كتب- عبد الوهاب شعبان:
يتذكر الأب ليلة المقابلة المرتقبة، حين عاد من عمله الذي يستغرق 10 ساعات يوميا، مرهقا بتفاصيل الغد القريب فوق إرهاق العمل، ومحملا بمستلزمات الطفل، وتهيئته لأجواء اللحظة الحاسمة حسبما صور له مقربون مروا بالتجربة.
المعركة الصباحية التي تخوضها الأسرة ذهابا إلى مدرسة خاصة ذات اشتراطات محددة للقبول، بطلها طفل لم يتجاوز الرابعة من عمره أمضى ليله في تلقين مسبق بالأجوبة النموذجية على أسئلة غارقة في الروتين، أسماء الأبوين بالكامل، مصطلحات، وتراكيب باللغة الإنجليزية، وتعرف على ألوان، وأشكال الطيور، والحيوانات.
اقرأ أيضًا.. تجربة طارق شوقي “رجل التابلت” في ميزان الواقع.. ظلم نفسه أم ظلمنا؟
معركة المقابلة الشخصية
داخل فناء المدرسة التي تقع على بعد كيلو مترات من منطقة “حدائق الأهرام” حضر الأب “أ.ب” رئيس قسم IT في إحدى القنوات الخاصة، في السابعة صباحا، بيده اليمنى يتعلق الطفل حمزة، وبيسراه يشير إليه بالتعليمات التي اتفقا عليها مساء، والأم التي تضيق حدقة عينها باتساع المبنى، تضم ابنها، وتطالبه بالثقة: “لا تقلق يا حمزة، الأسئلة هي ذاتها التي ذاكرتها بالأمس، ودرستها بالحضانة”.
تجيء مدرستان، وبعد تحية صباحية يصطحبان الطفل منفردا نحو غرفة المقابلة المصيرية، وبينما يدير رأسه لإلقاء نظرة على أبويه، تقبض إحداهما على يده، وهي تبتسم ابتسامة جافة: لا تخف، عند باب الغرفة تتجمد أطراف “حمزة”، وينادي على أبيه، يطلب حضور المقابلة لدى استغاثة ابنه البكر، فترفض إدارة المدرسة، عندئذ، يهمس في أذنه: هذه “المس” مثل مديرة الحضانة، سيعرضونك عليك صور الحيوانات، والطيور، وأنا واثق في ذكائك.
عن دقائق الانتظار يحكي “أ.ب”: مرت كالسنوات، فلم أستطع التوفيق بين قلقي، والتخفيف عن والدته المضطربة دائما منذ نزولنا من البيت، وكلما اقتربت من باب الغرفة للاطمئنان على سير المقابلة تشير إلي إحداهن بالتزام مكان الانتظار، وإلا سيصنف الطفل “اعتماديا” لا يستطيع الانفصال عن والديه.
بعد خروج “حمزة”، والحديث لـ”والده” أردت أن أصرف عنه توتر المقابلة، لكنه فاجأني: ما نوع السيارة يا بابا؟.. فأصبت بدهشة غير مسبوقة، ما علاقة نوع السيارة بقبول الطفل من عدمه، وفجأة طلبت مني مديرة المدرسة إجراء مقابلة لي، ولأمه –كل على حدة-، داخل القاعة سألت: لماذا تقتحمون خصوصية الأسرة؟.. فقالت: هذه مقاييس تقييم الطفل، والأسرة؟
أضاف الأب الذي استنكر طريقة التقييم، وشعر بندم بالغ على التجربة التي خاضها الطفل لـ”مصر360″: أن الزوجة أرهقت في مقابلتها باللغة الإنجليزية، كأنها متقدمة لوظيفة لدى شركة متعددة الجنسيات.
ولسوء أثر المقابلة على الطفل، والأسرة قرر الأب إلحاق “حمزة” بمدرسة تجريبية حكومية تضمن له مشاركة اجتماعية، ونفسية سوية، بعيدا عن الطبقية، والتمييز-على حد وصفه.
