مع نهاية يوم الخميس الماضي كان الشاب المصري عمرو زايد يستخدم تقنية البث المباشر لآخر مرة في حياته ليذيع بها “وقائع موته المعلن”. إذ ابتلع أمام المتابعين “حبات الغلة القاتلة” التي أودت بحياته فورا. فيما قبل ذلك بسنوات وتحديدا صباح 15 سبتمبر/أيلول 2015 كان مارك زوكربيرج -مؤسس “فيسبوك”- يجرب هذه التقنية للمرة الأولى.
“جبروت خارق. قوة استثنائية. أمر مفزع”. بتلك التوصيفات يتم التعبير عمن امتلك القدرة على إنهاء حياته بنفسه. ورغم كون الانتحار ظاهرة قديمة قدم الإنسان نفسه. فإنها باتت تتمثل في أشكال أكثر صخبا وعلانية ورغبة في إثارة الضجة العارمة. وذلك عبر استغلال وتوظيف صفحات التواصل الاجتماعي لتصبح “منصات للموت”. ليخرج بذلك المنتحر عن دائرة الشخص الذي يوصف بأنه “حبيس ذاته” إلى النموذج الذي يريد لوداعه الأخير أن يكون على مرأى ومسمع من الجميع عبر “الملأ الإلكتروني”.
ضجت مواقع التواصل في مصر على مدار الساعات الماضية بواقعة شهدتها قرية القصر الأخضر التابعة لمركز كفر الدوار بمحافظة البحيرة. حين فاجأ شاب ثلاثيني الجميع بـ”بث مباشر” وثق به انتحاره على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”. حيث تناول قرصين من الغلة ليلقى مصرعه في الحال.
“نحن بصدد تطور ملحوظ في الأشكال التي يلجأ إليها المنتحرون”. قالتها الدكتورة رحاب العوضي -أستاذة علم النفس السلوكي- لـ”مصر 360″. حيث ربطت بين تطور المجتمع ودرجات التقدم التكنولوجي مع ما يقوم به أفراد تلك المجتمعات من اللجوء إلى سلوكيات إيذاء النفس. والتي تتطور سريعا دون أن يكون أمامها رادع متطور “نفسي وتربوي وديني وقانوني” يمكنه كبح جماح ظاهرة الانتحار.
فرملة استسهال اليأس
“العوضي” تحدثت عن أن “فرملة” ظاهرة الانتحار ومنع أشكاله المستحدثة ممكن باستخدام وسائل محددة. قالت إن أولها غرس نظريات قيمية في أذهان النشء تدربهم على التعامل مع حالات اليأس الصفري. التي قد يصل إليها البشر. بحيث نصل إلى ذهنيات وعقول لا يكون من بين أول اختياراتها في مواجهة اختبارات الحياة هو “اليأس والاستسهال”.
ثم تأتي خطوة تطوير الخطاب الديني الذي يكفّر المنتحر ويسهم في زيادة حالات الانتحار. دون أن يمكّن الحالات التي تفكر في الحذو نفسه من التعبير عما يحبطها ويشغلها بالدخول في معركة دينية تضعف شخصياتهم وتقضي على أساليبهم الدفاعية وتعمق إحساس اليأس داخلهم.
يقدر ضحايا الانتحار عالميا بنحو 700 ألف حالة كل عام. ما يعني أن كل 40 ثانية هناك شخص يتخلص من حياته -بحسب تقارير منظمة الصحة العالمية.
وفي مواجهة تلك الأرقام المفزعة ترى “العوضي” أنه يجب الالتفات إلى أن هناك في علم النفس آليات محددة لو جرى تعميمها في المدارس والمساجد والجامعات لأمكننا التوصل إلى قناعات إيجابية تدحض السلبية التي تحفز السلوك الانتحاري.
نظريات وتعاليم يقوم ببثها متخصصون تشكل آلية نفسية ناجحة. فيما تبسيطها يذهب بنا إلى انتشال المقبل على الانتحار من أزماته. فضلا عن منع مسببات الانعزال وتقوية البناء النفسي بتحديد الأهداف وتذكيره بعدد محبيه. وذلك بطبيعة الحال إلى جانب الدور القانوني من حيث ردع ومحاسبة كل من أثر في شخص لدرجة دفعته إلى إنهاء حياته. وهو ما يقودنا إلى أدوار تربوية مطلوبة من الأسر وتوعيتها للحفاظ على حياة أفرادها.
تزايد الانتحار العلني في مصر
واقعة الشاب عمرو زايد ليست استثناء أو نموذجا لم يتكرر خلال الفترة الماضية.
ففي عام 2019 فوجئ أقارب وأصدقاء شاب يدعى “إسلام” بقرية كفر بلمشط مركز منوف بالمنوفية بوضعه “مشنقة” أعلى باب غرفته. مسلطا كاميرا الهاتف المحمول المفتوحة على بث مباشر. لتظهر كادرا واضحا لصعوده إلى كرسي وربط الحبل حول عنقه ليقوم بالانتحار علنا أمام الجميع.
