جزيرة الوراق ثاني أكبر جزيرة بنهر النيل بعد جزيرة الروضة بالقاهرة. حيث تبلغ مساحتها 1600 فدان. ابتلاها موقعها السحري في قلب النيل بلفت نظر أهل الاستحواذ والمال الإماراتي الذي يشتري كل شيء بما فيها البيوت وأهلها.
مرة يضعونها في مخطط المحميات الطبيعية. وأخرى يزيلونها من قائمة المحميات تمهيدا لإعادة تخطيطها باسم مدينة حورس وطرحها للاستثمار والأدق أن نقول الاستحواذ الإماراتي.
وفي كل مرحلة من مراحل اللعبة السياسية الاقتصادية يرفض الأهالي عملية تهجيرهم تحت أي شعار. فهم متمسكون بموطنهم الأصلي. وباتوا يواجهون في مقابل هذا التمسك تُهما جاهزة من نوعية “استعراض القوة-منع موظفين عموميين من ممارسة أعمالهم-البلطجة وقطع الطرق”. فكيف تحول أهالي الوراق من مواطنين آمنين في منازلهم إلى متهمين بالتعدي على ممتلكات عامة وخاصة ومشاغبين لمجرد احتمائهم ببيوتهم؟
شهيد الأرض
في مطلع شهر يوليو/تموز عام 2017 شهدت الجزيرة أحداثا تصدى فيها الأهالي لحملة “إزالة المخالفات والتعديات على أملاك جزيرة”. وذلك بناء على القرارات الصادرة من وزارة الزراعة والري والأوقاف. بالاشتراك مع الأجهزة التنفيذية بمحافظة الجيزة.
وأثناء نزول القوات إلى أرض الجزيرة تجمع الأهالي في أماكن عدة. حيث فوجئوا بمعدات الهدم. ما أدى إلى اشتباكات بينهم وبين الجهات التنفيذية للدولة تمسكا بمنازلهم وأراضيهم. التي يعملون بها بالزراعة والصيد. وأسفرت الاشتباكات عن استشهاد المواطن سيد الطفشان والقبض على 9 من الأهالي. فيما تجددت المواجهات في إبريل/نيسان 2018 ثم يونيو/حزيران عام 2019 وامتدت المواجهات ليونيو/حزيران 2022.
حُكم على العشرات من أهالي الوراق في القضية رقم 9157 لسنة 2017. ونسب للمتهمين خلال التحقيقات أنهم “قذفوا القوات بالطوب والحجارة وإطلاق أعيرة نارية وخرطوش”. ما تسبب فى إصابة 33 ضابطا وفرد شرطة على أثر الأحداث. وتم تحويل 35 متهما للمحاكمة نالوا أحكاما بين 5 و15 سنة مشددة. ما زاد حالة الاحتقان بين أهالي الجزيرة وأجهزة الدولة التنفيذية وما زالت حالة الاحتقان في تصاعد حتى الآن.
نزع الملكية
تجددت الاشتباكات مؤخرا في الوراق على أثر قيام الأجهزة التنفيذية مصحوبة بقوات الأمن برفع قياسات منازل منطقة “حوض القلمية” المجاورة للأبراج الحكومية ومنطقة الثلاثين مترا. وهي المطلة على شاطئ النيل والتي كانت هيئة المجتمعات العمرانية أعلنت نيتها نزع ملكيتها لاستكمال محور روض الفرج “تحيا مصر”.
ودخلت قوات الأمن للمنطقة ومنعت الحركة بين الجزيرة والشطر الثاني. وتم منع أصحاب المعديات من العمل. وبدأت القوات إطلاق قنابل غاز مسيلة للدموع على السكان وفق “مختار س.” من أهالي الجزيرة. وبدأت الاشتباكات بين الطرفين وألقت الشرطة القبض على 23 من الأهالي. وبعد دخول الشرطة لرفع قياسات البيوت تم محاصرتهم من الجهتين داخل الشوارع من الأهالي. وطالبوا الشرطة بإخلاء سبيل من تم القبض عليهم مقابل فتح طريق للعساكر للرجوع.