لا لمقابلات المدارس.. صرخة أولياء الأمور
بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فإن عدد المدارس الخاصة في مصر يبلغ نحو 7385 مدرسة، تمارس معظمها ابتزازا طبقيا على أطفال لم يكملوا بعد عامهم الخامس، ودون تضمين لأسباب الرفض في نتائج المقابلة الخاصة، تضع الأسر في حالة اضطراب عامة تنعكس على وجدان الطفل مستقبلا عبر عداء كامن بينه، وبين المدارس.
وعلى رغبات تتسع لدى أولياء الأمور في إلحاق الأطفال بالمدارس الخاصة أملا في مستوى تعليمي أفضل فإن وسما عبر وسائل التواصل الاجتماعي تحت عنوان “لا لمقابلات المدارس الخاصة” تصدر، وضم تجارب مؤلمة للعديد من الأسر.
من بين أولياء الأمور المشاركين في التدوين تحت “هاشتاج لا لمقابلات المدارس” كان نبيل رمزي يتأسى على إهدار حق الطفل في التعليم دون إخضاعه لتمييز سلبي، لافتا إلى أن طفله خجول بطبعه، لا يتجاوب بسهولة مع الغرباء، وعلى خصائصه هذه مرت مقابلته بنجاح في سياق الأسئلة المطروحة عليه، لكن إدارة المدرسة قالت: نريد أطفالا واثقين من أنفسهم، وذوي شخصيات قوية”.
تساءل رمزي الذي دفع تكلفة المقابلة مائتي جنيه: “هل من المنطق تقييم الأطفال في سن أربع سنوات، ومن المسؤول عن تدمير نفسية الطفل على هذا النحو”؟.
إجحاف للطفولة
في ضوء قصص متواترة من أولياء أمور حول قسوة مقابلات المدارس الخاصة، واقتحامها خصوصيات الأسر لإعلاء الطبقية على حق الطفل في التعليم دون تمييز، حذرت الباحثة بالمركز القومي للبحوث الجنائية، والاجتماعية سوسن فايد من كارثة إخضاع الأطفال –دون سن الخامسة- لما تسمى بـ”المقابلات الخاصة”، واصفة ما يجري داخل أسوار هذه المدارس بأنه “إجحاف للطفولة”.
أثر رفض الأطفال الذي تمارسه إدارات المدارس بحجة الانتقاء، والتقييم دون مرجع قانوني، ونفسي، ينعكس بحسب تصريحات أستاذة علم الاجتماع على الطفل في صور سلبية عديدة من بينها “تلعثمه في الكلام، والخجل الدائم من مواجهة الواقع”.
عطفا على الأثر النفسي للرفض غير المسبب فإن دراسات حديثة حذرت من خضوع الطفل دون سن السادسة لاختبارات، أو مقابلات على هذا النحو، وعلى حد قولها-فإن استمرار المدارس الخاصة في هذا النهج دون مراجعة من وزارة التعليم يهدد السلام المجتمعي في مصر.
تمييز ضد المرأة “المطلقة”
بدعة المقابلات التي ابتدعتها المدارس الخاصة لم تنتج فقط شعورًا عامًا بعدم الرضا لدى أولياء الأمور ممن تعرضوا للرفض، ولم تجر على حق الطفل وحده حين قررت إقصاء أبناء المطلقات من ساحة التعليم بمخالفة صريحة للاتفاقية الخاصة بمكافحة التمييز، والتي اعتمدها المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة في 14 كانون الأول / ديسمبر 1960، والتي بدأ نفاذها في مايو/ أيار عام 1962، وجاء فيها أن الإعلان العالمى لحقوق الانسان يوكد مبدأ عدم التمييز ، وأن لكل فرد الحق في التعليم.
وفيما ترويه “إ.ع” – إحدى السيدات المطلقات العاملات في مجال الإعلام- أن طفلها أحجم عن دخول المقابلة منفردا، وإزاء طلبه حضورها معه، نظرت المدرسات إلى بعضهن، وأطلقن توصيفا مريبا “هذا الطفل ابن أمه”، وبناء عليه اعترضت، واشترطت حضور المقابلة معه.
