في عام 2016 تنازلت مصر عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين إلى السعودية. بعدها بستة أعوام تقريبا تبيّن أن الجزيرتين هما المدخل لبناء علاقات سعودية إسرائيلية رسمية، ضمن سياسة “خطوة خطوة” المُتبعة في الإقليم للوصول إلى الأهداف التي كانت “غير معلنة”.
لكن في الثالث عشر من أغسطس/آب 2020 عندما جمعت مكالمة هاتفية تاريخية بين رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو والرئيس الأمريكي دونالد ترامب وولي العهد الإماراتي محمد بن زايد، والتي مهدت الطريق للتوقيع الرسمي لـ”اتفاقات إبراهيم” بعدها بشهر تقريبا، كان ذلك بمثابة إعلان لسياسة جديدة سُنت سُننها تقضي بنهج “القفزات” لتحقيق أهداف “معلنة”.
ففيها تم القفز على بعض “الخطوط الحمراء” التي لطالما تمسكت بها الأنظمة العربية حفظا لماء شرعيتها. وتحول شعار “الأرض مقابل السلام” إلى “السلام مقابل السلام”. وبدلا من التواصل الذي كان يتم عادة في الخفاء وخلف الكواليس باتت علانية التواصل أمرا مهما في إثبات “الدفء”. وارتبطت الشرعية الخارجية -إلى جانب تنفيذ المهام الوظيفية- بمدى القدرة على إحداث “اختراقات” هامة في العلاقات العربية الإسرائيلية.
ولكن “الاختراق” الأكثر تحققا لم يكن على صعيد التفاهمات السياسية والأمنية، بل على الصعيد الاقتصادي حيث تنامت العلاقات التجارية بشكل واضح ومتسارع، وتوسع التعاون في مشاريع الطاقة المتجددة وغير المتجددة وتحلية المياه والسياحة، واُنشئت روابط استثمارية متعددة الأطراف وفي مجالات متنوعة.
اقرأ أيضا – بعد اتفاقيات إبراهيم.. كيف زاد حجم التجارة بين العرب وإسرائيل؟
الاقتصاد كتوافق مشترك
تسعى دول الخليج، مثل الإمارات، إلى المشاركة الاقتصادية مع إسرائيل، فضلا عن الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى مثل إيران وتركيا في الوقت الحالي “بهدف إبقاء التوترات الإقليمية منخفضة وتعزيز رؤية تكامل اقتصادي إقليمي أكبر”، وفق ما تذهب إليه آنا جيكوبز، المحللة المعنية بشؤون الخليج في “مجموعة الأزمات الدولية”.
وتضيف لـ”مصر 360“: “يبدو أن هذه استراتيجية طويلة المدى تهدف إلى تنمية ترابط واستقرار اقتصادي إقليمي أكبر للمساعدة في التخفيف من حدة الصراع”.
تتضمن “اتفاقيات إبراهيم” فرصا لتعزيز التجارة الإقليمية والعلاقات الاستثمارية في مجموعة من قطاعات الأعمال بدءا من الطيران المدني والتمويل، وصولاً إلى قطاعي الصحة والسياحة. وقد مُهد الطريق لتسيير رحلات جوية مباشرة، وافتتاح قنوات وخطوط اتصالات وإقامة مشروعات مشتركة.
كان التعاون الاقتصادي هو العنصر الأهم إذا في هذه العملية باعتباره نقطة “التوافق الدولي والإقليمي”. وفيه تتحول سياسة “المعونات” الدولية إلى سياسة “الاستثمارات” كنهج جديد يمكن أن يؤتي ثماره، ويُجبر أطرافه على تطوير تفاعلاتها وتشبيك علاقاتها.
هذا بينما ما تزال التوافقات السياسية والأمنية تخضع للتباينات والاستكشافات.. أو على الأقل هذا ما يتضح بعد مرور عامين.
يلفت جوست هيلترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط في “مجموعة الأزمات الدولية”، إلى أن الدول التي وقعت على اتفاقيات إبراهيم كان لها أهداف مختلفة في القيام بذلك: أرادت إسرائيل بناء تحالف مناهض لإيران، من بين أهداف أخرى. وأرادت الإمارات (وربما البحرين) تعزيز أمنها في مواجهة ما يعتبرونه تراجعًا للولايات المتحدة، لكنهم لا يدعمون فكرة التحالف المناهض لإيران.