دارت الاشتباكات على مدار يومين متتالين عندما نفدت ذخيرة القوات الأمنية من القنابل المسيلة للدموع. والتي استخدمت بكثافة طوال اليومين. فاضطرت لقبول التفاوض وبدأت التراجع السريع في مواجهة الاحتجاجات والإفراج عن 23 شخصا من الأهالي تم القبض عليهم.
“الأزمة تجددت بسبب ملاك باعوا الأرض للحكومة وعليها منتفعون لم يحصلوا على تعويض. وطالبتهم الأجهزة بمغادرة المكان لإزالة مساكنهم وليس لديهم أماكن بديلة”. هذا ما قاله يحيى الشحات -رئيس الوحدة المحلية لجزيرة الوراق سابقا لـ”مصر 360″.
وذكر “الشحات” أن قوات الأمن تقوم بعملية “إخلاء قسري” للمؤجرين دون توفير بديل أو منحهم ضمانات لأن معظمهم مواطنون “غلابة من كبار السن”. مشيرا إلى أن هيئة المجتمعات العمرانية تمتلك حاليا أكثر من 70% من مساحة الجزيرة. وبإمكانها بناء وحدات سكنية على هذه الأجزاء ونقل السكان فيها بدل عمليه التهجير القسري التي تتم الآن -حسب قوله.
تهجير لا تطوير
السكان من جانبهم لا يرفضون التطوير لكنهم يرفضون التهجير -حسب “م. أ” التي قالت لـ”مصر 360″: “ييجوا يعملوا شبكة صرف صحي إحنا نساعدهم. يطوروا المنازل واحنا فيها. إيه الضمان أنهم هيرجعونا تاني للمكان. إحنا ماستلمناش عقود منهم تؤكد صدق كلامهم. رغم أننا عايشين هنا من عشرات السنين وبندفع عوايد للحكومة عن منازلنا اللي عايشين فيها”.
وتساءلت: “هو دا مش إثبات إننا لينا حق؟. طيب لحد ما يخلصوا هروح فين وهناكل منين؟ أنا جوزى صياد لما نسيب المكان يشتغل إيه وناكل منين”. فيما يقول “ع. ن”: “اتولدنا واتربينا هنا. مظبطين حياتنا هنا. مرتبطين بالمكان هو جزء مننا”. وواصل: “الجزيرة قايمة على نظام التكافل الاجتماعي. كلنا عارفين بعض وبنساعد بعض وبنكفل بعض. أنت لو نزعتهم مننا فأنت حرفيا بتقضي علينا. لو حصل تفاوض جاد يُقر حقوق المتضررين فأكيد مش هنعترض بس حقوقنا أولا”.
وندد “ع. ن” باستخدام العنف المفرط مع أهالي الجزيرة بزعم استرداد أملاك الدولة والحفاظ على النيل من التلوث. فيما تقوم الدولة بتحويل نشاط الجزيرة من الحرف البسيطة للتعدي على أجود الأراضي الزراعية وعمل فنادق وناطحات سحاب بالاستحواذ على المساحات العامة والخاصة دون إجراء حوار مجتمعي أو التحاور مع الأهالي.
شهود إثبات
بُنيت محاكمات أهالي الوراق التي استغرقت ثلاث سنوات على سماع أقوال ثلاثة شهود عيان. وهؤلاء الشهود هم رئيس مباحث قسم الوراق وقت الأحداث. ورئيس الإدارة المركزية بالأوقاف شعبان إبراهيم عطا الله. ومسئول بالري. ما دفع محامي المتهمين بالتسمك بالاطلاع على دفتر أحوال قسم شرطة الوراق قبل التحقيق مع المتهمين وإثبات ما ورد به.
