لإدراك حجم التغييرات والمعارك التي خاضها وزير التعليم المُقال طارق شوقي، يمكن النظر إلى طلبات أولياء الأمور بعد خروج الوزير المغضوب عليه في التعديل الوزاري. إنها طلبات، أو مطالبات، تتناول حرفيا كل جديد أضفاه شوقي على النظام التعليمي خلال خمس سنوات من تولي المسؤولية، وتريد إلغائه؛ نظام البابل شيت في امتحانات الثانوية العامة، مادة LTC (تكنولوجيا المعلومات والاتصالات)، التابلت، التصحيح الآلي، عودة امتحانات الشهر ونظام التحسين. بل حتى المناهج، التي أجرى عليها شوقي تعديلات جذرية (إيجابية في رأي البعض ومربكة في رأي آخرين) من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية، يطالب كثير من أولياء الأمور، كما أظهرت وسائل التواصل الاجتماعي والتغطيات الصحفية، بالعدول عنها. وباختصار، يرغب أهالي الطلبة، وما اصطلح على تسميته “جروبز الماميز” كإشارة إلى مجموعات الواتسآب التي تستعملها أمهات التلاميذ، بأن تستخدم الحكومة ممحاة ضخمة، لمحو كل ما جاء به طارق شوقي، بحلوه ومرّه، والعودة إلى المربع الأول، والساحة المألوفة التي يفهمها الجميع.

اقرأ أيضًا.. “مين زحلقك؟!”.. التعليم على طريقة القرود

في مقابل هذه الرغبة “الأهلية” في التراجع أو العودة إلى نظام تعليمي قديم لطالما شكونا من تخلفه، ومن اعتماده على الحفظ والتلقين في عالم ثورة المعلومات، كان طبيعيا أن ينشأ –في جهة مقابلة- غضب وشعور بالاستفزاز من سلوك هؤلاء الأهالي الذين “يرفضون التطوير”، والذين يريدون تنشئة أبنائهم كما نشأ آباؤهم على التلقين التقليدي، ويرغبون في “إنجاحهم” بأية طريقة، سواء كانت الحفظ ثم سكب المحفوظات في ورقة الإجابة، أو حتى بالغش أيا كانت وسيلته، فالمهم أن يدخل الولد أو البنت إلى كلية القمة، أو حتى إلى أي كلية، ويحمل شهادتها، حتى لو كان يحمل معها فوق كتفيه عقلا قديما لا يواكب العصر.

إنه غضب مفهوم، في ظل سياق تعليمي تدهور عبر أجيال، وصار تراجعه في التصنيفات العالمية مضرب الأمثال، بل مثار تندر البرامج الكوميدية، وحيث أصبحت كل نظرة إلى مدارسنا العامة، التي تشكل الغالبية الساحقة من النظام التعليمي، تصيبنا بالرعب أو الأسى، فهي إما متكدسة إلى درجة تعيق عملية التعلم، أو خاوية تماما لأن طلبتها صاروا يعتمدون كليا على الدورس الخصوصية. ولهذا، كان الكثيرون في انتظار أي قشة تغيير، وعلى استعداد للصبر والانتظار (خصوصا لو لم يكونوا شخصيا من المستهدفين بالتطوير، أي من ليس لديهم أبناء حاليين في العملية التعليمية!)، وبينما تابع منتظرو التطوير ما طرأ من تعديلات، وشاهدوا الأجهزة اللوحية في يد الطلبة والتغييرات المناهجية التي تنحو نحو الفهم لا الحفظ، وتعاطفوا مع تصريحات الوزير العديدة، واشتباكه شبه اليومي، وبصورة شخصية على وسائل التواصل، وقد سكنهم الأمل وانتظروا أن يطرح مستقبلا تعليميا زاهرا، فوجئوا بخروج الوزير من الحكومة، ما مثّل في نظرهم انتصارا لأنصار العودة للوراء.