“بغض النظر، كل ما سيظهر لن يكون نظامًا إقليميا مشتركا. المنطقة شديدة الاستقطاب، واتفاقات أبراهام تعمق الاستقطاب”، يوضح هيلترمان لـ”مصر 360“.
وتتفق جيكوبز التي ترى أن مستوى التعاون الاقتصادي والتكنولوجي والأمني بين إسرائيل والدول التي طبعت آخذ في التوسع على المستوى الثنائي، ولكنه ليس الأمر نفسه فيما يتعلق بفكرة تحالف أمني إقليمي. إذ “تستكشف دول الخليج العربية، حتى تلك التي طبعت مع إسرائيل، التعاون الثنائي معها ببطء وحذر، لا سيما وأن دولًا مثل الإمارات تعمل أيضًا على زيادة التواصل مع إيران”.
اقرأ أيضا – السوق المشتركة قبل الناتو العربي
التطبيع كمدخل لزيادة التوترات
تشير الباحثة التي تركز أبحاثها على السياسات الخارجية لدول الخليج إلى وجود الكثير من نقاط الاختلاف السياسية بين تلك الدول وإسرائيل في إطار السعي الجاد لتجمع أمني إقليمي. من بينها، الشكل المتصوّر للدولة الفلسطينية وكذلك حول الأمن الإقليمي وكيفية إدارة التوترات مع إيران. وقد أكد المسؤولون السعوديون والإماراتيون أنهم لا يشاركون في أي مناقشات حول التحالف الأمني بين إسرائيل والخليج.
سهلت “اتفاقيات إبراهيم” الاستثمار المالي بين الدول، فضلا عن التعاون العسكري وأدوات المراقبة. لكن بعد نحو شهر أو أكثر من الاتفاقية الأولى أصدرت وكالة المخابرات المركزية تقييما استخباريا يحذر من تنامي ما أسماه “المظالم الإرهابية” في ظل التطبيع وتهميش القضية الفلسطينية، بحسب ما نشرته مجلة “ذا إنترسبت” خلال الشهر الجاري.
ويحذر خبراء من أن تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية دون معالجة الاحتلال المستمر للأراضي الفلسطينية سيزيد التوترات الإقليمية. إذ قالت تريتا بارسي، نائبة الرئيس التنفيذي لمعهد “كوينسي”، عن التطبيع السعودي – الإسرائيلي: “سيؤدي ذلك إلى تكثيف الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين. وهذا يعطي إسرائيل الضوء الأخضر للاحتفاظ بالأراضي المحتلة والاستمرار في التوسع في الأراضي الفلسطينية. سيؤدي ذلك إلى تفاقم المشكلة”.
فيما تذكر سارة ليا ويتسن، المديرة التنفيذية لمنظمة “الديمقراطية في العالم العربي الآن”: “حكومة الولايات المتحدة تقوم بهندسة، وتدفع أموالا جيدة مقابل توسع تحالف استبدادي في الشرق الأوسط بدأ بالفعل يعضنا في المؤخرة”، بحسب تعبيرها.
وما تحقق على الصعيد الأمني من اتفاقات وتفاهمات لا يمكن التقليل من شأنه. فعلى نهج “خطوة خطوة” تتسارع عملية “الدمج”: فمن نقل إسرائيل إلى مسئولية القيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط (CENTCOM) بدلا من المنطقة الأوروبية -من أجل مزيد من التعاون العسكري مع الدول العربية- ثم “اتفاقات دفاعية مشتركة” مع المغرب (ما أسهم في اشتعال التوترات مع الجزائر) ثم “قمة النقب” واجتماعات أمنية سرية.
إذ شهدت الآونة الأخيرة تعاونا بارزا حيث تم نشر ضباط من البحرية الإسرائيلية في البحرين، والتنسيق الاستخباراتي ضد إيران، وعقد اجتماع سري في شرم الشيخ بمشاركة كبار المسؤولين العسكريين الإسرائيليين والعرب (بحضور مصر والسعودية والإمارات والبحرين والأردن وقطر)، وناقشوا تهديد الطائرات دون طيار الإيرانية.
يرى مدير برنامج الشرق الأوسط في مجموعة “الأزمات الدولية” أن جوهر التعاون الأمني هو رغبة الأنظمة العربية في تقوية نفسها من خلال معدات عسكرية جديدة وتقنيات جديدة، خاصة في مجال المراقبة.