رئيس الإدارة المركزية بالأوقاف أكد خلال التحقيقات أن هيئة الأوقاف المصرية تملك 9 فدادين و19 قيراطا وسهمين في الجزيرة. فضلاً عن مساحة فدانين ونصف الفدان تم بيعها لمواطن. وأن الأرض مؤجرة لصغار المستأجرين والعلاقة بين الطرفين علاقة إيجابية لمدة عام واحد فقط وفقا للقانون 96 لسنة 1992. الذي حدد العلاقة بين المالك والمستأجر حيث تعتبر علاقة المنفعة لاغية بانتهاء المدة.
واعتبر صغار المزارعين من المنتفعين بالأراضي تصريح رئيس الإدارة المركزية تهديدا بسحب الأرض. ما يهدد بقطع أرزاقهم مستقبلا. فضلا عن خروجهم من دائرة مستحقي التعويض لانتهاء العلاقة. خاصة بعد بيع العديد من الملاك الأصليين للأرض واستحواذهم على قيمة التعويض وإهمال المؤجرين. ما زاد تمسك الأهالي بالأرض وامتدت التوترات بين الجانبين من 2017 حتى تفاقمت حاليا.
“م.م.ش” يقول لـ”مصر 360″: “نعيش على الجزيرة منذ أكثر من قرن ونص بملكيات موثقة. وبعقود عليها ختم الجمهورية المتحدة والمحاكم المختلطة والشهر العقاري المصري ولسنا مغتصبين للأرض كما يشاع عنا”.
وتابع: “قطعت الدولة المرافق عنا وهدموا المستشفى الوحيد داخل الجزيرة ومركز الشباب الوحيد. ونقل مكتب البريد إلى خارج الجزيرة. وتم إيقاف وغلق معديتين من المعديات الخمس التي تقل جميع السكان من وإلى الجزيرة. وتم القبض على 35 من أبناء وشيوخ ونساء الجزيرة ظلما. ومات واحد منهم. وحتى هذه الساعة لا نعلم مصيرنا و لا مستقبلنا. وسمعنا كتير من المسئولين أنه ليس لنا مكان داخل الجزيرة بعد التطوير. وإحنا بنقولهم لن نغادرها إلا على أجسادنا”.
لغز حورس
تهدف خطة الدولة إلى تطوير جزيرة الوراق وتحويلها لـ”مركز حضاري عالمي” بميزانية 17.5 مليار جنيه. وتشمل قرية سكنية تضم 130 فدانا لإعادة توطين سكان الجزيرة. وقاعة مؤتمرات وفنادق 7 نجوم ومهبط طائرات هليكوبتر. كما تضم حدائق بمساحة 620 فدانا.
ويشمل المخطط أيضا منطقة مارينا حورس ومناطق تجارية مطلة على النيل للتسوق. فيما تقدر الحكومة الدخل السنوي لمدينة حورس 20.4 مليار جنيه بعد 25 عاما من الآن.
المحامي كرم صابر -مدير مركز الأرض لحقوق الإنسان- اعتبر أحداث الاشتباكات الأخيرة حملة منظمة لترويع أهالي الجزيرة. بدليل مقتل مواطن نتيجة استخدام العنف. وهو ما أجج حالة الاحتقان بين السكان وقوات الأمن.
وقال “صابر” لـ”مصر 360″ إن الدستور في المادة 35 ينص على أن الملكية الخاصة مصونة ولا يسمح بالمساس بها إلا في حالات محددة وفقا للقانون وتحت رقابة القضاء. وبغير ذلك تضيع الحقوق وتضطرب المعاملات ويسود العنف والفوضى في المجتمع.
ونزع الملكية الخاصة -حسب “صابر” غير جائز إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل. موضحا أن هناك قرارين بنزع الملكية في الجزيرة تم الطعن عليهما أمام مجلس الدولة لوقف تنفيذهما. الأول خاص بالأراضي الواقعة في طريق محور “تحيا مصر”. والثاني قرار نزع الملكية بحرم النهر 30 مترا -أراضي طرح النيل.
