أصبحت أفريقيا ساحة لتحقيق نفوذ القوى الدولية، خاصة في ظل حالة الفراغ السياسي الذي تعيشه عدة دول في القارة رغم أهميتها الاستراتيجية، وهو ما يفسر التحركات الأخيرة للقوى العظمى لتحقيق مصالحها في القارة. وربما يفسر أيضا التنافس المحموم بين تلك القوى من خلال تدفق ممثليها على بلدان القارة السمراء. في آخر أسبوعين فقط استقبلت تلك الدول 3 زيارات متوالية من ممثلي فرنسا وروسيا والولايات المتحدة، فيما وٌصف في بعض الأوساط بـ”السباق الاستعماري الجديد”.
من ناحية أخرى، وعلى هامش القمة الروسية الأفريقية الأولى عام 2019، وضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أطر التعاون الروسي الأفريقي كما تراها موسكو. كما أكد أن أفريقيا تمثل أولوية روسية في السياسة الخارجية. وقال: “لن نشارك في توزيع جديد لثروة القارة… وبدلا من ذلك، نحن مستعدون للدخول في منافسة من أجل التعاون مع أفريقيا”.
اقرأ أيضا.. لقاء بوتين وأردوغان في سوتشي.. تحدٍ آخر للغرب
أسباب الاهتمام الروسي بأفريقيا
مؤخرا، شهدت أفريقيا اهتماما روسيا ملحوظا وفقا لمجموعة من المنطلقات، نستعرضها كالتالي:
عقيدة بوتين الجديدة.. انعكاس طموحات وتوسيع لدائرة الصراع
جاء خطاب بوتين في مؤتمر موسكو للأمن الدولي الذي عقد يوم 16 أغسطس/آب الجاري، انعكاسا للطموحات الروسية بشأن إنهاء الهيمنة القطبية الأمريكية، والترويج لموسكو كقوة كبرى تشارك في تنظيم الخريطة العالمية، مستثمرا في فشل الولا يات المتحدة في وعودها بشأن حماية الديمقراطية وتحسين حياة الأفراد، وإيلاءها مسئولية الأزمات التي تمر بها مختلف دول العالم من حيث انخفاض مستويات المعيشة والبطالة والفقر، كما صدر التشكيك في نوايا الولايات المتحدة خلال العلاقات التي توثقها مع الدول المستقلة كونها تتضمن تنازل هذه الدول عن استقلالها بجانب المسئولية الأمريكية عن “الاستفزازات والانقلابات والحروب الأهلية والتهديدات والابتزاز والضغوط والإملاءات” التي تتعرض لها تلك الدول.
وفي الوقت ذاته، أشار بوتين إلى ميل روسيا نحو توسيع نطاق المواجهة مع الغرب، ووضع مسار يقوم على حشد البلدان التي تتفق مع مواقف الكرملين، بما يؤطر لخططها المقبلة، ومن هنا جاءت زيارة وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” مرتكزة على دول شرق أفريقيا كأول زيارة بعد الحرب لتحمل رسائل مهمة بشأن أهمية المنطقة في استراتيجية روسيا المتعلقة بالساحة الأفريقية.
التوجه إلى أفريقيا وحرب أوكرانيا.. إثبات للقوة
تضع الخطوات الروسية الأخيرة تجاه أفريقيا حجر الأساس لطبيعة العلاقات الروسية الأفريقية في الفترة المقبلة، والتي هي إحدى مخرجات الحرب الروسية الأوكرانية، حيث تعيد روسيا إعادة صياغة علاقتها بالعالم الخارجي بإضافة متغير الحرب أي كونها أحد الأقطاب التي تؤثر في خريطة العالم. كان الهدف الرئيسي من التحرك الروسي في أوكرانيا، إثبات إمكانية روسيا على خلخلة النظام العالمي، وتوسيع نفوذها في دوائر عدة منها .
في منطقة القرن الأفريقي، تسعى روسيا منذ وقت طويل للحصول على قاعدة عسكرية ولكن لم توفر لها عناصر تحقيق هذا الهدف، وعلى النقيض تنتشر القواعد الأمريكية في أفريقيا من شرقها إلى غربها.
التدافع الجديد لأفريقيا
يواجه المشهد العالمي الحالي استقطابا متزايدا بين القوى الكبرى على رأسها الولايات المتحدة وروسيا والصين، ومؤخرا، تفاقمت التوترات الأمريكية الصينية بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي “نانسي بيلوسي” لتايوان، والتي وظفتها الصين على أنها توغل غربي، وتمثل أفريقيا ساحة تنافس مركزية بين القوى الكبرى، حيث يرى المحللون أن زيارة وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكين” لأفريقيا لجنوب أفريقيا والكونغو ورواندا، استهدفت مواجهة تأثير بكين الهائل في القارة.
