تعددت الأسباب والنتيجة واحدة؛ عبد الباسط حمودة هو أهم مطرب شعبي في مصر. ذلك الفنان الذي يزيد عمر مشواره الفني عن 30 عاما أي نصف عمره الفعلي تقريبا. 30 عاما اختلفت فيها خريطة الغناء الشعبي في مصر قلبا وقالبا عشرات المرات لأسباب فنية وغير فنية. ببساطة لأن تعريف الغناء الشعبي في حاجة مستمرة لقراءة حول سؤال الطبقة في مصر، بمعانيه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

الجمهور الذي كان يستمع لعدوية (والذي يظل في مكان خاص به بسبب موهبته وتوقيتها الطبقي على سبيل المثال) في بداياته ليس هو الجمهور نفسه الذي مازال يسمع عدوية في 2022. سأعود لهذه النقطة قبل نهاية هذه السطور، ولكن ما أريد قوله هو إن عبد الباسط حمودة كان حاضرا في عز تألق مطرب بحجم (حسن الأسمر) وبداية انطلاق نجم بحجم (حكيم) مثلما هو حاضر الآن في عز نجومية حسن شاكوش على سبيل المثال.

الأكيد أن حضور (عبد الباسط حمودة) حتى وإن أصبح أكثر لمعانا من حضوره في فترة التسعينيات، إلا أنه حضور مميز من الصعب أن تخطئه أذنك، ليس فقط بسبب صوته الفخم وإنما لأنه لا يكرر نفسه.

عبد الباسط حمودة فنان بحق، مطرب بحق، يعرف كيف يسلطن. والسلطنة أعزائي القراء لا تختلف كثيرا عن الفرفشة من حيث كونها مصطلحا مصري اللغة والهوى والسياق وعبقري في تقديره الفطري والمصري لهبة الغناء. وعبد الباسط حمودة من المطربين الذين يملكون مفاتيح السلطنة موسيقيا واجتماعيا، لأنه فنان ذكي في قراءته ليس فقط لسوق الغناء الشعبي في مصر، وإنما في قراءة التحولات الاقتصادية والاجتماعية في كواليس صناعة الفن في مصر والعالم العربي بشكل عام.

في السطور التالية، أوضح بالأسباب: لماذا عبد الباسط حمودة هو حقا أهم مطرب شعبي في مصر (الآن على الأقل).

لم يكذب عبد الباسط حمودة عندما قال في حديثه التليفزيوني الشهر الماضي مع المذيعة إنجي أنور عبر شاشة ETC إن أغنيته (أنا مش عارفني) حققت شهرة كبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية. نعم، الأغنية التي خرجت إلى النور في عام 2008 هي خير صديق للمصريين المغتربين.

ذلك الشجن الخالص الذي كتبه أمل الطاير وقاله عبد الباسط حمودة بسلاسة وعذوبة قادر على إمدادك بكل ما تحتاجه من دفء الوطن في ليالي الغربة الباردة الطويلة.

وبالرغم من أن أحاديث عبد الباسط حمودة التليفزيونية ممتعة، إلا أنه لم يعد من المنطقي التعامل مع (عبد الباسط حمودة) وكأنه “ايفيه” ممتع إعلاميا، حاله في ذلك، حال الكثير من نجوم الطرب الشعبي الذين يتم وضعهم جميعا في نفس الخانة، رغم تنوع واختلاف كل مشروع فني من مشاريع هؤلاء النجوم (مثل محمود الليثي، بوسي، هدى، أمينة، سعد الصغير وغيرهم من نجوم الغناء الشعبي في مصر).

الموضوع بالطبع له بعد طبقي أناقشه لاحقا. ولكن ما يهمنا في هذا السياق هو أنه باستثناء أغاني عدوية، نادرا ما تعيش أغنية شعبية كل هذا العمر (أكثر من 14 سنة قد مرت على ميلاد أغنية أنا مش عارفني). ليس هذا وحسب، إذا عدنا بالزمن إلى الوراء سنكتشف أن معظم الأغاني الشعبية ذات النجاح الشعبي الساحق والتي ظهرت في آخر 20 سنة، قدمت نفسها للجمهور المصري من خلال فيلم سينمائي. وبالطبع ليس من المصادفة أن تكون كل هذه الأفلام من إنتاج السبكي (مثل كباريه، الألماني، وحلاوة روح) باستثناء أغنية (أنا مش عارفني) لعبد الباسط حمودة.