كذلك في يونيو/حزيران الماضي استخدم الشاب مصطفى توكل موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” كمنصة لإعلان وقائع انتحاره. دوّن عليها مراحل وصوله إلى إزهاق روحه. حيث نشر بصفحته على فيسبوك قائلا: “أنا على حافة الانتحار. أشوفكم بخير. ابقوا افتكروني. وأبويا مايمشيش في جنازتي”. ليقوم بعدها مباشرة بإلقاء نفسه من أعلى كوبري الجامعة في المنصورة بسيارته الملاكي.
سبق ذلك حالات أخرى عديدة للانتحار العلني. فبعدما انتشرت صور لشاب في الإسماعيلية على مجموعات “جروبات” خاصة بكليته وأهل منطقته على “فيسبوك” ألقى بنفسه أمام الجميع من أعلى سطح منزلهم في مدينة القصاصين التابعة لمحافظة الإسماعيلية. وذلك في يونيو/حزيران الماضي.
وفي الشهر ذاته وعلى مرأى ومسمع من الجميع أقدم شاب على إلقاء نفسه من أعلى برج القاهرة. وذلك بعدما غافل الجميع وصعد أعلى السور الحديدي الحاجز بالطابق الأخير للبرج.
كان برج القاهرة شهد قبل تلك الواقعة -نهاية نوفمبر 2019- انتحار طالب في كلية الهندسة بجامعة حلوان. حيث أقدم على الانتحار ملقيا نفسه من أعلى البرج.
مخاطر المحتوى المرئي للانتحار
طرق جديدة للانتحارخبير الإعلام الرقمي خالد البرماوي قال لـ”مصر 360″ إن تطور أشكال الانتحار من “المشنقة التقليدية” إلى البث المباشر على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي له أسبابه.
فوسائل التواصل الاجتماعي عززت داخل كثيرين الرغبة في “لفت النظر والانتباه”. وأن يكون حادث الانتحار أشبه ما يكون بـ”انتقام من الجميع”. وهي مسألة يجب الحذر من تداعياتها. فمن كان ينتحر بمفرده وقد آذى نفسه بالفعل لم يره أحد. غير ذلك الذي ينتحر ليغرس في نفوس كل من عاين ورأى ذلك رواسب تتعلق بتخيل كيفية الانتحار. ما يجعل الأمر اعتياديا وهينا على الأنفس.
ويرى “البرماوي” أن أخطر ما في “لايف الموت” هو كسر رهبة الانتحار والخوف من الموت. مضيفا: “منتحر اليوم هو شخص تعرض بالأمس لتأثير رقمي رأى فيه شخص سبقه يقوم بمسألة الانتحار. فشجعه على ذلك. كذلك الأمر بمن يفكر حاليا في الانتحار المستقبلي بعدما رأى فيديو شاب كفر الدوار. فقد زادت لديه التصورات التي تسهل عليه الأمر. هنا الخطر الذي يجب أن ننتبه إليه”.
واختتم بدعوة مراقبة الأصدقاء الذين تبدو عليهم علامات الميل للانتحار وممن يعبرون عن رغبتهم فيه. عندئذ نتدخل بالمساعدة. أو نمنع الصفحات الكبرى من نشر فيديوهات الانتحار العلني لتحجيم انتشاره بين الناس.
إحصائيات حالات الانتحار يوميا
وتحتل مصر المرتبة الأولى عربيا من حيث معدلات الانتحار. وذلك بحسب آخر تقارير منظمة الصحة العالمية. متقدمة بذلك على دول تتصاعد فيها النزاعات المسلحة والحروب الأهلية. تليها السودان فاليمن ثم الجزائر.
وأظهر تقرير المؤسسة العربية لدعم المجتمع المدني معدلاتٍ مقلقة حول حالات الانتحار في مصر. والتي وصلت إلى حالة كل يوم تقريبا. لافتا إلى أن حالات الانتحار في الربع الأخير من 2021 “أكتوبر-نوفمبر-ديسمبر” قد وصلت إلى 93 حالة خلال تلك الفترة. وأنه وفقا للتصنيف الجغرافي فقد جاءت محافظة الجيزة في المركز الأول لعدد المنتحرين. تليها القاهرة والغربية والشرقية والفيوم وسوهاج. مع إقرار بأن معدل انتحار الذكور أعلى من الإناث.
وبالنظر إلى دول شبيهة لمصر في الظروف السياسية والاقتصاية نجد أنه رغم كون مصر في المرتبة الأولى فإن دولا أخرى قد طالتها معدلات الانتحار بكثافة. حيث شهد الأردن العام الماضي حالة انتحار كل يومين. وهي النسبة الأعلى منذ 10 سنوات في البلاد. وفي عام 2020 وحده انتحر نحو 169 شخصا بزيادة 45.7% مقارنة مع معدلات الانتحار في عام 2019.
والأرقام نفسها يمكن رصدها في المغرب ولبنان والعراق. في حين أنه بمصر في عام 2019 انتحر 3022 شخصا بحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية.