ومن جانب أخر، تقويض نفوذ موسكو وتعزيز الدعم الأفريقي لموقف واشنطن بشأن الحرب في أوكرانيا، كما تشمل إعادة صياغة لأهمية أفريقيا بالنسبة لمصالح الأمن القومي الأمريكي، وكذلك تعترف بمركزية القارة بالنسبة للمصالح الوطنية للولايات المتحدة، الذي يعد خروجا ملحوظا عن رؤية القارة كمصدر للتهديدات إلى موقع الجزء من الحل.
عملت الحرب الروسية على إعادة تلميع أفريقيا كساحة تنافس دولي، باعتبارها ساحة مهمة لتحدي النظام الدولي القائم، مثلت الزيارات الأجنبية المتوالية فرصة لكيل الاتهامات بين الدول المتنافسة، وخلال اجتماعات بلينكين مع نظرائه، ألقى باللوم على بوتين في انعدام الأمن الغذائي الأفريقي، وحذر من خطر الحرب بالوكالة من خلال دور روسيا في القارة. لاسيما قوات فاغنر، كما أشار إلى الدول الفاعلة في المنطقة “لن تملي الولايات المتحدة خيارات على أفريقيا”، بالإضافة إلى رغبة الولايات المتحدة في إدراج الأصوات الأفريقية في خطاب المحيطين الهندي والهادئ.
ومن الواضح جليا خلال الفترة الأخيرة، أن روسيا حققت استحواذا كبيرا في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، حيث تنتشر قواتها العسكرية على طول المنطقة، كما استفادت من النفور الأفريقي من التواجد الفرنسي وإعلان الدول الأفريقية رفضها تدخل فرنسا في شئونها، ما يعطي روسيا دفعة قوية نحو تطويق أفريقيا من ناحية الشرق لما تحمله هذه المنطقة من أهمية استراتيجية بالإضافة إلى أنها الجانب الأفريقي المواجه لدول الخليج.
وفي تقرير تحليلي تقول “إليزابيث سيديروبولوس“، رئيسة معهد جنوب أفريقيا للشؤون الدولية في جوهانسبرج: “لقد نظرت القوى العظمى إلى القارة بأكملها منذ بضع سنوات على أنها مكان لممارسة النفوذ.. بالتأكيد هناك قلق من الجانب الأمريكي بشأن النفوذ المتزايد لهذين البلدين (روسيا والصين) في القارة على خلفية تصاعد التنافسات الجيوسياسية”.
إبعاد أفريقيا عن التعاون مع أمريكا
بدت سياسة بايدن منذ ولايته ذات طابع انعزالي مما أفسح القوى الكبرى لملء الفراغ الناجم عن الانسحاب الأمريكي، وشكلت الحرب الروسية الأوكرانية دافعا أمام الولايات المتحدة لإعادة تقييم سياستها في مناطق الحضور الأمريكي، التي انعكست من خلال مطالبته لدول أفريقيا والشرق الأوسط دعم موقف الغرب في الحرب أمام روسيا، كما في زيارته لدول الخليج في منتصف يوليو/ تموز، والتي أثبتت فتور العلاقات بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط.
ثم جاءت زيارة وزير الخارجية الأمريكي لأفريقيا في أعقاب جولة لافروف لتحاول تحقيق بعض الطموحات الأمريكية باعتبار الساحة الأفريقية أحد مسارات السياسة الأمريكية الجديدة، وأيضا لكونها مركزا للتحولات الجيوسياسية الراهنة، بالإضافة إلى أن النفوذ الروسي المتزايد في أفريقيا يمثل مصدر قلق كبير للولايات المتحدة، وتطلبت الاستراتيجية الأمريكية الجديدة لدول جنوب الصحراء التي تحمل استقطاب ومناشدة للدول الأفريقية، استجابة عاجلة من روسيا كما بدا في خطاب بوتين الأخير.
عدم إدانة غزو أوكرانيا.. حرص أفريقي على المصالح
عكست أنماط التصويت المتباينة وتحفظ بعض الدول الأفريقية على الإدانة الصريحة للغزو الروسي، خلال جلسة مجلس الأمن، حرص الدول الأفريقية على مصالحها مع روسيا، حيث امتنعت 25 دولة على إدانة الغزو، بهدف تجنب الوقوع في فخ التنافس بين روسيا والغرب، مؤكدين: “نحن لا نؤمن بأن نكون أعداء لعدو شخص ما”.
