأزمة الحالية وهنا سيكون حالنا حال المثل الشعبي «وكأننا يا بدر لا روحنا ولا جينا».
تحتاج الحركة المدنية المصرية الممثلة للمعارضة في الحوار الوطني إلى تقييم عامر الصريح ليس فقط كي تثق في نفسها وفي أهمية معارضتها السياسات الاقتصادية الحكومية خلال العقود الخمسة السابقة دون استجابة، ولكن أيضا لما يمثله كلام محافظ البنك المركزي من صيغة «إصلاحية» تمثل اتفاق حد أدنى يمكن أن تقره أحزابها كاتفاق جبهوي تدخل به للحوار يلتزم به ممثلوها في الحوار فمن هذه الأحزاب ما هو يساري ويطلب تغييرا جذريا ومنها ما هو ليبرالي أو ديمقراطي اجتماعي و يطلب تغييرا أقل جذرية .
يرفع حديث عامر الحرج عن ممثلي الموالاة في الحوار ويشجعهم -إن أرادوا- على التعاطي الإيجابي مع منطق المعارضة بالدخول على خط تعديل وتغيير السياسات الكلية، إذ أن هذا “أي حديث عامر” ببساطة شهادة شاهد من أهلها تدمغ النموذج الاقتصادي الانفتاحي بالفشل وتدعو إلى مراجعته والاعتراف بأنه صب في صالح فئة صغيرة على حساب غالبية الشعب.
سينجح الحوار الوطني إضافة إلى «فتح المجال السياسي والإعلامي وإلغاء التعديلات والقوانين المتعارضة مع الدستور والإفراج عن كل سجناء الرأي غير المحرضين وغير المشاركين في عنف»، إذا تمكن من وقف انفلات سياسات الانفتاح كسياسات كلية وبناء سياسات كلية أخرى تنحو تدريجيا نحو العدالة وتقوم على نموذج تنمية مستقلة يتضمن دورا استراتيجيا للقطاع العام وبجانبه دور للقطاع الخاص، اقتصاد يقوم على الصناعة والزراعة سواء إحلالا للواردات أو تصديرا للخارج، وليس على الريع والخدمات. نمزذج يقوم على سياسات تشغيل تحل أزمة البطالة المستعصية التي أخفق القطاع الخاص في حلها خمسين سنة وزاد بذلك من معدلات الفقر، وساعد في نشر حواضن اجتماعية للتشدد ازدهرت فيها جماعات الإرهاب الأسود.