في مقاله المنشور في مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، يشير ستيفن كوك، الكاتب وزميل معهد إيني إنريكو ماتي لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي (CFR)، إلى أن العديد من المشروعات الضخمة التي أقيمت في مصر خلال الأعوام السابقة ليست إلا “محاولة لإظهار الثراء المجتمعي. بينما يعيش الشعب المصري في معاناة بسبب الضغوط الاقتصادية، والحوادث المتعاقبة التي هزت البلد”.

يبدأ كوك مقاله بالحديث عن حادث حريق كنيسة “أبو سيفين” في حي إمبابة بالقاهرة الكبرى، والذي أودى بحياة 41 شخصًا، بينهم 18 طفلًا. يقول: كانت هذه أحدث حلقة في سلسلة من الكوارث وقعت في الفترة الأخيرة، بدأت في يناير/ كانون الثاني 2021، حين شهدت مصر انهيارًا في المباني، وحوادث القطارات. فضلًا عن مجموعة متنوعة من المصائب الأخرى بشكل منتظم ينذر بالخطر.

حادثتا قطاري العياط وطوخ في فبراير 2002 و2021
حادثتا قطاري العياط وطوخ في فبراير 2002 و2021

ثم يربط بين هذه الحوادث وما عانى منه المصريون في السنوات الأخيرة من الحكم الطويل للرئيس المصري الأسبق حسني مبارك. ويتساءل: إذا كانت مصائب أواخر عهد مبارك قد ساهمت في عدم الاستقرار في مصر ومن ثم الانهيار، فكيف يمكن منع مآسي مماثلة من أن تفعل الشيء نفسه؟ ويجيب على سؤاله بأنه في حين كان عدم الاستقرار هذا قد ساهم في سقوط مبارك من السلطة، فمن المحتمل ألا يتكرر ذلك في الوقت الراهن.

اقرأ أيضا: بين كنيستي أبو سيفين والمنيا الجديدة.. دفتر عمران الأقباط

قد يبدو هذا غريبًا، كما يقول “كوك”. خاصةً لأن المحللين غالبًا ما يستنتجون أن الحكام قد يجدون أنفسهم عاطلين عن العمل، عندما يصبح عدم الاستقرار سمة من سمات السياسة. ومع ذلك، في مصر -في هذه اللحظة- لا يبدو أن هذا هو الحال، على حد قوله.

الحكم صنع الأزمة 

يشير “كوك” إلى أنه “على خلفية الكوارث التي يمكن تجنبها، يواجه المصريون -مثل العديد ممن يعيشون في البلدان ذات الدخل المتوسط ​​والمنخفض في جميع أنحاء العالم- أزمة غذاء ناجمة عن قوى خارجة عن سيطرة حكومتهم. كما أنهم “يصارعون أزمة مالية هي من صنع الإدارة المصرية بالكامل”.

ويوضح أنه من الصعب تحقيق الرخاء في مصر. ذلك لأن عدد الأشخاص الذين يدخلون القوى العاملة في البلاد كل عام هائلًا. فضلًا عن مجموعة أخرى متنوعة من التحديات الهيكلية -لاسيما البيروقراطية ومزاحمة الجيش القطاع الخاص في الاستثمارات. وهي كلها بمثابة حواجز أمام الاستثمار الأجنبي، تعرقل النمو الاقتصادي الشامل.

ويرى “كوك” أن الإدارة المصرية اختارت -في سبيل مواجهة هذا الواقع المرير- أن تخلق انطباعًا زائفًا بالثراء المجتمعي المتزايد. ذلك بضخ استثمارات ضخمة في مجرى قناة السويس، وأنظمة الأسلحة، والمفاعل النووي الجديد بالضبعة، وفي العاصمة الإدارية الجديدة لمصر. لتؤكد صور ما تم إنجازه، ومن ثم إقناع المصريين بأن بلادهم في حالة تحرك ولا يزال بإمكانها القيام بأشياء عظيمة.

