تغييرات كبيرة ومتسارعة طرأت مؤخرا على سياسات تركيا ومواقفها تجاه محيطها الإقليمي. بعدما تراكمت صراعات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع جواره الشرق أوسطي. وتهاوت علاقات التعاون الاقتصادي والتجاري على نحو صنع أزمة اقتصادية انهارت معها العملة المحلية لتصل إلى أدنى مستوياتها. بعد فترة ازدهار للاقتصاد التركي كان فيها قاطرة المشروع السياسي لأردوغان وحزبه الحاكم لكسب أصوات الناخبين.
فمع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التركية المقررة في الثامن عشر من يونيو/حزيران 2023 وجد “أردوغان” نفسه مضطرا للتراجع عن سياساته التصادمية مع محيطه الشرق أوسطي. بل واتخاذ خطوات للوراء فيما يتعلق بدعمه وتبنيه لتيار الإسلام السياسي الذي أفل نجمه. ليبدأ في تصحيح مسار علاقات بلاده بالقوى الخليجية مثل الإمارات والسعودية التي دخل معها في عداوات صارخة. وذلك على أمل ضخ استثمارات جديدة في شرايين الاقتصاد التركي لتحسين موقف العملة المحلية. خاصة بعد حملات المقاطعة الخليجية التي صاحبت الاتهامات الصريحة من جانب كبار المسئولين في تركيا لولي العهد السعودي محمد بن سلمان بتورطه في قتل الإعلامي السعودي المعارض جمال خاشجقي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول.
تركيا وخسارة الحلفاء
ويبدو أن “اردوغان” وجد أن خطواته نحو القوى الخليجية -كالإمارات والسعودية بخلاف قطر المتحالفة مع نظامه- لم تكن كافية. في ظل اتهامات وحملات المعارضة في بلاده. التي حملت إياه المسئولية عن خسارة حليف مهم مثل مصر. بسبب مواقفه الداعمة لجماعة الإخوان وهجومه الدائم على القيادة السياسية التي تولت زمام الأمور في مصر في أعقاب الإطاحة الشعبية بالرئيس الأسبق محمد مرسي في 3 يوليو/تموز 2013.
تبنَّى “أردوغان” مؤخرا منهجا براجماتيا تحلل فيه من ثوابته التي طالما تمسك بها طوال السنوات الماضية. فأعاد العلاقات الدبلوماسية بشكل كامل مع إسرائيل. غير عابئ في ذلك بما سيسببه من حرج لحركة “حماس” المتحالفة معه ويتمتع قادتها بوضع متميز على الأراضي التركية.
وكما اتخذ “أردوغان” مواقف حادة من الأنظمة السياسية في مصر وسوريا طوال السنوات التسع الماضية. جعلته دائم الإساءة للنظامين. تحول بالسرعة ذاتها مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية وسط مخاوف من تراجع شعبيته في الشارع التركي.
فبعدما دأب “أردوغان” على وصف حكومة الرئيس السوري بشار الأسد بـ”النظام القاتل” إذا به مؤخرا يتحول بشكل جذري ليقول “إنه لا يمكنه مطلقا استبعاد الحوار والدبلوماسية مع سوريا”. مؤكدا أن “هناك حاجة إلى اتخاذ مزيد من الخطوات مع سوريا”.
لم يكتفِ “أردوغان” بذلك فجاءت أحدث تصريحاته الجمعة الماضي للصحفيين خلال عودته من زيارة إلى أوكرانيا تجاه مصر كاشفة ربما عن مدى الضغوط الواقع تحتها بتشديده على “ضرورة عودة الوفاق مع مصر في أسرع وقت”. وهو ما يعد تطورا في لهجة خطاب الرئيس التركي تجاه القاهرة.
استدارة كاملة نحو النظام السوري
مع الذكرى الحادية عشرة لاندلاع الثورة السورية فاجأ النظام التركي الجميع بموقف مغاير تجاه الوضع في سوريا. بعدما أكد وزير الخارجية التركي- تشاويش أوغلو- الدعوة للمصالحة بين النظام والمعارضة في سوريا. ما اعتُبر تمهيدا لمصالحة بين أنقرة ونظام الأسد.
منذ بداية الثورة في سوريا عام 2011 قدمت أنقرة دعما أساسيا للمعارضة السياسية والعسكرية. متبنية في ذلك موقفا متمسكا بضرورة رحيل الرئيس الأسد ونظامه.
وشنتّ منذ عام 2016 ثلاث عمليات عسكرية واسعة في سوريا استهدفت بشكل أساسي المقاتلين الأكراد.
وتمكنت قواتها بالتعاون مع فصائل سورية موالية لها من السيطرة على منطقة حدودية واسعة في الشمال السوري.
وفي 11 أغسطس/آب الجاري قال وزير الخارجية التركي إن “علينا أن نجعل النظام والمعارضة يتصالحان في سوريا. وإلا لن يكون هناك سلام دائم”.
ورغم اندلاع مظاهرات واسعة في المناطق الخاضعة للسيطرة التركية في الشمال السوري رافضة الموقف التركي الذي عبر عنه اوغلو. فإنه عاد في 16 أغسطس/آب الجاري لتأكيد موقف بلاده الداعي لـ”مصالحة” بين النظام السوري والمعارضة. وقال أوغلو: “يجب أن يتصالح النظام والمعارضة. هذا ما قلته. نرى أن المصالحة ضرورية لإحلال سلام دائم في سوريا”.
