كان الدكتور طارق شوقي وزير التعليم الخارج في التعديل الوزاري الأخير -ولا يزال- من أكثر الوزراء في التاريخ المصري الحديث إثارة أو اجتذابا للجدل، سواء عند اختياره وزيرا، أو طيلة بقائه في المنصب، أو بعد رحيله.
هذا طبعا لا جديد فيه، ولكن هناك بالقطع المزيد عنه، ذلك المزيد هو أن التعليم يسبق كل القضايا -بما فيها الديمقراطية وحقوق الإنسان- في اهتمامات المصريين، وأن الرجل ربما صح العزم منه، ولكن الدهر أبى، وذلك هو ما يجب أن يدور تفكيرنا كله حوله، فهل صحيح أن مشكلة التعليم العام عندنا هي فقط نقص الموارد المالية الكافية؟ وإذا كان ذلك صحيحا -وهو صحيح جزئيا- فهل من المستحيل إيجاد الحلول؟
اقرأ أيضا.. عن الحوار والحِواريين :تقدير موقف
من المحير أن دولا مثل الصين وسنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية والهند وغيرها بدأت نهضتها التعليمية من تحت خط الفقر الشامل للدولة والسكان، ليس هذا فحسب، ولكن التعليم كان هو الحل الأسرع والأنجح لمشكلة الفقر تلك، في كل النماذج المذكورة، وغيرها. ولم نقرأ أو نسمع أن ثروة مفاجئة هبطت من السماء، أو تفجرت من الأرض، فوفرت لهم الأموال اللازمة لتعليم متقدم يستوعب كل عام كل من يبلغون سن التعليم، ولا يسمح بتسرب تلميذ واحد، ولكن كل الحكاية أنهم التزموا باستراتيجيات تبدأ من واقعهم لتطويره، دون قفزات غير محسوبة على هذا الواقع، ودون أن تتغير الاستراتيجية بتغير الوزراء أو الحكومات.
البدء من الواقع لتطويره في أحوال مصر التعليمية، لم يكن يقتضي على الإطلاق التركيز على مشروع تعميم التكنولوجيا الإلكترونية في كل مكان، وفي كل مدرسة، في وقت تراكمت فيه أعداد الأطفال والمراهقين غير المستوعبين في النظام التعليمي منذ المرحلة الابتدائية، فضلا عن المتسربين منه، والمتخرجين الذين لا يختلفون كثيرا عن الأميين الأقحاح، وفي وقت اختفى فيه تقريبا “اليوم المدرسي” من أول طابور الصباح حتى الحصة الأخيرة، لتقتصر مهمة المدارس العامة على أن تكون محلا للقيد في سجلات الوزارة، والتقدم للامتحانات، وبما صاحب ذلك من توحش ظاهرة الدروس الخصوصية، لتصبح هي -بكل جرائمها- جوهر العملية التعليمية في الحياة المصرية، وذلك باستسلام يائس من الدولة وأولياء الأمور، والمعلم الذي حاول مقاومة إغراء الظاهرة، دون أن نتجاهل بالطبع كارثة التعليم الخاص، والذي تحول من شريك أصغر للمدارس العامة، إلى أن يكون هو الأصل لأبناء الطبقة الوسطى بكل شرائحها، فضلا عن أبناء الأثرياء، والذي تحول أيضا إلى مشروع تجاري ربحي بحت، وليس مكملا لرسالة التعليم العام بهامش ربح مقبول فوق التكلفة الحقيقية، كما هي طبيعة ودور التعليم الخاص في كل مكان في الدنيا، بل وكما كان الوضع في مصر نفسها، في سالف العصر والأوان!!
لكن كارثية النموذج المصري للتعليم الخاص ليست مقصورة على ما ذكرنا توا من سلبيات، إذ أنها بتعدد استيرادها لنظم تعليمية من مختلف دول العالم، وزيادة الإقبال عليها تخرج أعدادا مؤثرة من الشباب من الجنسين بعيدين عن المجرى العام للثقافة الوطنية، ومتباعدين فيما بينهم (هم أنفسهم) عن بعضهم البعض ثقافيا وشعوريا وذوقا فنيا وأدبيا وأطرا مرجعية. فيما نحن غافلون عن يوم سيأتي -لا محالة- يكون هؤلاء الغرباء عن الثقافة الوطنية، والغرباء عن بعضهم البعض هم من سيديرون البلد، ولو في المستويات الوسيطة، ودون العليا.
