لم يصنع طارق عامر محافظ البنك المركزي السابق، الأزمة الاقتصادية الشديدة التي تعيشها مصر الآن، ولا هو المتسبب الرئيسي فيها حتى لو كان شريكا في أخطاء السياسة المالية منذ عام 2015 وحتى اليوم.

هذه حقيقة لا يمكن إغفالها أو القفز عليها بأي شكل.

وبنفس المنطق فإن محافظ البنك المركزي الجديد لن يقدم جديدا، ولن ينجح في إنقاذ السياسة المالية وإنعاش البنوك ما دامت نفس السياسات الاقتصادية هي الحاكمة، وما دامت السلطة الحالية لا تربط الأزمة الاقتصادية الحالية بأزمة أكبر وأوسع هي كارثة حصار السياسة وتهميش المجتمع وتدجين الإعلام.

بكل الحسابات الصادقة والموضوعية فإن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلد هي في أصلها نتيجة طبيعية لاختيارات اقتصادية ومالية خاطئة منذ البداية، وهي في نفس السياق لا يمكن أن تنفصل بحال من الأحوال عن الداء الأصلي وهو الحكم الفردي الذي لا يسمع ولا يستشير ولا يهتم برأي أحد غير نفسه.

اقرأ أيضًا.. لجان “أكابر الثانوية”.. هزيمة جديدة للعدالة الاجتماعية

المشروعات الكبرى

على مدار السنوات الأخيرة واصلت السلطة الحالية سياستها القائمة على تنفيذ عدد من المشروعات الإنشائية الكبرى، حدث هذا بلا حسابات دقيقة وبلا دراسات جدوى لفائدتها على المدى القريب والمتوسط، جاء هذا بالطبع على حساب إمكانية استثمار المليارات التي أُنفقت على تلك المشروعات في أخرى إنتاجية توفر فرص العمل، وتفتح مجالا للتصدير، وتحمي البلد من الاحتياج للعملة الصعبة التي هي إحدى أهم الأزمات التي يواجهها الاقتصاد الآن.

بلا نظرة واحدة للوراء أو تقييم جاد لجدوى هذه المشروعات واصلت السلطة السير في نفس الطريق، ولم تلتفت ولو لحظة واحدة لكل الآراء التي تطالب بالمراجعة الجادة، ولا هي فكرت ولو لمرة واحدة في تهدئة الخطوات المندفعة التي جمّدت الأموال في هذه المشروعات التي عجزت بعضها، حتى الآن، عن أن تكون بديلا للمشروعات الإنتاجية، تلك المشروعات الإنتاجية التي هي الأصل في أي رؤية حقيقية لاقتصاد يحلم بالنهوض والتحرك للأمام.

كان هذا الخطأ هو الأول والأفدح والذي عمّق من أزمتنا الاقتصادية الحالية، وزاد من جراح الاقتصاد المأزوم، وفتح الباب لسيناريوهات سيئة في الأيام المقبلة.

ديون لا تتوقف

على مدار ست سنوات واصلت السلطة الحالية طريق الاستدانة بسرعة كبيرة، ديون ثم قروض لسداد الديون، ثم قروض لسداد فوائد الديون، فضلا عن أصولها، وهكذا طريق لا يتوقف ولا نعلم له نهاية، ولا أزلت أتذكر تبريرات الاقتصاديين والإعلاميين القريبيين من السلطة والتأكيد الذي لا ينقطع بأن الديون المصرية ما زالت في الحدود الآمنة، وأنها لا تثير المخاوف أبدا، في نفس اللحظة التي سيطر فيها التبرير على المناخ العام كان اقتصاديون ومتخصصون مستقلون يحذرون من الاستدانة، ويؤكدون أن الديون وصلت لمراحل خطيرة وإلى قفزات لم تصل لها من قبل في تاريخنا الحديث بأكمله، ومع ذلك لم تستمع السلطة كالعادة إلا لصوتها وصوت الذين يترنمون على وقع الاستدانة وخطورتها على البلد واقتصاده ومستقبله، ثم كانت كارثة الحرب الروسية الأوكرانية التي عمّقت من أزمة البلد الاقتصادية، وأطاحت بالمال الساخن الذي هرب إلى بلدان أكثر ربحا وأمنا، وهنا تعرض الاقتصاد لهزة كبرى بعد أن فقدت البنوك عشرات المليارات من الدولارات، وارتفعت أسعار السلع بدرجة مرهقة للطبقات الفقيرة والمتوسطة، وقفزت مؤشرات التضخم لمستويات كبيرة، وغابت العملة الصعبة وأصبحت مؤشراتها في البنوك بالسالب.