داخل مكتب المديرة، وحين سألت عن أبيه لإخضاعه للمقابلة: أعلنت أني مطلقة، وعندئذ، هزت السيدة رأسها، وقالت: إن المدرسة لا تقبل أبناء المطلقات!
على صعيد متصل روت “علا إبراهيم”-إحدى المشاركات في هاشتاج “لا لمقابلات المدارس” أنها منذ عامين، ولدى محاولة إلحاق طفلتها بإحدى المدارس قوبل طلبها بالرفض، إلا إذا حضر الأب المقابلة.
أضافت: رغم ذلك دفعت رسوم استمارة المقابلة، وهناك لم يتطرق المسئول إلا لأسباب انفصالي مقتحما خصوصيتي بما لا يليق، ومسترسلا في أسئلة غريبة لا تمت لحق التعليم بصلة، ولما اعترضت على نوعية الأسئلة، بادرني قائلا: نحن لا نقبل أبناء المطلقات بسبب المشاكل التي يفتعلها الآباء لاحقا، عندئذ صارحته بأني صاحبة ولاية تعليمية على الطفلة، لكنه في النهاية أصر على الرفض.
واستطردت قائلة: هذا الإجحاف في التعامل يفتح باب الوساطة، والمحسوبية على مصراعيه، ويضع حق التعليم في مرمى قوة النفوذ، والمادة”.
المدارس الخاصة “سبوبة” ومفرخة للتمييز: أين الدولة؟
بهذا التوحش المادي، والتوجه الطبقي حولت المدارس الخاصة التعليم إلى “سبوبة”، ومدخل للحصول على الأموال، وحسبما ترى الدكتورة ثريا عبد الجواد أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس فإن التعليم بعد طغيان هذه المدارس تحول من “خدمة”، وحق إلى سلعة و”بيزنس”.
وعلى خلفية ما يتداوله أولياء أمور الأطفال المقبلون على الالتحاق بالمدارس الخاصة فإن الطفل حسب وصف “أستاذة علم النفس” لا يعي أهمية التعليم في هذه المرحلة، لكن سعار التحول ناحية خدمة تعليمية أفضل دفع بالأسر إلى هذه الهاوية.
أضافت لـ”مصر360″ أن الطفل مع هذا التضخيم الأسري المبالغ فيه بإجراءات المقابلة، وبعد إخضاعه لمقابلة خاصة يصاب باضطراب وجداني مزمن، ويشعر في سن مبكرة بـ”خيبة أمل”، نظير رفض غير مبرر يجور على حقه الأصيل في الالتحاق بالمدرسة التي يريد.
نظير غياب رقابة الدولة ممثلة في وزارة التعليم على تصرفات هذه المدارس، لا يمكن محو أثر التمييز الطبقي المنتشر الآن -على حد قولها- لافتة إلى أن هذه الإجراءات التعسفية ضد حق الطفل تزيد من شعوره بالفشل أمام أبويه، وتحطم معنوياته في سن مبكرة.
أمام اتهامات المدارس الخاصة بـ”إشاعة الطبقية، والتمييز”، وإهدار حقوق الطفل حمل عبد الحفيظ طايل رئيس المركز المصري للحق في التعليم وزارة التربية والتعليم مسئولية توحش المدارس الخاصة، لافتا إلى أن المدارس الآن تتعامل بمنطق العرض، والطلب.
وأعرب عن أسفه إزاء تحول المقابلات المدرسية إلى مفرخة للتمييز الطبقي على أرضية السكن، الحالة الاجتماعية، نوعية السيارة، والنادي الذي تشترك به الأسرة، مستنكرا ظاهرة الانتقاء على معايير طبقية داخل المدارس التي من شأنها إزالة هذه المفاهيم، وتوعية الأجيال بخطورتها.