ويقول لـ”مصر 360“: “إنهم يريدون أن يصبحوا دولًا بوليسية أكثر كفاءة، لأنهم يعرفون ما يمكن أن يحدث إذا لم يتمكنوا من إبقاء الأمور تحت السيطرة. وإسرائيل سعيدة بتزويدهم بهذه الوسائل، لا سيما لكسب المال وأيضا لتقوية جبهة إسرائيلية عربية ضد إيران -من وجهة النظر الإسرائيلية”.
اقرأ أيضا – نصر بلا حرب! النموذج الإسرائيلي
آفاق إسرائيلية مأمولة
في تقرير نُشر منتصف الشهر الجاري بعنوان “اتفاقات إبراهيم بعد عامين: تقدم مثير للإعجاب وتحديات متعددة وإمكانات واعدة“، يقول “معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي” -أحد أهم المراكز البحثية الإسرائيلية في دائرة صناعة القرار- إن “هناك العديد من التحديات المتبقية، ولا يزال الطريق طويلاً قبل أن تتحقق إمكانات الاتفاقات بالكامل”.
وهي تشمل المجالات المدنية ذات الإمكانات الفعلية الكبيرة كطريق التجارة البرية بين إسرائيل ودول الخليج؛ مشاريع إقليمية؛ الطاقة والغذاء والماء؛ الصحة الرقمية والطب؛ والتعليم والثقافة، حتى يتم “تعزيز وتوسيع إطار اتفاقيات إبراهيم”.
وتضيف الورقة التي كتبها كلا من مائير بن شبات -رئيس مجلس الأمن القومي بين عامي 2017 و2021- ودافيد أرونسون -نائب مدير معهد اتفاقات أبراهام للسلام ومستشار سابق لوزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي “لقد تجاوزت اتفاقات إبراهيم العقبات السياسية والأمنية المتولدة في الواقع الحالي وتغلبت عليها. والتزم قادة الدول العربية الذين وقعوا اتفاقيات مع إسرائيل بسياسة الاحتواء التي تبنوها فيما يتعلق بالاشتباكات في قطاع غزة”.. ولكن هناك الكثير من الإمكانات التي يمكن تحقيقها في المجالات المدنية”، ومن بينها:
فتح طريق تجارة بري عبر (أو من) إسرائيل إلى دول الخليج: تعمل عشرات الرحلات الجوية المباشرة اليومية على تعزيز التجارة وتسهيل تسليم البضائع بين إسرائيل ودول اتفاقية إبراهيم، ولكن على نطاق محدود. الشحن الجوي مكلف وغير مناسب للمنتجات الكبيرة جدًا أو الثقيلة.
قوانين المقاطعة المطبقة سابقًا ضد إسرائيل والإمارات والبحرين منعت تسليم الشحنات عبر إسرائيل. لسنوات، اضطرت الدول الأوروبية إلى إرسال صادراتها البرية إلى الخليج عبر تركيا أو لبنان أو قناة السويس. الآن وبعد أن تم إلغاء قوانين المقاطعة بعد اتفاقيات إبراهيم، فُتح الطريق أمام طريق تجارة بري فعال وأرخص -من إسرائيل إلى الخليج- ستحقق فوائد اقتصادية لكل من دول المنطقة والدول الأوروبية، والتي يمكنها أيضًا استخدامها لاستيراد وتصدير المركبات.
الطلب على حركة التجارة البرية، والذي يتزايد بالفعل، سوف يفرض توسيع البنية التحتية في نهر الأردن/ معبر الشيخ حسين الحدودي. وهذه خطوة أساسية لتعزيز التجارة بين دول اتفاقية إبراهيم، ومن المحتمل أيضًا أن تساهم في الاقتصاد العالمي.
تعزيز المشاريع الإقليمية: يمكن للمشاريع الإقليمية بمشاركة مصر وإسرائيل ودول الخليج أن تحل بعض المشاكل الأساسية لقطاع غزة في البنية التحتية والاقتصاد، دون زيادة المخاطر الأمنية لإسرائيل.
إعادة تدوير المياه وتحليتها: بصفتها شركة رائدة عالميًا في كل من تكنولوجيا إعادة تدوير المياه وتحلية المياه ومولد المياه في الغلاف الجوي، يمكن لإسرائيل تقديم حلول عملية سريعة لمشكلة نقص المياه وتحديات إدارة اقتصاديات المياه في دول اتفاقية أبراهام وكذلك في الدول الأوروبية والأفريقية.