نعم، الأغنية التي طرحت من خلال ألبوم غنائي بعنوان (ضربة معلم) -صدر في عام 2008- حققت من النجاح الجماهيري ما جعل السبكي يضمها من خلال حضور (عبد الباسط حمودة) بنفسه كضيف شرف في أحداث فيلم الفرح الذي تم عرضه في عام 2009.

كل هذا يجعلنا في حاجة للتوقف عند هذه الأغنية قليلا لأكثر من سبب. أولا، في هذه الأغنية نجح الشاعر أمل الطائر في تحقيق ما لم يوفق فيه شعراء كبار مثل سيد حجاب وشوقي حجاب على سبيل المثال. لماذا هؤلاء الشعراء بالتحديد؟ لأنه منذ ظهور عدوية في فيلم (أنياب) للمخرج الراحل محمد شبل وهناك هوس لدى الكثير من المثقفين والنخبة في مصر باستغلال نجوم الغناء الشعبي فنياً وطبقياً لتوصيل رسائلهم المرتبطة بالإصلاح الاجتماعي.

فعلها سيد حجاب وعمار الشريعي مع حسن الأسمر في تترات المسلسلات، وفعلها داوود عبد السيد مع شعبان عبد الرحيم في فيلم (مواطن ومخبر وحرامي) على سبيل المثال. أقول استغلال ليس للتشكيك في نوايا أصحاب تلك المشاريع الفنية الهامة وإنما لأننا اعتدنا على أن يتعامل صناع الفن في مصر مع الطبقات الشعبية والفن الذي تنتجه إما بشكل رومانسي مفتعل (ميراث مسلسلات أسامة أنور عكاشة) أو بشكل أقرب إلى التحريض المجتمعي ضد هذه المجموعات بسبب تركيزه المفرط على تصدير العنف وكأنه السمة المحددة لسكان هذه الطبقة. في أغنية (أنا مش عارفني)، يقدم الشاعر امل الطاير والذي يعد واحد من أهم عمدان الأغنية الشعبية في مصر  (أكثر من 1000 أغنية على مدار 40 سنة من النشاط الفني) لوحة درامية شعبية بامتياز تستخدم مفردات غاية في البساطة للتعبير عن تساؤلات وتخبطات إنسانية صادقة، غير مفتعلة وقادرة على عبور الفوارق الطبقية والوصول إلى قلب وأذن المستمعين في مصر والعالم العربي بفضل مهارات عبد الباسط حمودة الغنائية الضخمة والفخمة على حد سواء. وكيف لا ومؤلف الأغنية نفسه أمضى نصف عمره الفني في المستشفيات بسبب أمراض مزمنة كالتي يعيش بها أغلب المصريون والمصريات (السكر والضغط وغيرها من الأمراض).

لست أحاول تجنب المقارنة بين (عبد الباسط حمودة) و(عدوية)، ولكن المقارنة بين الاسمين أو بين أي منهما وغيرهما من نجوم الغناء الشعبي في مصر غير مفيدة بالمرة. خاصة وأن عدوية طالما تم الاحتفاء به فنياً وإعلامياً وليس أدل على ذلك من الفيلم التسجيلي الهام (الطرب الشعبي) الذي أخرجه إياد صالح في 2011 والذي هو بمثابة توثيق بالصوت والصورة للدور الذي لعبه عدوية في تاريخ الأغنية الشعبية في مصر وتحولاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية.

القول بأن (عبد الباسط حمودة) هو أهم مطرب شعبي في مصر لا يعني بالضرورة أن تكون تلك الأهمية خلاصة مقارنات بينه وبين غيره من نجوم الغناء الشعبي في مصر. ببساطة لأن تلك الأهمية التي يحتلها (عبد الباسط حمودة) قائمة في الأساس على قيمة المنتج الفني الذي يقدمه منذ أكثر من ثلاثين عامًا. كيف؟ أولاً، أتصور أن ألبوم (ضربة معلم) الذي صدر في 2005 كان واحدا من آخر الألبومات الغنائية التي قدمها (عبد الباسط حمودة) وفقا للتعريف التقليدي للألبومات الغنائية (أي ما لا يقل عن 8 أغنيات) بل أن الفارق الزمني بين هذا الألبوم وبين الألبوم الذي سبقه لا يقل عن 10 سنوات. ماذا يعني هذا؟ يعني أن عبد الباسط حمودة من زمن الزمن ليس مهووسا بالتواجد من أجل التواجد، والدليل على ذلك أن اختفاءه من سوق صناعة الكاسيت كل هذه السنوات لا يعني اختفاءه من الساحة الغنائية.