رئيس المركز المصري للحق في التعليم أضاف لـ”مصر360″ أنه على الرغم من مخالفة المدارس في رفض الأطفال على أساس التمييز بما يخالف كل المواثيق، والأعراف الحقوقية، غير أنه من الصعب اتخاذ إجراء قانوني ضدها دون توكيل رسمي من أولياء الأمور مجتمعين”.
مشروع قانون لتجريم مقابلات المدارس الخاصة
من زاوية رسمية وصفت إيمان صبري مدير إدارة التعليم الخاص بوزارة التربية والتعليم إجراء “المقابلات الشخصية للأطفال، وأولياء الأمور” بـ”غير القانوني”، نافية تضمين قانون التعليم الخاص ما يتيتح للمدارس تطبيق هذا الأمر، لكن المدارس على حد قولها لجأت لذلك بسبب زيادة الإقبال عليها، ونظير اشتراط كثافة محددة لا يمكن للمدارس تجاوزها.
ولفتت في تصريح صحفي على هامش لقاء خاص بـ”المدارس الخاصة” أن ولي الأمر من حقه استرداد مبلغ “استمارة المقابلة” في حال رفض طفله، داعية إلى تقديم شكاوى لدى الوزارة حال رفض المدرسة رد مبلغ الاستمارة.
لكن رد المسئولة عن التعليم الخاص، قياسا على شكاوى أولياء الأمور المتعاقبة، وطلبات الوساطة لتجاوز “المقابلة الشخصية”، وقبول الطفل، دفع النائبة فاطمة سليم عضو مجلس النواب إلى تقديم مشروع قانون لتجريم المقابلات الخاصة بالمدارس.
قالت النائبة مقدمة المشروع: إنني أتلقى اتصالات يومية، وشكاوى من المواطنين، وأولياء الأمور، بجانب طلبات للتوسط لدى المدارس الخاصة بشأن مقابلات الأطفال.
من هذا المنطلق حسبما أضافت لـ”مصر360” شعرت بضرورة إعداد مسودة قانون يجرم الانتقاء، والتمييز داخل المدارس، ويعمل به كمرجع للمدارس التي لا مرجع لها في معايير القبول، ويحافظ على حق الطفل في التعليم، ويحاصر التمييز الذي يأتي في رفض مطلق دون إبداء أسباب.
يتضمن المشروع الذي حصلنا على نسخة منه، والمزمع تقديمه للبرلمان في دور انعقاده المقبل، حظر وجود أي شكل من أشكال التمييز في اللوائح الداخلية للمدارس الخاصة، والدولية، إلى جانب عقوبة الحبس التي تصل لمدة خمس سنوات مع الغرامة البالغة “2 مليون جنيه” لمن يخالف ذلك.
وذكرت “سليم” في مذكرة إيضاحية لمشروع قانون “تجريم مقابلات المدارس” أن الفترة الماضية شهدت تنامي ظاهرة اجتماعية وصفتها بـ”الخطيرة”، والتي تتبلور في اشتراطات يجب أن تنطبق على أولياء الأمور لقبول أطفالهم بالمدارس الخاصة، والدولية.
واعتبرت النائبة عن حزب الإصلاح والتنمية أن الاشتراطات تعد جريمة تمييز واضحة، تتعارض مع نصوص الدستور، والاتفاقيات الدولية، واستطردت قائلة: لم يعد منطقيا ترك أولياء الأمور أسرى لاشتراطات مجحفة كإجادة الأبوين لتحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة، لافتة أن الأمر يتجاوز المقابلة لأجل حق التعليم، إلى كشف هيئة للأسرة لمجرد رغبتهم في إلحاق طفل بمدرسة”.
وحذرت “سليم” من فوضى مجتمعية نظير انتهاك واضح للدساتير، والمواثيق الدولية في حق الطفل في التعليم، وحرمانه لمجرد أن أحد الأبوين غير حاصل على مؤهل عال، مؤكدة أن قانون التعليم رقم 139 لسنة 1981، وتعديلاته التي أجريت في 2019 لم تتضمن أية نصوص تتعلق بهذه الاشتراطات.