خمس شخصيات حُبب إلىَّ الحديث عنهم، جمال عبد الناصر، ومحمد عوده، ومحمد حسنين هيكل، وكامل زهيري، وأحمد بهاء الدين، زعيم استثنائي، وأربعة من كتاب الصف الأول في عالم الصحافة، يجمع بينهم أنهم على رأس قائمة الذين ما زلنا نفتقد وجودهم كلما طال الغياب.

يجمعني بثلاثة منهم غير المهنة التي حبَّبوني فيها، وتركت المحاماة لأجلها، أننا جميعًا من خريجي كلية الحقوق جامعة القاهرة (عوده وزهيري وبهاء الدين).

حديثي في هذا المقال عن واحدٍ من هؤلاء الخمسة، عن أستاذنا أحمد بهاء الدين الذي يصادف يوم الأربعاء المقبل (24 أغسطس) الذكرى السادسة والعشرين لرحيله، وكان قد لمع اسمه ولم يكن تعدى العشرين من عمره، وصار رئيسًا للتحرير وهو ابن الثلاثين، وظل يكتب حتى بلغ الثالثة والستين، وسكت عن الكلام، وقضى آخر ست سنوات له على ظهر الدنيا في غيبوبة طويلة، بدا كأنه فضَّل الغياب عن الزمن العربي الذي كان قد بدأ رحلة السقوط، استمرت غيبوبته من شتاء 1990 إلى صيف 1996 ليرحل في صمتٍ بليغ عن عمر يناهز التاسعة والستين.

**

يتربع أحمد بهاء الدين على رأس قائمة محدودة من الكتاب الذين لم تغيرهم تقلبات الأحوال، لم يفقد ظله، ولم يتنكر يومًا لرؤية تبناها، أو فكرة آمن بها، نال في حياته وبعد وفاته من الاحترام والاهتمام والتقدير اللائقين بمسيرته مع القلم، وظل ذكره حيًا في قلوب القراء في مصر وفي كثير من بلدان العرب.

واحد من أهم دروس تجربة ومسيرة أحمد بهاء الدين يتمثل في ابتعاده المتعمد عن الالتحاق بركاب السلطة، وحرصه الشديد على استقلالية رأيه، كانت آراؤه تصدر عن قناعاته، سألت الكثيرين ممن كانوا في السلطة أو اقتربوا منها سواء في زمن عبد الناصر أو في زمن السادات، واجتمعت كلمتهم على نزاهة «بهاء الدين» الشخصية وضميره اليقظ، واستقلاليته التي ظل يحرص عليها طول الوقت.

**

الوزير محمد فائق الذي تولى حقيبة الإعلام في وزارة عبد الناصر التي تشكلت عقب الاستفتاء على برنامج 30 مارس سنة 1968 قال لي بالحرف الواحد: «أحمد بهاء الدين كان يكتب متفقًا مع سياسة الدولة بدون أية معلومات، وبالطبع من دون أي تعليمات»، من ناحيته يؤكد كامل زهيري نقيب الصحفيين الأسبق أن بهاء الدين ظل طول الوقت معتزًا بنفسه، شديد الحساسية تجاه استقلاليته، وكان يقول وهو على رأس جريدة الأهرام: أنا مضطر أنشر صور جيهان السادات لكني لست مضطرًا بالنسبة لزوجة رئيس الوزراء عبد العزيز حجازي.

يؤكد زهيري على أن بهاء كان يؤيد عن اقتناع، وليس عن أوامر، وكان في تأييده ينطلق من قناعاته، وأعتقد أن الهزيمة في سنة 1967 هزت بهاء جدا، وتركت داخله مرارة شديدة، هذه المرارة لم تكن مجرد مشاعر حزن، ولكنها صارت مواقف يعبر عنها «بهاء الدين»، ولعل موقفه وهو نقيب الصحفيين من نتائج الهزيمة، وإصراره على إصدار بيان يتبنى فيه مطالب المظاهرات الطلابية والشعبية رغم مطالب كثيرة جاءته من السلطات المختلفة بعدم إصدار البيان، وهو موقف يدل على شجاعته واستقلالية رأيه، آثر أن يعلنه في وقته ويتحمل نتائجه راضيًا.

**

بعد وفاة عبد الناصر كان قلم بهاء الدين من أقوى الأقلام التي دافعت عن الرجل وتجربته، وتصدى للحملة التي نالت من عبد الناصر في السبعينات، وكتب مقالاتٍ كثيرة في جريدة الأهرام، ولعل عموده الشهير بعنوان «موتوا بغيظكم» يمثل نموذجًا جليًا للتمسك بالمبادئ، في الوقت الذي انقلبت فيه مجاراة للعهد الجديد معظم الأقلام التي كانت تسبح بحمد الرجل وهو على قمة السلطة في مصر.

