خلخلة الروح، والدوران بمشاعر مرتبكة، الرغبة في حضن يلم أشلاء الروح المتناثرة في مدارات تدور بسرعة صانعة صداع للقلب، وعدم اتزان للروح والعقل، فهل جلست وحيدا تنظر نحو اللا شيء؟ تُفكر في الحياة وجدواها؟ إنه الفراغ الذي يتغذى على أرواحنا فنبدو خافتون مطفؤو الروح، لا نشعر بقيمة أي شيء، ولهذا كان الحب مهم.

المشاعر فرشاة القدر لتلوين حيواتنا، فإن بهتت صرنا نحن مفرغين وبلا هدف، لكن القدر الذي عودنا أن الدنيا لا تُمنح لراغبيها، جعل اللعبة الأكثر تشويقا أن تحب من لا يُحبك، أو تُحب غير المناسب، تلك الصراعات والمعارك القدرية التي نُشارك فيها باختياراتنا وبخبراتنا، فنسعد أو نشقى، وفى كل الأحوال فإن هذه المعارك تمنح الحياة نكهة تمرر مُرّها ووجعها.

اقرأ أيضًا.. الصعود على سُلم الحُب

الاحتياج

الخبرات السيئة والوجع يصنعون حواجز مُرعبة تُخيف البعض من الاقتراب من تجربة جديدة، نهضم الوجع حيث تتحد المرارة بكرات الدم، منسابة من الرأس حتى القدمين، أشباح الوجع التي تقف حاجزا بين الفرد وقلبه تحوله نحو الفراغ وبينما تمر الأيام يولد الاحتياج، وحشا يلتهم العقل والمنطق، ويقفز فوق أي خبرات فنفقد البوصلة نحو المسار الصحيح.

يُصبح الاحتياج مشوش لكل الإشارات فنلتقط الإشارات الخطأ، ونسقط في خبرات أكثر سوء من تلك التي باعدت بيننا وبين تجربة قد تكون لصالحنا.

نخاف أمراض المناعة وننكر الاحتياج، رغم أنه سرطان ينهش كل مقاومة، فالرغبة في اهتمام شخص ما تتعاظم فيُصبح الهدف هو الاهتمام وليس الشخص، ما يعرض المُحتاج إلى السقوط في شرك المتلاعبين والمستغلين.

الاحتياج أشبه بالجوع المفرط الذي يلغي قدرتك على الاختيار فتأكل أي شيء مهما كان غث وردئ، نسقط في الاحتياج لأننا لا نرى سوى سبيل واحد لسده، لا نرى سوى الحب والعلاقات العاطفية كطريق وحيد وأساسي لسد الاحتياج العاطفي، العاطفة أو المشاعر تتضح في علاقات الحب لكنها ليست بعيدة عن علاقات أخرى، فالحب يتخذ أشكالا وسمات متنوعة في حياة الإنسان، بينما الغالبية اعتادت مسارا وحيدا للوصول، رغم اتساع السبل والحياة، فيسقط كل يوم العديد كضحايا للاحتياج العاطفي.

“يا بت انت مراتي”

أُحادية الطريق أصابت الكثير بالعمى، بالغت في السرعة والتطرف، انحرفت العربات راغبة في الوصول أولا، فسباق الحياة جعل التنافس صفة أساسية للاستمرار.