رضا حجازي وزير التعليم الجديد

وبالطبع فإننا نعلم أن “إرادة الجماهير” نادرا ما تكون عنصرا فاعلا في التغييرات الحكومية، حتى لو عبر الجمهور عن سعادته من هذا القرار أو ذاك، ولهذا فإن الغضب من “الماميز” ربما يكون مبالغا فيه، ليس فقط لأن الأمهات لسن من اتخذ قرار إقالة الوزير، وإنما لأن علم الاجتماع يعلمنا أننا ينبغي أن ننظر في خلفيات الظاهرة وشروطها المتعددة لنفهمها، لا لنختار عدوا نصب غضبنا عليه. فعلى سبيل المثال: يرتبط الفقر دائما بكثرة الإنجاب، سواء كنا نتحدث عن الفارق بين الطبقات (الطبقات الأفقر تنجب أكثر)، أو بين الشعوب (الشعوب الغنية تنجب أقل)، أو بين المناطق الجغرافية (سكان الريف ينجبون أكثر)، أو المستويات التعليمية (المتعلمون أفضل ينجبون أقل)، بل حتى داخل العائلة الواحدة (الفرع الغني في العائلة ينجب أقل من الفرع الفقير). حين نلاحظ ذلك على هذا المستوى الواسع والمتعدد، فإننا نصبح أقل قابلية لأن نتهم أشخاصا معينين بالمسؤولية عن فقرهم أو كثرة إنجابهم، فنحن نرى أن المسألة أكبر كثيرا من أسرة “عبده البواب” أو “أم سيد الشغالة”، إنها ظاهرة اجتماعية، وككل ظاهرة اجتماعية، تتعدد أسبابها ودوافعها، حتى لو يكن أصحابها واعين بهذه الدوافع والأسباب، قد يروي لك العامل الفقير الذي أنجب سبعة أبناء الحديث النبوي عن المباهاة بأمة الإسلام يوم القيامة، لكنه في الواقع لم ينجب أبناءه السبعة بسبب الحديث، وإنما يستخدم الحديث لتبرير إنجابهم، أما الأسباب الحقيقية فهي تبدأ من قلة الوعي وانخفاض الرعاية الصحية، ولا تنتهي عند محاولته “خلق” أيد عاملة تساعده في جلب الرزق، أو تكون ضمانة له في شيخوخته، بديلا عن رعاية طبية أو تأمينية قد لا يحصل عليها، أو قد تكون موجودة لكنها ضئيلة للغاية.

هكذا فإن اتهام “الماميز” أو أولياء الأمور بالوقوف ضد التطوير هو أيضا اختصار مخل، إلى درجة أنه يحيد تماما عن الهدف المختبيء وراء كل ذلك، وبعبارة أخرى فإن المهم هو السؤال” لماذا تقف الأمهات ضد التطوير؟”.

ومرة أخرى فإن محاولة العثور على إجابة ينبغي ألا تقع في فخ المستوى التالي من “الاتهام”، أي أن إجابة سؤال الـ”لماذا؟” لا يجب أن تكون: “لأن أولياء الأمور رجعيين”، وإنما ما الذي جعلهم يتمسكون بما نطلق عليه الرجعية أو رفض التطور؟ إنهم بلا شك يريدون الأفضل لأبنائهم، ومهما كان قدر التغييرات التي حاول الوزير إدخالها على النظام التعليمي، فإن “الأفضل” المستهدف ظل هو نفسه: “إحراز مجموع كبير في الثانوية العامة”. وبما أن ذلك الهدف الرئيسي لم يتطور بدوره، ولأنه لا يزال يمثل البوابة الوحيدة نحو حياة أفضل للأسر المتوسطة والفقيرة، فإن أولياء الأمور سيرفضون كل ما يجعل تحقيق ذلك الهدف أصعب، إن الثانوية العامة وامتحاناتها هي تحد صعب بما يكفي، ومرهق ومستنزف لاقتصاديات الأسر وأعصابها، وهي بهذا المعنى، لا تحتمل أي مزيد من التجريب والتلاعب، لأنه، وباللغة الشعبية “محدش هاينفعك لو ماجبتش مجموع”.

ربما كان من الأفضل إذا عدم محاولة إصلاح كل شيء في آن واحد، ربما كان ينبغي التركيز على المراحل الدراسية المبكرة البعيدة عن حقل ألغام الثانوية العامة ومكانتها المقدسة للطبقة الوسطى، ربما كان التركيز على هدف أو اثنين، مثل تحسين أوضاع المدرسين وتدريب الأطفال على التفكير العلمي أهم من توفير ملايين من أجهزة التابلت ثم التخلي عنها، ربما كان النظر إلى تجارب دول قريبة من ظروفنا الاقتصادية سيعلمنا اختيار الأولويات (لقد أصبح الهنود – مثلا- ملوك الرياضيات والبرمجة من دون جهاز تابلت في يد كل طالب)، ربما كان علينا محاولة فهم سر تخرج الآف الطلبة من كليات القمة بعقول تخاصم التفكير النقدي، إن مسألة تطوير التعليم كانت ولازالت هي جوهر تقدم الأمم، بل والحفاظ على وجودها، وهي بالتالي أهم كثيرا من توزيع الاتهامات على أولياء الأمور الخائفين.