يلخص أحمد بهاء الدين علاقته مع السادات بقوله: الرئيس السادات في خلال ثماني سنوات قد صادقني مرارًا، ونقلني من مكاني كعقاب مرة، وفصلني من العمل الصحفي مرة، وأوقفني عن الكتابة مرتين، وكان هذا الصعود والهبوط، المتوالي مصدر حيرة لكثيرٍ من السياسيين والزملاء الصحفيين والقراء.

كانت العلاقة بين بهاء والسادات قد بدأت قبل أن يتولى السادات السلطة، بالتحديد في العام 1957 حين اتصل به السادات ليعلمه أنه تم اختياره للانضمام الى اللجنة المصرية للتضامن الآسيوي الأفريقي، يقول بهاء: وقبل أن يضع سماعة التليفون حرص على أن يقول لي: على فكرة أحب أقول لك إن الرئيس عبد الناصر شخصيًا هو الذي وضع اسمك بين أعضاء اللجنة، أنت ونجيب محفوظ، قالها بلهجة توحي بأنه يظن أنني أعرف جمال عبد الناصر شخصيًا، وهو أمر غير صحيح.

**

بعد أحداث مايو سنة 1971، فوجئ الأستاذ بهاء بصدور قرار السادات «بتعيين يوسف السباعي رئيسًا لمجلس إدارة دار الهلال، ونقل أحمد بهاء الدين من موقعه رئيسًا لمجلس إدارة دار الهلال الذي استمر فيه لسبع سنوات ليصبح رئيسًا لمجلس إدارة روزاليوسف»، وغضب بهاء غضبًا شديدًا، وكتب للسادات رسالة عنيفة قائلًا: «لقد اخترعت الثورة صحفيين وكتابًا ودكاترة في كل مجال، ولكني لست أحد اختراعات الثورة، فمن حقي أن يُؤخذ رأيي في أي أمرٍ يتصل بي شخصيًا، فلا أقرأه في الصحف دون سابق علم، ولا أتحرك كقطعة شطرنج من مكان إلي مكان بلا رغبة».

وجدها هيكل فرصة وتدخل بين السادات وبهاء الدين، لمحاولة حل الأزمة، واقترح عليهما أن ينتقل بهاء إلى الأهرام كاتبا، وتم الأمر على هذا الشكل، وابتعد بهاء الدين عن المناصب الصحفية من مايو 1971 حتى مايو 1974 حين أصبح الخلف الثاني لمحمد حسنين هيكل في رئاسة تحرير الأهرام بعد فترة على أمين التي لم تستمر أكثر من ثلاثة أشهر، وقد أسندت رئاسة مجلس الإدارة إلى الدكتور محمد عبد القادر حاتم، وعُيّن أحمد بهاء الدين رئيسًا لتحرير الأهرام، وظل في هذا المنصب إلى أن عُيّن إحسان عبد القدوس رئيسًا لمجلس الإدارة، وعلى حمدي الجمال رئيسًا للتحرير في 11 مارس 1975.

وهكذا بدأت مسيرة التباعد عن السلطة من جديد تتسع خطواتها، حتى وصلت إلى الفراق النهائي، بعد أن رفض بهاء الدين كتابة خطاب السادات في أعقاب انتفاضة يناير 1977 التي كان السادات يسميها انتفاضة الحرامية، وهكذا أسدل الستار عن رحلة قصيرة في حياة أحمد بهاء الدين وهو بالقرب من صانع القرار، ليترك المجال من بعده لهؤلاء الذين يتقنون فن الكتابة لقارئٍ واحدٍ هو الرئيس.

**

أكثر ما نحتاجه في أيامنا هذه هو فكر بهاء الدين المستنير، وتلك النظرة الشمولية للتنوير التي كان يعبر عنها مشروعه الفكري، وقد كان له في قضية التراث له رأي متوازن، وفي مسألة مواكبة العصر والاستفادة من تطور الحضارة الغربية كان له اسهام متفرد، وكانت له رؤية واضحة في مواجهة التحديات الجديدة والمستجدات المفروضة على الأمة، وفي قضايا تحرير المرأة كانت له مواقف وآراء تقدمية، وإلى جانب ذلك كله كانت له إضافات اختص بالتركيز عليها ونجح في إلقاء الضوء الكاشف عليها، ومنها قضايا وطنية واجتماعية وتنموية وحضارية كان له سبق الإشارة إليها وتحليلها وتقديم رؤية معمقة للتعامل معها.