لعوامل عديدة خلت حياة البعض وهم غالبية من أهداف متنوعة، ففرغت الحياة واقتصرت على تدبير نفقات الحياة، وتم إفراغ كل المشاعر في بحيرة الحب، فظهرت أشكال بالغة في التطرف، ولأن الامتلاك مكون خفي في علاقات الحب، فإنه تحول من الخفاء إلى العلن، وصارت التأكيدات على الامتلاك شريعة المحبين، فإن كان قديما كلمة “انت بتاعتي” فاليوم شغلت عبارة “يا بت انت مراتي” العقول، حيث امتد الامتلاك ليستحوذ على المستقبل، هذه الملكية التي تطورت داخل البعض وصنعت أفكارها، فاتجه البعض لتدمير حياة الحبيبة إن هي اختارت طريقا آخر، أو رفضت الحبيب، فانحرافه في مفاهيم الامتلاك المبالغ جعله لا يُعطي أولوية أو تفكير لأي شيء سوى الحفاظ على ما يظن أنه يملكه، وهو ما خرج في أشكال جرائم القتل التي حدثت في واقعتين متتاليتين مع جريمة المنصورة ثم جريمة الزقازيق، ولم تختلف عن محتواها متكررة في أقطار أخرى كالأردن وليبيا.

قد تصنع أحاديث الملكية مذاقا خاصا في علاقات الحب، يمكن فهمها في حال أن تكون العلاقة متبادلة بين الطرفين، لكنها جاوزت السرعة وانحرفت محطمة طرق حياة الآخرين، والقيادة بيد شخص واحد، فهل يُدرك الحبيب أن الامتلاك حالة شعورية لا يجب أن تتجوز اللغة إلى الفعل؟

الاحتياج العاطفي بين التأصيل والفراغ

تضحك الأمهات وأحيانا الآباء وهم يتناقلون أخبار أولادهم وعلاقاتهم المتنوعة، دون أن يفكر أحدهم لجعل هذه العلاقات منطقة نقاش وإيضاح للمفاهيم، وهذا ليس جديد مع كثير من الأهل الذين يتعاملون باستخفاف مفرط مع مشاعر أطفالهم، ويجدون في العناق فعلا أنثويا، فالولد إذا طلب عناق، أو بكى كانت تشبيهاته بالأنثى أمر وصم وملاحقة، وعابه في بيته وبين رفاقه.

يبدأ غرس الاحتياج من الأسرة التي تتجاهل صغارها ولا تنشغل سوى بتوفير الاحتياجات المادية والدفع بأولادها في تنافسيات مختلقة نحو وهم التميز والتمييز، في حين أن الإشباع العاطفي ضرورة أساسية في تشكيل شخصية الطفل سواء كان ذكرًا أو أنثى.

الأولاد الذين شبوا في حالة من الاحتياج حياتهم فارغة من نشاط رياضي أو اجتماعي أو سياسي يخرجون نحو طريقا واحدا هو العاطفة المشوبة بالرغبة، بحيث يُصبح الحب هو الطريق الأوحد، فتُصبح ثمار الوجع هي الأكثر حصادا، لشباب فُطرنا على الفراغ واللا هدف، والدفع بهم في صخب وضجيج الاحتياجات المتنوعة.

ونحن نثرثر ونحلل لماذا قتل أحدهم فتاة لأنها رفضته، ومناقشة حقها في الرفض، علينا أيضا أن نفكر في هذا المجال الذي خلقناه لأولادنا، حلقة مفرغة من الهدف والقيمة، تنافس وهمي، وتعظيم لحالة من التمييز عن الغير بلا أساس أو أسس، ونحن ندفع بأولادنا نحو التميز الدراسي، علينا أن نزرع بداخلهم أهداف حقيقية، ونساعدهم في امتلاك مهارات حقيقية، غير تعزيز الامتلاك والتميز الوهمي، لا لشيء سوى أنه رجل.

ما يحدث الآن حصاد طبيعي لساعات الفراغ التي ملأنا بها حياة أولادنا، وتجاهل لأي مشاعر محبة نغرسها في أوقاتهم، وتأكيد لاستحقاقات وهمية، المستقبل لا يصنعه المال وحيدا، بل تصنعه توليفة من المشاعر والاهتمام والمهارات نغفلها ونحن نربي، ونترك أولادنا وأنفسنا للفراغ يهزم أي مقاومة، والاحتياج يكسر المنطق فيظهر بيننا القتلة وقُطاع الطرق ذلك أنهم كانوا بحاجة إلى عناق واهتمام في لحظة ما ولم يجدوه.