تهدف روسيا إلى مواجهة الغرب من خلال بناء سمعتها كمدافع عن أفريقيا، حيث عملت على تصحيح الصورة الخاصة بمسئولية روسيا عن تصدير الجوع إلى أفريقيا، وألقت باللوم على العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على روسيا في ارتفاع أسعار الحبوب، كما أكدت قوة العلاقات الاستراتيجية التي تجمعها بمصر، بالإضافة إلى إعلانها التضامن السياسي مع رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” في مواجهة الضغوط الغربية.
أدوات الحضور الروسي في أفريقيا
كقوة عظمى، تمتلك روسيا عديد من الأوراق التي تستطيع بها نشر تواجدها في القارة:
اقتصاديا، تضاعفت التجارة بين روسيا والدول الأفريقية منذ عام 2015، لتصل إلى حوالي 20 مليار دولار سنويا، كما تعمل روسيا على جذب مزيد من الدول نحو التعاون دون شروط سياسية، حيث أعلن لافروف عن أهمية القمة الروسية الأفريقية المقرر عقدها في إثيوبيا في أكتوبر/ تشرين الأول، حيث جاري الإعداد لجملة من اتفاقيات التجارة والدفاع لتعزيز العلاقات.
عسكريا، في أوائل يناير/ كانون الثاني، تم نشر مئات المستشارين العسكريين الروس في مالي، كما تقدم روسيا تدريبات عسكرية لكلا من لسودان وتشاد وغينيا كوناكري وغينيا بيساو وليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، وتركزت تجارة موسكو مع أفريقيا على الدفاع من بيع البنادق الآلية إلى الطائرات المقاتلة، وطبقا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، إن أفريقيا تستورد ما يقرب من نصف معداتها العسكرية من روسيا، كما ارتفع عدد الدول الأفريقية التي تشتري أسلحة من روسيا إلى 21 من 16 في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
سياسيا، تسترشد الجهات الفاعلة الروسية باستراتيجية فضفاضة في علاقتها بالنخب السياسية في أفريقيا، ومع ذلك، فإن المشاركة الفعلية لا تتم فقط من قبل الجهات الحكومية، ولكن أيضا من قبل التكتلات المدعومة من الدولة والشركات الخاصة المرتبطة سياسيا، ومن اللافت أيضا أن زيارة لافروف شملت إثيوبيا وأوغندا، اللتين توترت علاقاتهما مع الغرب مؤخرا، بسبب مزاعم انتهاكات حقوق الإنسان على أيدي قوات أمن الدولة والعنف الانتخابي.
مصر وروسيا.. علاقات ممتدة مع الشريك الأفريقي الأول
ترتبط روسيا بعلاقات طويلة المدى بمصر، وشكلت مصر محطة رئيسية في جولة لافروف لكونها تتقاطع بين السياسات الروسية الأفريقية والعربية، ونظرا لمشاركتها في قمة جدة التي جمعت زعماء المنطقة بالرئيس الأمريكي، كما قادت مصر موقفا حياديا تجاه الحرب الروسية الأوكرانية.
وأكد لافروف لنظيره المصري سامح شكري، أن روسيا ستلبي طلبات الحبوب، حيث تصنف مصر بين أكبر مستوردي القمح في العالم، وأشار إلى أن مصر هي “الشريك الأول لروسيا في أفريقيا”، وأن البلدين يحققان 5 مليارات دولار في التجارة السنوية، وتأتي زيارة لافروف للقاهرة في الوقت الذي بدأت فيه شركة روساتوم الروسية بناء محطة الطاقة النووية بقيمة 26 مليار دولار.
بناءً على ما سبق، في حين تحاول الدول الكبرى كسب النفوذ وتعظيم المصالح من خلال علاقتها بالدول الأفريقية، إلا أن التداعيات الرئيسية لهذه التدخلات ربما تتضمن تأثير على قيم الديمقراطية، وتدفع في اتجاهات ضمنها صراعات بين النخب السياسية، وتستهدف في ذات الوقت، الاستفادة من موارد الدول، وأحيانا إطالة أمد الحروب والنزاعات، بجانب تعزيز التبعية الاقتصادية، ما يساهم في عجز القرار الوطني والإرادة السياسية للدولة.