**

امتلك «بهاء الدين» نظرة شمولية لمشروع التنوير بدأت من قناعته الراسخة بأهمية قراءة التاريخ، ودراسته، والوعي بحركته، واستشفاف قوانينه، والتعرف على دروسه المتجددة، وكتب كثيرا حول الفرق بين الأمم المتقدمة في ركب الحضارة التي لا تعترف بمقولة أن التاريخ يعيد نفسه، وبين الأمم المتخلفة التي تعيش في دوائر مفرغة ومتاهات فرعية، تعاني المشكلات نفسها التي عانت منها أجيالها السابقة.

تمنى بهاء الدين إعادة كتابة التاريخ المصري الحديث، ولكن ظروف عمله الصحفي حالت دون إنجاز ما تمناه، وهي قناعة ظلت تتردد في كتاباته، ويحرص على التأكيد على أهميتها، ولعل كتابه الملهم «أيام لها تاريخ» يقدم النموذج الفذ للوعي بهذه القضية، فقد كان تعريف الإنسان الذي يتبناه هو أن «الإنسان حيوان ذو تاريخ» يستطيع أن يستفيد من تجارب الماضي، ويتجنب زلات من سبقوه، وهذا هو مفهوم التقدم.

**

كان «بهاء الدين» عروبيا بامتياز، وداعية إلى الوحدة العربية على أسس شعبية ديمقراطية، وعروبته كانت واحدة من أهم منطلقاته الفكرية التي آمن بها مبكرًا، حتى قبل بزوغ التوجه القومي لثورة يوليو 1952، وظلت تشكل الأساس للكثير من مواقفه السياسية، ورفضه طول الوقت النزعات الشوفينية والدعوات الانعزالية.

ساهم «بهاء الدين» في تنوير الرأي العام حول فكرة الوحدة العربية، وله في ذلك كتابات كثيرة، كأنها كتبت اليوم وفي ظروفنا الحالية، وكان دائم التأكيد على أننا في مواجهة مزدوجة تشمل التحديات الداخلية والخارجية معًا، وإن كان يعطي للمواجهة الشاملة مع التحديات الداخلية أولوية التركيز عليها لأنها في نظره مقدمة طبيعية لتحسين شروط مواجهتنا مع التحديات التي تأتينا من الخارج، أو تفرضها علينا القوى العالمية.

**

ظل الأستاذ بهاء يؤكد على أن الوطن العربي كان وما يزال في حاجة ماسة لصيغة تجمع قواه وتوحد مقاصده، وتُمتّن العلاقات البينية عبر مكوناته المتعددة، وهذا هو التحدي الذي تفرضه علينا مواجهة الخارج وتيارات وعواصف القوى الكبرى، قبل أن تفرضه عوامل الوحدة المتوفرة بين الأقطار العربية من وحدة اللغة والتاريخ المشترك وتكامل الجغرافيا.

وإلى جانب ذلك يبقى تحدي الحفاظ على استقلالنا القومي والوطني، وهو –في نظر بهاء الدين– أهم التحديات التي تفرضها علينا تيارات وعواصف القوى الكبرى الطامعة في ثروات العرب، والطامحة إلى السيطرة على مقدرات وقرارات وسياسات كل الأقطار العربية.

لم تكن تحديات الخارج تنسيه التحدي الداخلي وكان يسميها تحديات فينا، وفي نفوسنا، ومجتمعاتنا، وهي التي يجب أن يتم التركيز عليها وبذل الجهد والعرق والفكر في طرائق تطويرها وتغييرها ذلك أن «أمور الأمة العربية الداخلية وحياتها مع نفسها لو استقامت لتغير الموقف تماما بالنسبة إلى كل شيء، حتى التحديات الخارجية سوف يتغير وضعها وسوف تسهل مواجهتنا إلى حد بعيد».

**

الديمقراطية وحرية الرأي والعقلانية، هذا الثالوث من القيم والمبادئ هو المقدمة الطبيعية لأي محاولة لتجاوز للأوضاع القائمة والقاتمة في ربوع وطننا العربي كله، فالمجتمعات في مشروع «بهاء الدين» الفكري والحضاري لا تتقدم بالقوة المادية وحدها، فكل مجتمع ناهض لم يحقق نهضته وتقدمه المادي إلا بعد أن استتبت لديه “قيم”، و”مؤسسات”، و”نظم” تسمح بقيام هذا التقدم المادي وتضمن استمراره على أساس متين.

عملية تهيئة البيئة لأي تقدم مادي مأمول تبدأ من أن تستقر في وعي وضمير المجتمع قيم الديمقراطية وحرية الرأي وقبول الآخر مع العقلانية، وأن تستقر للشرعية قواعد مرسومة ومتفق عليها ومُتوافق حولها لا يمكن كسرها أو تجاوزها باعتبارها الأساس لكل بناء وتقدم ونهضة.