ورغم رفض الرئيس التركي في مايو/أيار الماضي إعادة اللاجئين السوريين الموجودين في بلاده بقوله” إنه لن يعيد اللاجئين السوريين الموجودين في بلاده إلى أفواه القتلة”. جاء الموقف التركي الأخير مغايرا لما أكده “أردوغان”. بعدما قال وزير خارجيته إنه “مات كثيرون وغادر عديدون بلدهم. يجب أن يتمكن هؤلاء من العودة بمن فيهم الموجودون في تركيا. لهذا يتعيّن أن يكون هناك سلام دائم”.
مقاربة مع نظام “الأسد” في توقيت مثالي
كما كانت الانتخابات الرئاسية المرتقبة ضمن مجموعة أسباب تفسر موقف “أردوغان” الجديد تجاه مصر. ومثلت أيضا تلك الانتخابات تحديات داخلية كبيرة أمام الحزب الحاكم في تركيا مع اقترابها. ما جعلها تنعكس على سياسات أنقرة الخارجية وطبيعة مقاربتها للملف السوري.
وفي الملف السوري تحديدا تعد تركيا محكومة بملفين أساسيين. وهما ملف اللاجئين خاصة أنها لم تنجح حتى الآن في تغيير المعادلة على الأرض لتوفير بيئة آمنة تساعد على عودة مهجري الشمال السوري. وخاصة “تل رفعت ومنبج وشرق سوريا”. وهو ما يزيد من الضغط الداخلي مع استخدام المعارضة التركية هذه الورقة. ورفض الروس لإتمام اتفاق 2019 حول المنطقة الآمنة بعمق 30 كيلومترا.
يأتي ذلك في وقت تصاعدت فيه مطالب الأحزاب التركية لتغيير سياسة أنقرة تجاه سوريا. وترحيل اللاجئين الذين تصل أعدادهم هناك إلى نحو 4 ملايين. والانفتاح على نظام الرئيس الأسد. وهي المطالب التي لم تعد حكرا على المعارضة التركية. بل باتت هناك أجنحة داخل حزب “العدالة والتنمية” الحاكم تتبناها أيضا. في ظل صعود موجة دولية للانفتاح على “الأسد” ولو في نقاط محددة على رأسها عودة النازحين. وهو ما عبر عنه إعلان نائب رئيس حزب “العدالة والتنمية” الحاكم -حياتى يازجي- بأن العلاقات مع النظام السوري قد تصبح مباشرة وقد يرتفع مستوى تمثيلها.
الدوافع التركية وراء الموقف الجديد تجاه سوريا يأتي من بينها الضغوط الروسية والإيرانية على أنقرة لضمها إلى زاوية حل ثلاثي لأزمة سوريا.
وهنا لا يمكن تجاهل السياقات الزمنية التي أعلن عن الموقف التركي الجديد بشأن سوريا خلالها. وأول تلك السياقات أن الإعلان جاء بعد أسبوع من القمة الثلاثية في طهران. والتي جمعت رؤساء تركيا وروسيا وإيران.
أما السياق الثاني فقد جاء عقب إبداء طهران نيتها الوساطة بين أنقرة ودمشق. في مسعى لإبعاد شبح العملية العسكرية التي تهدد بتنفيذها الأولى في شمال سوريا.
والسياق الثالث مرتبط بكون الإعلان عن الموقف التركي الجديد جاء بعد لقاء “أردوغان” في 5 أغسطس/آب الجاري بنظيره الروسي فلاديمير بوتين. في ظل مصالح روسية وتركية متعارضة في سوريا.
السعي نحو المقدمة من بوابة حرب روسيا-أوكرانيا
الحديث عن الموقف التركي الجديد بشأن سوريا لا يمكن قراءته بعيدا عن ملفات المنطقة المشتعلة. في وقت تتقاطع فيه المصالح التركية الروسية في الشرق الأوسط. فدائما ما ارتبطت المفاوضات التركية الروسية بشأن سوريا بأحاديث عن تنسيق بين الجانبين في ليبيا. حيث تمتلك أنقرة قوات عسكرية على الأرض في غرب ليبيا. فيما تمتلك روسيا قوات شبه رسمية (مجموعة فاجنر) معززة بمقاتلات ومعدات عسكرية ثقيلة في قاعدة الجفرة العسكرية.
بخلاف ذلك يسعى “أردوغان” لاستغلال الحرب الروسية الأوكرانية في تقديم تركيا في صورة الطرف الجيوسياسي الرئيسي الفاعل في المنطقة. خاصة بعدما نجحت أنقرة في دفع موسكو وكييف لتوقيع اتفاق مدعوم من الأمم المتحدة في إسطنبول سمح باستئناف تصدير الحبوب الأوكرانية. وهو الأمر المعلق منذ بدء الحرب في 24 فبراير/شباط الماضي.
وتريد تركيا الآن البناء على ذلك للتوصل إلى بدء مفاوضات مباشرة بين الرئيس الروسي ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في إسطنبول إذا كان ذلك ممكناً لإنهاء الحرب. وهي الخطوة التي بات واضحا أن تركيا حصلت على ضوء أخضر غربي بشأنها.