العلاقات الشخصية: الحكومات تأتي وتذهب، ولكن شعوبها باقية. لذلك من الضروري بناء دعم شعبي للتطبيع مع إسرائيل بين السكان في كل دولة من دول اتفاقية إبراهيم، بما في ذلك إنشاء أساس للشرعية الدينية والشعبية للعلاقات مع الدولة اليهودية. والمغرب هو البلد الطبيعي لبدء هذا (أو بشكل أكثر دقة، لمواصلة ذلك)، بالنظر إلى الموقف التقليدي للملك تجاه الثقافة اليهودية والمجتمع اليهودي.
طالع التقرير كاملا – اتفاقيات إبراهيم بعد عامين.. مكاسب إسرائيلية وطموح للمزيد
إلى أين المسير؟
على الرغم من التقدم السريع، لا تزال إسرائيل تعاني من نفس الصعوبات في علاقاتها مع “الجيران”: رأي عام معادي. أوضح ذلك ما نشره “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” منتصف الشهر الماضي من استطلاع للرأي أظهر أن نسبة الأشخاص الذين ينظرون إلى “اتفاقات إبراهيم” بشكل إيجابي في السعودية والبحرين والإمارات قد انخفضت كثيرا عن العام الماضي.
ويُظهر الاستطلاع الذي جرى في شهر مارس/آذار 2022 أن أكثر من ثلثَي المواطنين في البحرين والسعودية والإمارات ينظرون إلى “اتفاقيات إبراهيم” بشكل غير إيجابي بعد نحو عامين.
لكن في المقابل، أصبحت الآراء المتعلقة بالعلاقات التجارية والرياضية على المستوى غير الرسمي مع الإسرائيليين أكثر تنوعًا في أنحاء بعض دول الخليج التي تشهد تحولًا كبيرًا ومتواصلًا في الرأي العام نشأ من هذه الفترة. إذ تزايدت نسبة قبول إقامة علاقات تجارية.
فيما لا تزال نسبة الاعتراض على السماح بإقامة علاقات تجارية أو رياضية مع الإسرائيليين تبلغ 85% في مصر و87% في الأردن على الرغم من العلاقات الرسمية القائمة منذ زمنٍ طويل وخطوات التقارب الحثيثة مؤخرا.
اقرأ أيضا – “السياحة الإسرائيلية” في مصر: رحلة التطور تحت ظلال السياسة
“في ضوء الموجة الثالثة من التطبيع، دخل النظام العربي بشكل رسمي لا لبس فيه مرحلة غير مسبوقة تهدد بتفككه وانهياره التام، وتدفعه نحو تحوله من نظام “قومي” إلى مجرد نظام “إقليمي” يتألف من دول مجاورة متنوعة دينيا وعرقيا ومذهبيا”، تقول دراسة بحثية من إعداد “المركز الديمقراطي العربي“.
ونتيجة لذلك، إذا استمر في هذا الاتجاه، ستتمكن إسرائيل من لعب دور القائد أو ضابط الإيقاع لنغمات آلة الأكورديون في هذا النظام الإقليمي، الذي يتحول تدريجيا إلى نظام شرق أوسطي، “ولطالما كانت فكرة الأوسطية نابعة من أذهان الأميركيين منذ القرن الماضي ولأن الفكرة لا تموت بدأت عمليات التنفيذ حتى يفقد النظام الإقليمي العربي آخر بقايا هويته العربية أو القومية”.
وبعد فشله في إيجاد صيغة وحدوية أو تكميلية تمكنه من النهوض والتغلب على واقع التخلف والتشرذم، يتخلى النظام العربي عن القضية الفلسطينية التي كانت دائما محور تفاعلاته وأحد أهم ملامح هويته العربية.
“وضعت الإمارات ودول أخرى عقبات جديدة أمام حل عادل ودائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني”، وفق تفسير مدير برنامج الشرق الأوسط في مجموعة “الأزمات الدولية”، ففي غياب عملية سلام قابلة للحياة، يمكن لإسرائيل المضي قدمًا دون عوائق نسبيًا في التقدم بضمها الفعلي للضفة الغربية.
ويستدرك هيلترمان “ومع ذلك، ربما تكون إسرائيل مخطئة في الاعتقاد بأنها تستطيع “حل” القضية الفلسطينية من خلال تقديم فوائد اقتصادية للفلسطينيين. يعرف كل فلسطيني أن ما تقدمه إسرائيل يمكن أن تنتزعه مرة أخرى بنفس السهولة. ولا يمكن للتقدم الاقتصادي أن يخفي عدم سيطرة الفلسطينيين على مصيرهم، بما في ذلك حق تقرير المصير، الذي أشك في أنهم سيستسلمون أو ينسونه”.