والمؤكد أن كل هذه الأزمات لم يكن طارق عامر محافظ البنك المركزي السابق هو المسئول عنها، بل هو مجرد مسئول واحد في منظومة كاملة أدارت الاقتصاد طوال السنوات الفائتة بطريقة هي الأسوأ على الإطلاق.

الحكم الفردي ليس بريئا

الإدارة هي الأصل في أي أزمات تواجهها الدول، ويخطيء من يظن أن نجاحا اقتصاديا يمكن أن يحدث في غيبة المشاركة والمساءلة والكتابة وتقديم الرأي والمشورة، أو في ظل حكم فردي لا يرى غير نفسه ولا يسمع إلا صوته.

نجاح الأنظمة في العالم الحديث أضحت له معايير واضحة، فلا النجاح الاقتصادي ممكن بدون الشفافية ومشاركة المجتمع واستقلال القضاء وحرية الإعلام الذي يراقب ويفضح كل صور الانحراف، ولا هو جائز بدون مجتمع مدني، أحزاب ونقابات وجمعيات.. الخ، تنصح وتنتقد وتقدم البدائل، ووقتها على السلطة- أي سلطة- أن تستمع وتدرس وتراجع السياسات وتعدل الخطوات وتوقف الاندفاع وتصحح الأخطاء.

كل من يمكّن للحكم الفردي في مصر هو أحد المتورطين في أزمة المجتمع وأحد الشركاء في المشكلات الكبرى التي يعانيها الاقتصاد.

خطوات للخلف وأخرى للأمام

الآن ومع أزمة مستحكمة تضرب الاقتصاد المصري بات من المهم تأكيد ما أكدناه وأكده غيرنا على مدار سنوات، فقد باتت هناك خطوات للخلف مهمة ومطلوبة وعاجلة، أهمها على الإطلاق ضرورة توقف المشروعات الكبرى لفترة زمنية، حتى يستعيد الاقتصاد عافيته، واعتبار الاهتمام بالمشروعات الإنتاجية هو الأصل في كل ما هو قادم، فضلا عن التوقف عن الاستدانة، لا سيما قروض صندوق النقد الدولي، ضرورة، وبات التركيز على الصحة والتعليم والاستثمار في الإنسان هو الخطوة الأولى نحو مستقبل مختلف وجديد، ويسبق كل هذه الخطوات ويلحقها، خطوات أخرى نحلم أن تمثل قفزات إلى الأمام، على رأسها: إعادة إحياء السياسة التي ماتت، وفتح المجال العام المغلق بالضبة والمفتاح منذ سنوات، وتأكيد حرية الصحافة والإعلام وضمان استقلال حقيقي للقضاء، والتوقف عن الملاحقات الأمنية للنشطاء والسياسيين، وضمان حرية التعبير والنقد والكتابة، واحترام حق المجتمع في أن يقدّم الحلول والخطط والبدائل.

ربما تكون هذه الخطوات هي البداية نحو إصلاح الاقتصاد والسياسة على السواء، وربما تغدو هي السبيل لإنقاذ البلد من سيناريوهات مخيفة لا قدر الله، سيناريوهات نخشاها جميعا، ولا يرغب فيها كل محب للبلد وكل من يحلم بمستقبل أفضل وأكثر تقدماً وازدهارا وعدلا وحرية.