لكن ومع ذلك، فإن هذه المشاريع هي “في الغالب وهمية”، وفق “كوك”، الذي يقول: “من المؤكد أن كوبري (تحيا مصر) الجديد -وهو أوسع كوبري معلق في العالم- جنبًا إلى جنب مع التقاطعات والكباري الجديدة التي ظهرت في مصر على مدار العقد الماضي، تعتبر تحسينات مهمة لكنها أيضًا مثيرة للجدل في بعض الأحيان”.

مسجد الفتاح العليم في مدخل العاصمة الإدارية الجديدة

عاصمة جديدة ليست للشعب

يضرب الباحث المتخصص في قضايا الشرق الأوسط وأفريقيا مثالًا على الاستثمار الذي أنهك اقتصاد مصر، فيقول إن “تكلفة عائد الاستثمار، فيما يشار إليه خطًأ باسم قناة السويس الجديدة، التي توسعت في الغالب، ووسعت ممرًا جانبيًا بطول 21 ميلًا على طول القسم الشمالي من الممر المائي، بلغت 8.5 مليار دولار، في حين كان من المفترض أن يسرع هذا التوسع العبور عبر القناة، وبالتالي زيادة الإيرادات لمصر. لكن، لا يزال من غير الواضح ما إذا كان المبلغ القياسي للأموال التي تجنيها هيئة قناة السويس هو نتيجة هذا المسار، أم مجرد طريقة لزيادة الرسوم التي تمتلكها الهيئة، وفرضتها في السنوات الأخيرة على السفن التي تحمل 12% من التجارة العالمية التي تمر عبر القناة”.

وهو يلفت إلى أن “مصر لا تحتاج إلى مفاعل نووي، لأن لديها فائض من الكهرباء”. وكذلك “ما المبرر لعاصمة جديدة تكلف حوالي 60 مليار دولار؟ نعم، القاهرة تعاني من فوضى مزدحمة بالمرور، وبنيتها التحتية سيئة في أحسن الأحوال. لكن المدينة الجديدة لا تُبنى من أجل المصريين العاديين. إذ من المقرر أن يكون مجمعًا حصريًا لموظفي الحكومة وكبار المسؤولين والنخب الأخرى”.

يوضح “كوك”: “قد يكون النهج الأكثر حكمة هو تخصيص هذه الموارد لإصلاح بعض أكثر مشاكل القاهرة وضوحًا. بالقياس إلى احتياجات مصر الكبيرة. يجب أن تكون المدينة الجديدة من الصفر في فئة (سيكون من الرائع امتلاكها) بدلًا من أن (نحتاج إلى كسر بنك للحصول عليها)”.

مصر واحدة من أكثر البلدان المثقلة بالديون في العالم، وفق تعبير “كوك”. إذ تقترض الحكومة الأموال فقط لخدمة الفائدة على ديونها الحالية. ويعقّب: “أخبرني صديق من القاهرة مؤخرًا بأن الجميع في العاصمة المصرية أصبح الآن خبيرًا في بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، يعرف متى سترفع أسعار الفائدة ومقدارها.. الناس خائفون. في الواقع، يجب أن يكونوا كذلك وهم ينتظرون الجولة الثانية المفترضة لتخفيض قيمة العملة”.

اقرأ أيضا: في 6 أشهر.. كيف زادت استحواذات الإمارات والسعودية على الأصول المصرية؟

هل تمت التضحية بـ”عامر”؟

في عام 2016، خفض البنك المركزي قيمة الجنيه؛ امتثالًا لشروط صندوق النقد الدولي للحصول على قرض. ونتيجة لذلك، أصبح كل شيء بين عشية وضحاها أكثر تكلفة، وفق ما يذكر “كوك”، الذي يضيف: “لا عجب أن يخشى المصريون المزيد من تخفيض قيمة العملة. لقد تدهور الوضع المالي في مصر، وربما يكون ذلك السبب وراء استقالة محافظ البنك المركزي طارق عامر -أو إجباره على الاستقالة- يوم الأربعاء الماضي”.

