يشير أستاذنا الكبير المرحوم الدكتور “محمود عبد الفضيل” في كِتابهِ صغير الحجم عظيم القيمة “في نقد التحليل الاقتصادي المعاصر” إلى بيان دعا فيه طلاب الاقتصاد بجامعة مانشستر عام 2014 “إلى سلوك نهج يبدأ بظواهر اقتصادية ثم يعطي الطلاب مجموعة من الأدوات لتقييم كيفية تفسير المناظير المختلفة لهذه الظواهر وليس استنادًا إلى نماذج رياضية تقوم على افتراضات غير حقيقية. فلا ينبغي أن يكون الاقتصاد منفصلًا عن علم النفس والسياسة والتاريخ والفلسفة وما الي ذلك، والدور الذي تلعبه الأخلاق والنزاهة في الاقتصاد (في مقابل التركيز السائد على تعظيم الربح)، والعواقب الاقتصادية المترتبة على تغير المناخ”*.

اقرأ أيضا.. “إيرهارد” والحوار الوطني

شخصيًا، كنت أرى ذلك دَومًا حيث الاقتصاد هو المُحرك لكل نشاط إنساني، وطالما ذُكِر “النشاط الإنساني” فلا يمكن الاعتماد في التحليل الاقتصادي فقط على دوال ومنحنيات ومعادلات خطية جامدة يجرى تعميمها على مجتمعات تختلف في تراكيب بِنَاها الفوقية والتحتية بأثرٍ من ثقافات متباينة فتصنع أنماطًا اقتصادية وتخلق ظروفًا اجتماعية غير متجانسة لا يجوز معها ذلك التعميم.

وأحسب أنه قد آن الأوان بعد الخروج من أزمة كورونا التي انتهت عمليًا وأزمة أوكرانيا التي أتمنى أن تنتهي قريبًا -وإن كنت لا أرجح ذلك- لأن ينظر إنسان هذا العصر نظرة مغايرة للعملية الاقتصادية بعيدًا عن التيه في ضباب الماضي الذي لم يَعُد واقعه يحتمل مزيدًا من السير فيه على أي نحو، فالواقع المتغير هو الذي يصنع فكره الخاص لا العكس.

نحن بِحَاجَةٍ لفكرٍ جديد يتناسب مع واقع تَطَورَ كثيرًا جدًا بدفعٍ من محفزاتٍ سياسية واجتماعية ذات طبيعة مختلفة تتطلب ضرورة إيلاء علم النفس والفلسفة والثقافة العامة أهمية مُستحقة في تحليل الظواهر من خلال التعرف على العوامل الذاتية الكامنة والمؤثرة في النشاط الإنساني الذي يقع الاقتصاد في القلب منه بغرض تخطى مشكلات الحاضر وتعبيد الطريق لمستقبلٍ مختلف.

معدلات التضخم في أوروبا وصلت لمستويات قياسية

لذا، فإن إنسان هذا العصر بحاجة إلي تأسيس بناءٍ فكريٍ مختلف يقوم على نموذج الباحث المُثَقف الذي يدرس خصوصية واقعه بحثًا عن إجابات موضوعية لحل معضلاته الاقتصادية في إطار عام من القيم الإنسانية، لا نموذج الدوجمائي المُتَكَلِس الذي يفتح كتابًا من التراث بحثًا عن حلول جاهزة لأزماتٍ حالية بالرجوع لخبرات الماضي في ممارسةٍ أطلقتُ عليها سابقًا وصف “السلفية الاقتصادية” التي تجاوزت في مثالبها شقيقتها “الدينية” من تقديسٍ للتراث.