ومثلما تعتمد مطربة بحجم (أنغام) على سبيل المثال على جودة حفلاتها الغنائية، يعتمد عبد الباسط حمودة بشكل أساسي على غناءه بالأفراح والمناسبات، منذ التسعينيات (إن لم يكن قبل ذلك) وحتى الآن.

بدون الغناء في الأفراح تظل تجربة أي مطرب شعبي منقوصة وتكون رحلته الفنية معيوبة بشكل أو بآخر. ببساطة لأن الغناء الشعبي له طبيعة خاصة تجعله في حاجة لأن يكون في حوار دائم ومباشر مع الناس والجمهور. ناهيك عن أن الابتعاد المبكر لـ(عبد الباسط حمودة) عن سوق صناعة الكاسيت بشكلها التقليدي، يعني ذكاء شديد في فهم التحولات في مذاق المستمعين المصريين والعرب وكيف أن ماراثون صناعة الألبومات الغنائية مرهقا. ومنذ بداية الألفية لم يعد مجديا فنيا أو تجاريا كما كان الحال في الثمانينات والتسعينات.

ثانيا، من متابعتي لمسار (عبد الباسط حمودة) الفني، يمكن القول أنه من الفنانين القلائل (وليس فقط المطربين) الذين لا يعيشون إعلاميا على الترندات. وهذا يعني أمرين. أن البرامج التليفزيونية المهووسة بالنميمة الفنية مثل (شيخ الحارة والجريئة) على سبيل المثال لم تنجح في جر (عبد الباسط حمودة) إلى فخ القنابل الكلامية والفضائح الإعلامية. فهو فنان يعرف أن قيمة فنه أهم من المتاجرة بحياته الشخصية.

أيضا، هذا يعني أن (عبد الباسط حمودة) يصنع الموضة الغنائية وليس العكس. ولذا هو قادر على التواجد في مكان خاص به فنيا دون أن يكون مشغولا بالمنافسة بينه وبين الأجيال المختلفة من نجوم الغناء الشعبي بدءا من عدوية ووصولا لحمو بيكا وشاكوش على سبيل المثال.

ليس هذا فحسب، بل أن عبد الباسط حمودة هو الأكثر إنتاجا بين نجوم الغناء الشعبي في مصر من حيث الدويتوهات الغنائية. نعم، لقد قدم (عبد الباسط) دويتوهات مع نجوم مثل (كايروكي، دنيا سمير غانم، ونيكول سابا). وبالرغم من موهبة كل اسم من هذه الأسماء، إلا أنه لا يسعني إلا القول بأن (عبد الباسط حمودة) هو غول بالمعنى الحسن للكلمة. أي أن صوته بخامته الخاصة والفريدة قادر على ابتلاع أي موهبة تشاركه الغناء.

هل هذا يتطلب الموهبة فقط؟ بالطبع لا لأن ما يقدمه (عبد الباسط حمودة) ليس فقط موهبته الغنائية وإنما سنوات وسنوات وسنوات من التطور الفني، من الاحتكاك بمختلف طبقات مصر الاجتماعية والاقتصادية، من الغناء في الأفراح والمناسبات والحفلات، ومن تصدر المشهد حينا والخفوت الفني في أحيان أخرى.

يكفيني القول أن (عبد الباسط حمودة) يغني منذ أن كان الموال ضلع أساسي في مسيرة أي مطرب شعبي بالذات في التسعينيات (والدليل على ذلك مواويل حسن الاسمر  بكل ما حملته من شجن وفن)، خاصة إذا تعاملنا مع المواويل باعتبارها واحدة من أدوات الطبقات الشعبية في مصر في مداواة جراحهم الاقتصادية والاجتماعية. والمدهش أنه نجح في استيعاب النقلة النوعية في كلمات وموسيقى الأغاني الشعبية في مصر  على مدار أكثر من 30 سنة ليصبح أمرا عاديا أن يتقاسم مع نجم أصغر سناً بكثير مثل (أحمد سعد) نجاح أغاني فيلم (من أجل زيكو) على سبيل المثال.

هنا نحن نتحدث عن أستاذية بحق تذكرنا بتلك التي طالما تعامل بها ممثل عملاق مثل (نور الشريف) على سبيل المثال، ولكن هذه قصة أخرى وللحديث بقية.