وقد خلص بنك جولدمان ساكس -مؤخرًا- إلى أن الحكومة المصرية بحاجة إلى تمويل بقيمة 15 مليار دولار فقط لتمويل عملياتها. وهو ما يعقب عليه “كوك” بالقول: “إن السعوديين والإماراتيين والقطريين في الخليج العربي- قلقون بما يكفي. لدرجة أنهم التزموا بتقديم 22 مليار دولار على مدى الأشهر القليلة الماضية لإنقاذ وضع الحكومة المصرية”.

الصندوق سيساعد ولكن

يضيف: “يزعم المسئولون الحكوميون في مصر أن تقدير بنك جولدمان مرتفع للغاية. لكنهم يعترفون بأن مصر ستسعى للحصول على قرض آخر من صندوق النقد الدولي. بالإضافة إلى القرض الذي حصلت عليه في عام 2016، وما ضخ من أموال من الصندوق في عام 2020”.

وفق “كوك”، فإن المرجح أن يقدم صندوق النقد الدولي لمصر قرضًا في برنامج سهل إلى حد ما -حيث يُنظر إلى مصر على أنها أكبر من أن تفشل- لكنه لن يكون خاليًا من الشروط أو التكلفة. وهذا هو المكان الذي قد تتقاطع فيه حاجة الإدارة المصرية السياسية لخلق انطباع بالازدهار مع الواقع الموضوعي.

“على وجه الدقة، الإدارة المصرية لم تف بما وعدت به”؛ يقول “كوك”، الذي يشير كذلك إلى أن “المصريين الذين ليس لديهم رأي في كيفية إنفاق قادتهم لما هو موجود من ثروة البلاد. سيتحملون الألم الإضافي المطلوب لتنظيف الميزانية العمومية لمصر”. بينما يتوقع أن يستلزم ذلك مجموعة من السياسات غير الشعبية. بما في ذلك تخفيض قيمة العملة مجددًا، وكذلك خصخصة الشركات المملوكة للدولة -مصادر الوظائف التي قد تختفي من قبل الملاك الجدد- فضلًا عن فرض رسوم أعلى لكل شيء.

ما مدى استعداد المصريين للتحمل؟

ما مدى استعداد المصريين للتحمل؟ يجيب الباحث في مجلس العلاقات الخارجية بـ”لا أحد يعلم. فمنذ أكثر من عقد من الزمان، اعتقد كثيرون أن المصريين سيكونون على استعداد لتحمل الكثير، ذلك حتى 25 يناير/كانون الثاني 2011، عندما أوضح المصريون أنهم ليسوا كذلك، وأطلقوا ثورة”.

وفق هذه القراءة، من المعقول بفعل الضغوط الاقتصادية الإضافية أن يندفع الناس مرة أخرى إلى أقصى حدودهم بمظاهرات في الشوارع. ورجحان حدوث ذلك ما شهده العالم مؤخرًا من أحداث في سريلانكا والإكوادور والهند وإيران وكازاخستان وأماكن أخرى.

يقول “كوك” إن الإدارة المصرية تدرك هذا الخطر، وربما يخشى المصريون أنفسهم الاحتجاج الآن. هذا أمر مفهوم بالنظر إلى أن السجون المصرية التي تعج بالمعارضين السياسيين “الحقيقيين والمتصورين” للحكومة، الذين يقال إنهم يتعرضون لظروف مروعة. لكنه يستدرك على هذا بأن “التضييق ليس ضمانة ضد عودة الناس إلى الشوارع كما أظهر عام 2011”.

أيضًا كانت لدى مبارك ميزة لا يتمتع بها الرئيس الحالي. فالأخير ليس لديه حزب سياسي يلقى باللوم عليه، وهو بذلك يفتقد لطبقة دفاع عن النظام، تمتع بها مبارك خلال جزء كبير من ولايته التي استمرت 30 عامًا، وفق ما يوضحه “كوك”.