أذكر أنني تساءلت بعد أن عجزت وزيرة سابقة عن قراءة خطاب بالعربية في مناسبة عامة: هل اقتربنا من العودة إلى أيام كانت الخطابات الناطقة بالعربية فيها تكتب بحروف لاتينية حتى يتمكن الأرستقراطيون الأتراك المتمصرون من إلقائها، كما رأينا في رواية نجيب محفوظ (القاهرة الجديدة أو القاهرة 30)؟ كما تساءلت ماذا قرأت هذه الوزيرة ومثيلاتها وأمثالها من الإنتاج الأدبي المصري لتفهم مزايا وعيوب وثقافة وقيم شعب تشارك في حكمه؟!
نعود إلى السؤال الأصلي لهذا المقال: فهل كان (تابلت) الوزير طارق شوقي هو الذي سيحل هذه المشكلات المعقدة للتعليم في مصر؟
إن إدارة تعليمية فشلت منذ خمسينيات القرن الماضي في حل مشكلة التغذية المدرسية، في دولة قد يذهب بعض أطفالها من الأسر الفقيرة إلى المدرسة دون إفطار صحي ليست مطالبة بأن تكون أولويتها هي تعميم التكنولوجيا التعليمية، ولا هي قادرة عليه أصلا. فهذا ما أسميه قفزا على الواقع، أو حرقا للمراحل، وليس البدء من الواقع لتطويره، على ألا يفهم من ذلك بالطبع أننا لسنا في حاجة إلى التطور التكنولوجي في التعليم وغيره، ولكن في الوقت المناسب، وعلى الأجل الطويل.
لا جديد أيضا في استسلامنا جميعا لمقولة قلة الإمكانيات وضعف الموارد المالية، والاقتصادية عموما في البلاد، بوصفها السبب القاهر لتخلفنا التعليمي، والأرقام المعلنة للعجز في عدد الفصول الدراسية، وما يتطلبه سد هذا العجز من أموال تصيب من يستمع إليها بالرعب، وكذلك ما يتطلبه إصلاح حال المعلم من ميزانيات باعتبار أنه لا تعليم جيد بدون معلم جيد، ناهيكم عن التعلل بضعف الاعتمادات لتبرير مشكلة المقررات الدراسية، وانقراض المعامل المدرسية، واختفاء الأنشطة التي تشكل جوهر الشق التربوي في العملية التعليمية، بل وكما سبق القول اختفاء فكرة اليوم المدرسي ذاته، بكل مقتضياته ومسئولياته عللا التلميذ والمعلم والإدارة والأسرة والمجتمع كله، وذلك بعد اختفاء فكرة مدرسة الحي، ومجالس الآباء، ولكن بقليل من التفكير يتبين أن العلة ليست في نقص الموارد، بقدر ما هي في سوء توزيعها على المستوى القومي، وعلى سائر المستويات. فالدولة التي تنفق فيها مليارات الجنيهات سنويا على الدروس الخصوصية، والدولة التي يُدفع فيها لشريحة ليست قليلة عدة مئات أو عشرات الألوف من الجنيهات للأطفال في مرحلة الروضة، ويدفع فيها تقترب من المليون جنيه في السنة الدراسية الواحدة في المرحلتين الثانوية والجامعية ودولة تتوالد فيها المدارس الخاصة و”سناتر” الدروس الخصوصية كالفطريات.. دولة كهذه لا يصح أن ترجع سوء حال التعليم فيها إلى عجز الإمكانات ولكن إلى سوء توزيعها، أو عدم رشادة توظيفها.
بالمناسبة ليست هذه دعوة إلى إلغاء مجانية التعليم، إنما دعوة إلى إعادة التفكير والتصحيح، ولتكن البداية هي العدالة الضريبية على كل أنواع المدارس الخاصة وتلاميذها، وعلى أنشطة الدروس الخصوصية، وكاقتراح محدد ينبغي إخضاع المدارس الخاصة لضريبة أرباح، وليكن بعد خمس سنوات سماح من بداية تأسيس المدرسة، كما ينبغي فرض ضريبة على المصروفات الدراسية لكل تلميذ في هذه المدارس من أول يوم يلتحق فيه بالدراسة يدفعها ولي الأمر بمستند رسمي، ذلك أن ولي الأمر الذي يدفع مئات أو عشرات الآلوف لابنه أو ابنته للدراسة الخاصة لن يعضله أن يدفع عدة آلاف أو مئات من الجنيهات فوقها كضريبة، وكذلك يجب محاسبة مراكز ومعلمي الدروس الخصوصية ضريبيا بحسم، على أن يكون كل ذلك بقانون، وليس ارتجالا موسميا أو انتقاء مزاجيا.