**

جسدت سيرة «أحمد بهاء الدين» النموذج الذي حاول وظل يجاهد بالكلمة من أجل تكريسه في الواقع العربي الذي كان مهتما به ومهموما لأجله، وفي الواقع المصري الذي كان يعايشه عن قرب ويعيش فيه، وتؤرقه إحباطاته وتراجعاته.

فلم يكن داعية لا تفتر همته من أجل الديمقراطية فقط، لكنه كان مثالًا لاحترام الرأي الآخر، وكتب يوما يقول: «إن منع الرأي المخالف لرأيك بأي طريق من الطرق لا يخدم رأيك، إن كل النيران التي في الدنيا لا يمكن أن تلتهم رأيا واحدا، إذا كان هذا الرأي صائبا، ولعلها تخدمه إذا كان ضارا. إن الطريقة الوحيدة هي أن تصطدم الآراء وتُناقَش علنا في حرية، إذا كنت تحب المجتمع أكثر مما تحب رأيك المنسوب إليك».

**

قدم بهاء الدين نموذجًا حيًا للعقلانية في المستوى الفردي، وكثيرًا ما كان يردد أن قضية القضايا تتمثل في أن نعيد للعقل مكانته في حياتنا العربية.

العقلانية، والديمقراطية، والشرعية، هي شروط لازمة لأي نهضة تستهدفها أمة العرب ـ حسب مشروع «بهاء الدين» ـ وفي كلٍ منها تفصيلات كثيرة، وكتب في كل واحدةٍ من هذه التفصيلات العديد من المقالات، وخصص لبعضها عددًا من الكتب، وظلت على مدار مشواره المهني والسياسي والفكري هي البوصلة التي حسمت توجهاته وقادت خطواته وأثَّرت على قراراته وأثرَت كتاباته.

«الشرعية» كواحدة من الأيقونات الثلاث في مشروع «بهاء الدين» بقيت لها أهمية خاصة، بل أهمية قصوى، وهو يراها مفتاح نهضة الأمة وتقدمها، وهي في نظره البوابة الرئيسية إلى التقدم، وفي هذا يفرق «بهاء الدين» بين مفهومي الشرعية والقانونية، لأنها حسب الجوهر أوسع من الجانب الشكلي للقانونية وأعمق في مغزاها ومعناها، فاقتناع الشعب بأحقية السلطة وجدارتها هو جوهر «الشرعية» ومضمونها، هذا الاقتناع أو لنقل هذا الرضا الشعبي الذي لا يمكن الاستعاضة عنه بأي شكلٍ من أشكال التسلط والترهيب والنفوذ، حتى لو جرت كلها في ظل ترسانة من القوانين والدساتير.

**

منذ 95 سنة ولد «أحمد بهاء الدين» (11 فبراير 1927)، ومنذ 26 سنة رحل عن دنيانا (24 أغسطس 1996)، لكنه لا يزال باقيًا بيننا، وسيبقى من بعدنا، ليس لأنه كان كاتبًا كبيرًا، ولكن لأنه كان بالأساس صاحب مشروع فكري كبير، بدأ العمل عليه من أول مقال له وهو مازال تحت العشرين، وظل يعمل من أجله حتى آخر عمود صحفي كتبه وهو يقترب من الخامسة والستين، وبعدها توقف قلمه عن الجريان على صفحات الورق.

في تقديمه لكتاب «مقالات لها تاريخ» الصادر عن «مؤسسة روزاليوسف» من إعداد الكاتب الصحفي «رشاد كامل»، أبدى نجله الصديق «زياد بهاء الدين» دهشته وربما انزعاجه، من قدر ملاءمة كتابات الأستاذ «أحمد بهاء الدين» بشأن قضايا: القانون، والدستور، والعدالة الاجتماعية، والمرأة، والحرية، والفن، والإبداع، والعروبة، والنمو الاقتصادي، وغيرها، لعصرنا وظروفنا الراهنة، وكأنه كان يكتب وهو جالس بيننا، يتابع ذات الأخبار، ويسمع ذات الوعود، ويُنصت للناس ويشعر بهم.

منبع الدهشة لدى مطالعة كتابات «بهاء الدين» أنها ما تزال طازجة رغم مرور السنوات الطوال، ومصدر الانزعاج أنها تبدو صالحة ليومنا هذا، كأننا لم نبارح أماكن تخلفنا، وما نزال منذ رحل عن دنيانا نراوح في المكان نفسه، وهكذا هم أصحاب الرؤى الثاقبة والمشاريع الكبيرة، لا تموت كلماتهم، بل تلمع وتضيء وتنير على مر العصور.