هذا الوضع “يعني أن أجهزة الأمن الداخلي المصرية سيكون عليها أن تتصرف بأقصى درجات القسوة من أجل الحيلولة دون خروج المواطنين عن الخط. يقول “كوك”: “سيجعلونهم يفكرون في حقيقة أن الأمر مكلف للغاية. ومع ذلك، فإن الاعتماد المفرط على الإكراه ينطوي على مخاطر كبيرة. بما في ذلك إمكانية دفع الناس إلى ما بعد نقطة الخوف. قد يتحولون إلى مرحلة: ليس لدينا ما نخسره. لم نعد خائفين”.

قوات العمليات الخاصة للأمن المركزي بميدان التحرير- أرشيفية
قوات العمليات الخاصة للأمن المركزي بميدان التحرير- أرشيفية

اقرأ أيضا: هندسة الطبقات: كيف تراجعت الطبقة الوسطى لصالح طبقات جديدة؟

هل الحكم في خطر؟

يحذر “كوك” صناع القرار المصري من أنه “إذا أصبح عدم الاستقرار سمة أكثر بروزًا في السياسة والمجتمع المصري، فإن الإدارة الحالية ستكون أيضًا في خطر”.

ومع ذلك، يرى أن ذلك يمكن تداركه. خاصة وأنه لا توجد بدائل ذات مصداقية للرئيس الحالي، وبالتالي لا يوجد تهديد واضح لسلطته.

يضيف “كوك”: “لم تُظهر مراكز القوى الرئيسية في مصر ميلًا كبيرًا للانفصال عن السيسي. ومن المرجح أن تظل على هذا النحو، حتى لو وجد المصريون بشكل جماعي طرقًا للتعبير عن مظالمهم”.

ويتساءل: “ما الفائدة من الاستبدال؟ إلا إذا كان الوضع يعرض التماسك الاجتماعي في البلاد للخطر. حينها ستكون القصة مختلفة. هذا خط أحمر تجاوزه كل من مبارك وخليفته محمد مرسي، ما دفع القيادة العسكرية العليا إلى عزلهما”؛ كما يقول “كوك”.

يرى “كوك” أن المشكلة في مواصلة الإنفاق على مشاريع ذات قيمة مشكوك فيها للبلاد، وما يتبع ذلك من عبء على عاتق المصريين، لتزداد الظروف الصعبة التي يضطر الكثيرون للعيش في ظلها. ويوضح الباحث في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي أنه “بمرور الوقت -وربما قريبًا- سيكون هناك حد لمقدار المساعدة التي يمكن أن تقدمها الدول الغنية لمصر. نظرًا للأزمات في جميع أنحاء العالم”.

يقول: “سيكون ذلك سيئًا أولًا وقبل كل شيء للمصريين. ولكن، يمكن أن يكون له أيضًا تأثير سلبي على الاستقرار في شمال أفريقيا والمشرق، وحتى أوروبا. يمكن للقطريين والأمريكيين ومسئولي صندوق النقد الدولي الاستمرار في فكرة أن مصر أكبر من أن تفشل. قد يكون الأمر كذلك، لكن إنقاذ الإدارة نفسها -بأموال مجانية وشروط الصندوق السهلة- لن يؤدي إلا إلى إطالة أزمة مصر”.

 

ستيفن أ. كوك كبير زملاء معهد إيني إنريكو ماتي لدراسات الشرق الأوسط وإفريقيا في مجلس العلاقات الخارجية. وهو مؤلف كتاب “سقوط زائف: الاحتجاج.. الديمقراطية والعنف في الشرق الأوسط الجديد”. وهو أيضًا مؤلف كتاب “الكفاح من أجل مصر: من ناصر إلى ميدان التحرير”. و”حكم ولكن لا يحكم: التنمية العسكرية والسياسية في مصر والجزائر وتركيا”.