ينبغي أن يكون مفهوما هنا أن ما نقترحه ليس منطلقا من فكرة معاقبة أصحاب المدارس الخاصة، أو أولياء أمور تلاميذها، ولا من معاقبة معلمي الدروس الخصوصية، ولكن المنطلق هو فكرة العدالة المجتمعية والمسئولية الوطنية، بما أننا استعرضنا منذ لحظات المخاطر العديدة التي ينذر بها الوضع الكارثي الحالي لطريقة التعليم على الجميع في مستقبل ليس بعيدا، فضلا عن مخاطره على السلام الاجتماعي، والانتماء الوطني. ثم إن هذه هي الطريقة السلمية المعمول بها في كل بلاد الدنيا للحد من ظاهرة احتكارية، أو من اتجاه رأس المال للتربح غير العادل أو المبالغ فيه في مجال معين، وتقوية الفاعلين الأضعف في هذا المجال نفسه.
كذلك ينبغي أن يكون مفهوما أن قانون فرض هذه الضرائب يجب أن ينص على تخصيص عائدها لدعم التعليم الحكومي العام ولا شيء غير ذلك، ولذا فمن الضروري والمتمم لهذا الاقتراح الشروع فورا في تأسيس المفوضية الوطنية للتعليم، التي تدير هذا العائد إلى جانب الموارد الأخرى المتاحة حاليا، والتي قد يقترحها آخرون بعيدا عن تلاعبات وفساد البيروقراطية، وبعيدا عن أهواء السياسة وتقلباتها، بما في ذلك حملات التبرع، وجمعيات النفع العام المتخصصة فقط في التعليم، خاصة وأن لمصر تجربة تاريخية غنية في التعليم الأهلي من جمعية “المساعي المشكورة” و”رقي المعارف” ومثيلاتهما حتى الجامعة الأهلية نفسها، ويفترض أن يمتد اختصاص تلك المفوضية إلى كل جنبات العملية التعليمية، من تأهيل المعلم، إلى استكمال مستلزمات المدارس، إلى إحياء اليوم المدرسي بكل مشتملاته، فضلا عن سلطة الثواب والعقاب.
حين ضربت أمثلة بعض الدول التي لم يمنعها الفقر من تطوير نظمها التعليمية بل وظفت التعليم للتنمية وزيادة الدخل القومي والقضاء الفقر الأسري، كان في ذهني مشاهد محددة رأيتها أو سمعت عنها في تلك الدول، فقد رأيت جميع الوزراء الهنود لا يستعملون سوى السيارات الصغيرة من طرازين محليين هما “تاتا” و”موراتا”، ولم أر مواكب وقوافل تصحبهم في غدوهم ورواحهم، ولم أر في مكاتبهم ومكاتب معاونيهم رياشا وفخامة، تضارع فخامة مكتب كبار موظفينا، فضلا عن كبار مسئولينا، وقد يستهين بعضنا بهذه المشاهد، إلا أنها في رأيي تعبر عن التوجه العام للنخب السياسية ولجهاز الخدمة المدنية، وهو إدراك حال بلادهم وشعبهم، والتزامهم بمعيار الجدوى والجدية في الانفاق من أصغر مبلغ إلى أكبر مبلغ.
وفي قرى سريلانكا الأفقر من الهند يعمل كل سكان القرية في خدمة المدرسة، بما في ذلك إعداد الوجبة المدرسية (بتمويل حكومي) لضمان جودتها وصحيتها، لأن الأهالي لن يضروا أبناءهم، وذلك بعد تجارب مريرة مع المتعهدين والموظفين الفاسدين.
هذه المشاهد وغيرها. وتلك المقترحات وغيرها تقول شيئا واحدا هو البدء من الواقع لتطويره، ما يعني أن تلك مهمة ورسالة بل ومعركة دولة بكاملها، ومجتمع بأسره، وليست ولن تكون مهمة أو معركة رجل واحد، أو وزير واحد حتى إذا كان اسمه طارق شوقي خبير اليونسكو المرموق، والتي يجب أن تكون تجربته وانتكاس أشواقه وشوقياته لتطوير تعليمنا آخر أوهامنا بإمكان الحرث في البحر.