فعلى سبيل المثال، يلجأ بعض الاقتصاديين عند البحث عن حلول لكبح جماح التضخم إلى كتبهم المقدسة التي أكل عليها الدهر وشرب، ليجدوا أن زيادة أسعار الفائدة هي الحل الجاهز فيسارعون بِتَبَنيهِ بشكل تلقائي ودون النظر لمسببات التضخم ذات الخصوصية والتي من الجائز أن تكون ناتجة عن ارتفاع تكلفة الإنتاج أو الاستيراد لا عن زيادة الطلب، وبالتالي فإن رفع أسعار الفائدة لن يكون حلًا للمعضلة بل ربما زادها استفحالًا. وأنا في هذا السياق لا أنادى بالنبذ التام للتراث الاقتصادي بمدارسه المختلفة، ولا أنادى بحيادٍ مُتَجَرِدٍ من الخلفية الأيديولوجية، لكنني أؤكد على ضرورة وضع التراث والأيديولوجية في موقعهما المُستَحق ليكون الغرض منهما هو استلهام القِيمِ العامة والمقاصد الكُلية لا الاستنساخ الحَرْفِي النَاقِل لحلول المعضلات دونما جهد عقلي تقتضيه الظروف غير الثابتة.

وأنا كذلك لا أُبَشِرُ بنموذج الباحث الاقتصادي الفرد الوحيد، لكنني أرى أن تَجَمُعًا من الباحثين المُتَميزين المُنتمين لمدارس اقتصادية مُتباينة ممن يتحلون بالنزاهة والوطنية والقدرة على استيعاب قوانين الفلسفة والأنثروبولوجي، هو أمر جدير بالنظر لتأسيس هذا البناء الجديد الذي يُخرِج إنسان هذا العصر من ضِيقِ التنافس المحدود إلى رَحبِ التوافق الواسع.
بالتطبيق على الحالة المصرية، فأحسب أن الفرصة الآن سانحة، حيث يمكن “للحوار الوطني” أن يفرز مثل هذا التأسيس بعدما تم من تحديدٍ لملفات المحور الاقتصادي الأساسية وبعدما سيتم بنهاية هذا الشهر من تسميةٍ لمُقرري اللجان الفرعية ومساعديهم لبدء العمل، بما سيتيح لأول مرة فرصةَ ترسيخ تقليدٍ جديد يلتقي في إطاره الباحثون المُنتمون لمدارس اقتصادية مُتباينة سويًا -وهذا في ذاته إنجاز هام- للنقاش وتبادل الرؤى والتقارب والتفهم المُتبادل بُغية التوصل إلى طروحات موضوعية مقبولة ومُتَوَافَق عليها من الجميع.

ومن الممكن لهذا التأسيس أن يتطور بحسب الأحوال إلى ما يشبه حالةً مستمرة تضخ من الحيوية ما يتلاءم مع أولويات وضرورات العمل الوطني في الشأن الاقتصادي، كأن يصبح نواةً لتشكيل هيئة استشارية دائمة تقوم بإمداد الأجهزة التنفيذية والتشريعية بالدراسات والمقترحات في الملفات ذات الصلة أخذًا بالاعتبار الخصوصيات الثقافية والاجتماعية بعيدًا عن دوجمائية السلفية الاقتصادية بغرض مواجهة وإدارة مخاطر التحديات والتهديدات المُعاصرِ منها والمستقبلي، فالعالم يتغير من حولنا بتسارعٍ شديد وموازين القوى السياسية المعتمدة بدرجة قصوى على الثقل الاقتصادي تتبدل بوتيرةٍ تجعل من متابعتها -فما بالك بمواجهتها- أمرًا بالغ الصعوبة وسط ظروف استثنائية عامة كأزمة المناخ التي هي نِتاج سياسات دولية أفضت إلى تراكم الثروات الطائلة لدى فئة محدودة للغاية من أصحاب رؤوس الأموال بمجتمعات الدول الصناعية الكبرى مع زيادةٍ في الشقاء لدى باقي البشر تاركة إياهم يرزحون تحت أعباء الفقر والجوع والمرض والجهل والتهجير والبيئة بائسة الحال.

*أنظر صفحة 154 من كتاب “في نقد التحليل الاقتصادي المعاصر”-طبعة دار العين 2015