هذه لحظة مربكة وشديدة الالتباس بكل ما فيها من تفاصيل متداخلة وملفات متشابكة وقضايا مطروحة ومواقف متراكمة، وكثير مما فيها حمال أوجه، قابل للتأويل والتفسير بطرق متعددة بحسب زاوية النظر ونقطة الانطلاق ومدى الإلمام بالتفاصيل وغيره.

اللحظة المقصودة هي اللحظة السياسية الحالية في مصر، والتي تتفاوت بخصوصها الآراء والتقديرات، وفقا لآمال وطموحات من ناحية، وشكوك ومخاوف من ناحية أخرى.. وهي مربكة لكل مهتم بالشأن العام عموما، وبما في ذلك (جيل يناير) إن جاز التعبير، بكل ما تحمله من احتمالات تتراوح بين آمال في تغير حقيقي الفترة المقبلة وما بين مخاوف من عدم حدوث أي شيء ذو شأن أو أثر وكون كل ما يجري مجرد تضييع للوقت وإهدار للجهد.

هؤلاء ممن يجوز تسميتهم (تيار يناير) هم المقصودين بشكل أساسي هنا، وبالتأكيد ليسوا تيارا فكريا واحدا، ومع ذلك هم قطاع سياسي ومجتمعي رئيسي ومهم في تركيبة هذا البلد حتى الآن، رغم كل ما مر به وتعرض له هذا التيار، وبالتأكيد فهذا التيار لا يعنى كل من شاركوا في يناير، فمنهم من أخرج نفسه بمواقفه وممارساته سواء بخضوعه لسلطة أو بانحيازه لجماعة، أو من قرر سلوك نهج آخر غير الأساليب السياسية السلمية، كما أن هذا التيار بالمعنى الواسع يشمل أيضا من لم يشاركوا في فعل يناير بالحضور المباشر، وإنما بالانتماء الوجداني والفكري لقيمها وشعاراتها وأهدافها الأصيلة، وبما في ذلك أجيال جديدة بدأ تفتح وعيها وانجذابها للاهتمام العام –وربما في ظروف بالغة الصعوبة سياسيا ومجتمعيا- فيما بعد يناير، وبالتالي فإن هؤلاء المنتمين لثورة يناير باعتبارها وتفاعلاتها اللاحقة هي تجربتهم السياسية الأم والأساسية، ومساحة التفاعل السياسي والفكري والحركي وحتي الإنساني التي تلاقوا خلالها مع غيرهم من أشباههم من أصحاب التجارب والخبرات السابقة ومن أبناء قوى وتنظيمات سياسية مختلفة تتبنى وتنحاز إلى أفكار مدنية ديمقراطية أو أقرب لها، أو غيرهم من غير المصنفين أو غير المنتمين سياسيا أو تنظيميا لكنهم انتموا لتجربة يناير وقيمها، لكن ظل ما يجمعهم هو الانتماء لثورة يناير وأولويته ربما حتى عن الانتماء التنظيمي والحزبي والأيديولوجي، وظلوا منتمين لشعاراتها وأهدافها وقيمها الأساسية الأصيلة، مع إدراك متفاوت لما وقعت فيه من أخطاء وما انجرت له من فخاخ وما حاول البعض نسبه له ولصقه فيها من عبر وعيوب، لكن مع كل ذلك ظل هؤلاء أبناء تجربة يناير يمثلون جزءا مهما ورئيسيا في هذا البلد، رغم كل ما طالهم ولحق بهم، ورغم تنوع أصواتهم وأفكارهم ومواقفهم، ظل بينهم مساحة واسعة من القواسم المشتركة رغم كل ما مر وتعددت بل وتباينت فيه المواقف.

وهؤلاء جميعا من بينهم من اختار الابتعاد عن العمل العام لأسباب متفاوتة، ومنهم من أصبحت حياته الشخصية والمهنية هي الأولى في ظل مناخ سياسي شبه مغلق وبيئة عامة طاردة، ومنهم من دفع أو لا يزال يدفع أثمانا من حريته، ومع كل ذلك، فلا يزال هذا التيار حاضرا بدرجة أو بأخرى، تتفاوت قدرة أطرافه على التأثير، لكنها تمتلك حضورا في الوعي والوجدان، وظني أن الأمر سيظل كذلك لسنوات كثيرة مقبلة وربما عقود، فيناير رغم كل أخطائها، ورغم كل ما تعرضت له من تشويه، كانت وستظل حدثا كبيرا مغيرا مؤثرا في تاريخ هذا البلد.

الآن، وهى ليست المرة الأولى، يتعرض هذا التيار لاختبار جديد إزاء لحظة سياسية ربما تبدو جديدة مقارنة بالسنوات الأخيرة على الأقل، ومن الطبيعي أن تتباين وتتفاوت مواقفه وتقديراته، خاصة في ظل تباعدات جرت، ومساحات أغلقت، وتراجع الاهتمام بالمجال العام، وحتى فرص الحوار المتبادل والمشترك بين أطراف وأشخاص هذا التيار، وظهور أجيال جديدة ربما يبدو الكثير منها أكثر تباعدا، فضلا عن الفريضة الغائبة دائما في كل الاختبارات الكبرى، وهى غياب الأطر التنظيمية الجامعة الفاعلة المؤثرة، التي تستطيع إدارة نقاشات ديمقراطية حقيقية داخلها، وتستطيع بلورة توجه عام وموقف جماعي سائد.