تطور أشكال الانتحار
أمام تلك الأرقام تقدم النائب البرلماني أشرف أمين بطلب إحاطة لرئيس الحكومة. داعيا إلى تشكيل لجنة وزارية لبحث الأزمة وبشكل سريع. موضحا لـ”مصر 360″ أنه حاول استخدام الأدوات البرلمانية المكفولة أمامه للبدء الفوري في البحث عن أسباب ظاهرة زيادة حالات الانتحار بين الشباب. معربا عن استغرابه من الدرجة التي يتطور بها الأمر. من حيث وصول أشكال الانتحار وطرقه المختلفة إلى ما رأيناه في بث مباشر عبر صفحات التواصل الاجتماعي.
النائب البرلماني قال: “لا يمكن الحديث عن تطور أشكال الانتحار دون النظر إلى تطور أشكال التعبير المكفولة في يد الشباب الآن. من كان يريد الانتحار سابقا كان يفعل ذلك في غرفة مغلقة. الآن يعلن المنتحر عن نفسه على الملأ في رسالة احتجاج علانية للجميع. وذلك بسبب تطور نوافذ التعبير الرقمية عن النفس ممثلة في وسائل التواصل الاجتماعي.
وأضاف عضو لجنة التعليم والبحث العلمي: حالات إزهاق الروح باتت “انتحار مسبب” ستجد وراء كل من يقوم بذلك قصة ما. سببها الرئيسي إما ضيق الحال وإما تراكم الديون وصعوبة الظروف الاقتصادية في أغلب الأحوال. لذا فكما تقدمت بطلب إحاطة في دور الانعقاد الماضي أعلن من خلالكم أنني سأتقدم بطلب إحاطة رسمي جديد لتحريك المياه الراكدة في هذا الأمر. يجب البحث وراء ما جعل الحياة تهون على كل هؤلاء.
الحل وجدوى القوانين والتشريعات
وعن رأيه في جدوى تحريك القوانين والأدوات التشريعية في مواجهة مسألة كالانتحار أجاب: رغم إيماني بأهمية القوانين والتشريعات كوسائل للضبط الاجتماعي. فإنها لن تكون حلا في ذاتها. وإنما باعث أو محرك لجهود تقودنا للبحث عن السبب. وأيضا البحث عن حل. وأهم الحلول من وجهة نظري هو “تطوير الرسائل الإقناعية” التي نخاطب بها الشباب.
وأوضح: “التحرك المقابل يجب أن يكون على القدر نفسه من تطور أدوات الانتحار. من حيث خطاب توعوي ديني وتربوي حديث يرد على ما يفكر به الشباب. هؤلاء الذين وصلوا إلى مراحل اليأس لنجفف منابع تلك الظاهرة”.
ويؤكد النائب البرلماني أنه لا يمكن أن نغفل العوامل الاقتصادية والاجتماعية. فلم يعد هناك “أب أو أم” في حالة تركيز كامل مع أبنائهم بسبب الظروف التي تضع أعباء على الجميع. غاب الواعظ والمربّي عن الأسرة فانفجرت حالات الانتحار وباتت هناك أشكال مستحدثة واسعة الانتشار لها.
“منصات الموت”.. ظاهرة عالمية تؤرق الشعوب
توظيف مواقع التواصل الاجتماعي لتكون مسرحا للانتحار أمام الجميع ظاهرة لا تقتصر على مصر.
ففي أواخر عام 2019 انتحرت فتاة -16 عامًا- في ماليزيا بعدما نشرت استطلاع رأي على تطبيق انستجرام وجهت خلاله سؤالا إلى متابعيها عما إذا كانوا يريدونها تموت أم لا. وكانت الصدمة أن نسبة 69% من الإجابات تطالبها بقتل نفسها لتبادر الفتاة بإنهاء حياتها بالفعل.
قبلها انتحر الممثل الأمريكي فريديريك جاي بودي ونشر انتحاره عبر البث المباشر وهو يطلق النار على نفسه. وذلك بعدما تم القبض عليه عام 2017 بتهمة “الاعتداء الجنسي”. قبل أن يخرج من القضية بكفالة وينفذ بعدها عملية انتحاره أمام المتابعين.
الأمر ذاته تكرر مع عارضة الأزياء الباكستانية أنام تانولي. والتي انتحرت خلال ظهور حزين في بث مباشر قالت فيه إنها تعرضت للتنمر على مواقع التواصل الاجتماعي. وأن ذلك سيشكل سببا رئيسيا في انتحارها لتنفذ تهديدها بالفعل أمام الجميع.
المصادر:
- لينك بي بي سي يوثق أرقام وإحصائيات الانتحار في مصر والأردن ومجموعة دول عربية
https://www.bbc.com/arabic/59568886
- لينك موقع مصر 360 .. يوثق إحصاءات رصدتها “المؤسسة العربية” عن المنتحرين في مصر وتوزيعهم الجغرافي
- لينك بوابة جريدة الجمهورية الحكومية.. حول شاب يشنق نفسه لايف في المنوفية
https://www.gomhuriaonline.com/Gomhuria/417940.html
- لينك موقع سبوتنيك الروسية يوثق حالات انتحار أونلاين في دولا خارجية