واعتبر “صابر” ما تقوم به الدولة حاليا من نزع ملكية أجود الأراضي الزراعية بكل جرأة للبناء عليها “جريمة قانونية”. خاصة أن الأراضي المطروحة كبديل من الحكومة على المتضررين بمدينة السادات صحراء غير صالحة للزراعة ولا توجد بها خدمات. كما أن الشقق التي يتم التعويض بها موجودة بحدائق أكتوبر والعبور وهي “غير متشطبة” وليس بها مرافق كهرباء أو مياه ومواصلاتها صعبة. ما دفع الموجودين للتمسك بوضعهم على أرض الجزيرة.
وأكد أن الإخلاء القسري للموطنين مجرم وفقا المادة 63 من الدستور. خاصة أن المشروع البديل لا يخضع للمنفعة العامة. بل يتم تهجيرهم والتعدي على أملاكهم لاستثمارات تجارية وتربيح الغير على حساب أمنهم وحقهم في الاحتفاظ بنمط اجتماعي وثقافي معين قائم على التكافل والاكتفاء الذاتي. معتبرا ذلك تجاوزا من الدولة في حق مواطنيها.
تضامن مجتمعي
من جانبه أدان حزبا الدستور والتحالف الشعبي اقتحام قوات الأمن لجزيرة الوراق. وكذا إلقاء القبض العشوائي على عدد من المواطنين. واستخدام القنابل المسيلة للدموع لتفريق السكان الذين تجمعوا لرفض المحاولات المستمرة لهدم منازلهم بالقوة.
واستنكر الحزب في بيان تكرار هذه الاقتحامات التي هددت حياة المواطنين منذ الاقتحام الأول عام 2017. واعتبره “تحديًا لإرادة المواطنين وتهديدًا لسلمهم واعتداءً على حقوقهم”.
وطالب البيان أن تكون عملية الإخلاء نتاج تفاوض مع الأهالي وبرضاهم الكامل احترامًا للدستور والقانون وحرمة حياة الناس وأملاكهم الخاصة. وكذلك تنفيذ مطالبهم بالإفراج الفوري عن الأهالي الذين تم توقيفهم خلال الفترة الماضية ورفع يد الجهات التنفيذية عن المعديات وتشغيلها بصورة تيسّر حياة مواطني الجزيرة.
ردود الدولة
فى تعليقه على الأحداث الأخيرة في مؤتمره الصحفي قال وزير الإسكان الدكتور عاصم الجزار: “التعاطي مع المتضررين بجزيرة الوراق سيكون على طريقة التعويض التى اتبعتها الدولة مع مناطق تم إخلاء سكانها وخضعت للتطوير كسور مجرى العيون وماسبيرو وروضة السيدة زينب. سواء كانوا ملاك أرض أو وحدات على ثلاثة أنواع من التعويض. وفقا لتقدير جهات التقنين وهي اللجنة الرباعية وهيئة المساحة. إضافة إلى تعويض اجتماعي نظير نقله لمكان آخر في مدينة العبور أو 6 أكتوبر أو مطار إمبابة. وتبلغ قيمة الفدان 6 ملايين جنيه أو الحصول على وحدات فى المكان نفسه”. مشيرا إلى أنه تم نقل 75 منتفعا بالفعل للعبور و26 إلى أكتوبر و49 انتقلوا إلى إمبابة.
وتم نزع ملكية 61 فدانا لإعادة التخطيط لتوفير السكن البديل بعدد 4 آلاف وحدة سكنية بديلة. فيما تم شراء 45 فدانا بشكل رضائي لإقامة 250 مبنى. إضافة لشراء 105 منازل برضا الأهالي لإعادة خط تنظيم النيل عليها. كما تم نزع ملكية 91 فدانا منها 67 فدانا بالتراضي و550 منزلا منها 330 بالتراضي لحساب محور “تحيا مصر”. وذكر الوزير أن حجم التعويضات التي تم صرفها للأهالي حتى الآن 6 مليارات جنيه. 4 مليارات تعويضات أراضي والسكن البديل 2 مليار جنيه.