ولست الآن بصدد مناقشة المواقف وتبايناتها، وأسبابها، ومخاوفها، وغير ذلك من تفاصيل تناولت جانبا منها من قبل ويتناولها غيرى في مساحات مختلفة، وهي ممارسة تكاد تكون شبه يومية من الكثيرين سواء في النقاشات العامة أو الخاصة او على وسائل التواصل الاجتماعي أو غيره، لكنني بصدد التعبير عن رسالة رئيسية لا بد أن يتمسك بها هذا التيار، وهي ألا يتورط –مجددا– في تخوين بعضه، وألا يستسلم ليأس قد يكون طال كثيرين بالفعل.

القوى المدنية الديمقراطية، وبالذات أجيالها الوسيطة والشابة مدعوة في مثل هذه اللحظة للبحث عن المشتركات حتى في ظل تفاوت وجهات النظر وتعدد الأدوار، وهى مدعوة للاستفادة من دروس الماضي، وهو واجب عليها قبل أن يكون دورا مطلوبا لها ولصالح رؤيتها للمستقبل، وهى بحاجة لرؤية أكثر واقعية لطبيعة اللحظة والإمكانيات والفرص المتاحة فيها، ولتحديد أولويات مستهدفاتها في هذه المرحلة، دون أن يعنى ذلك لا تخليا عن مواقف أساسية ولا الخضوع لابتزاز ومزايدة، وأن تحذر من الوقوع في فخاخ تتراوح بين شعارات رنانة قد تكون صحيحة لكنها لا تتواكب مع طبيعة الظرف الراهن، ولا أسقف منبطحة تماما لا تحفظ لا قيمة ولا مكانة ولا مصداقية.

ومع ذلك كله وقبله وبعده، هذه الأجيال والأطراف المنتمية لمشروع يناير بحاجة لإعادة قراءة تجربتها في السنوات الماضية منذ ثورة يناير، التي كانت وستظل في رأيي أنبل فعل شعبي جرى في مصر، لكن الفاعلين من قوى وشباب هذه الثورة – إلا من سبق الإشارة لهم ممن أخرجوا نفسهم من دوائرها– بحاجة لنقاشات وحوارات عميقة فيما بينهم، حتى ولو على مستوى جماعات صغيرة تتسع تدريجيا، وحتى لو على مستوى التيار الفكري الواحد ثم تلتقى التيارات المختلفة، بهدف إعادة تقييم وقراءة التجربة وأخطائها واندفاعاتها، ووصولا لرؤية أكثر وضوحا ونضجا ومواكبة وواقعية لما هو قائم، ووصولا أيضا لتصور أكثر طموحا وأملا وانتصارا للمستقبل، وكل ذلك في إطار لا يحيد عنه المنتمون لتيار يناير، وهو أن تصبح مصر دولة مدنية ديمقراطية حديثة تحترم حقوق مواطنيها وتنتصر للعدالة الاجتماعية وتحفظ استقلالها الوطني.

هذه مهمة ليست سهلة، وهي جديرة بالاهتمام بعد أن تأخرت كثيرا، وقد يكون هناك حرج متفهم للظرف الذي يمكن أن تتم فيه والذي قد يفهم من البعض أنه تراجع للخلف أو انكسار أمام أطراف أخرى، وهذا ليس صحيحا، فالحاجة لإعادة القراءة والتقييم هي احتياج جوهري لدى تيار يناير نفسه، وهي ليست بالضرورة بحاجة لأطروحات علنية في اللحظة الراهنة، وهي عملية في تقديري تستغرق وقتا طويلا وجهدا كبيرا إذا كنا جادين في أن تكون عملية حقيقية وواسعة وشاملة.

ثم، وهو الأهم، الوصول لرؤية تحكم كيفية الانطلاق للمستقبل، وهو أمر معقد ومتشابك لأنه يبدأ من اللحظة الراهنة بكل ما فيها، لكنه أيضا يحمل الكثير من التفاصيل الأبعد من اللحظة، في قراءة الأوضاع والتوازنات، وفى تحديد الأولويات، وفى كيفية فتح مساحات في المجال العام، والسؤال الرئيسي والجوهري حول ضرورة وجود أدوات تنظيمية جديدة ومتماسكة وقادرة على امتلاك أدوات التأثير واكتساب المصداقية، وهي كلها أسئلة بعضها حال وعاجل، وبعضها قد يأتي أوانه لاحقا بحسب الفرص المتاحة والظروف الملائمة.

يبقى أخيرا، أن الاختلاف أمر طبيعي، والنقد للمواقف أمر واجب، لكن التورط في التشكيك والتخوين من ناحية، أو ادعاء البطولة من ناحية أخرى، أو تصور أن نفس الطرق والأدوات ستؤدى لنتائج مختلفة، كلها أمور تحتاج لوقفة ومراجعة، وأن ما تحتاجه مصر أولا ويحتاجه تيار يناير ثانيا، أن يكون أكثر جدية ووضوحا في تطلعه ورؤيته للمستقبل، وأن يكون لديه اليقين بأن مصر طال الوقت أم قصر لا مسار صحيح وجاد لها سوى الانتصار للحريات والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وأن يكون متشبثا بالأمل الذى وإن لم نملك غيره فهو كاف للتقدم إلى الأمام حتى نمتلك أدوات تحقيقه، دون أن يتحول هذا الأمل بالإفراط فيه إلى أوهام كالتي سبق أن تعلقنا بها في لحظات مختلفة، ودون أن نفرط في الإحباط والتخاذل عما نستطيع مهما بدا محدودا لأن كل خطوة تؤدى لما بعدها، ولأن اليأس كان ولا يزال جريمة في حق أنفسنا وحق الأجيال الجديدة وحق الوطن نفسه.