استنكر طبيب الأمراض الجلدية خالد منتصر أن يقرأ شيخ الأزهر كتاب “أفول الغرب” أثناء عودته بالطائرة من رحلة علاجية في ألمانيا.. فالعلاج في بلاد الغرب، واستخدام الطائرة في السفر، يتناقض -في قول منتصر- مع فكرة “الأفول”، التي تتصدر غلاف الكتاب، ومع تناقضها، فإنها تفتح الباب أمام الأسئلة عن مستوى مستشفيات جامعة الأزهر، التي لم يثق الإمام الأكبر في خدماتها العلاجية، فتركها وسافر للعلاج في الخارج.

موقف منتصر يمثل مظهرا جليا من مظاهر “أزمة التنوير” أو بالأحرى “محنة التنوير” التي تعمقها تلك المجموعة الصغيرة المتصدرة للحديث ليل نهار عن “التطرف الديني” و”الجمود الفقهي” وتحميل الأزهر وحده مسؤولية التخلف التكنولوجي، والتراجع الحضاري.. دون كلمة واحدة عن أثر الاستبداد السياسي أو سوء الإدارة أو الفشل الاقتصادي فيما نعانيه من سنوات وعقود.

لا نحتاج إلى جهد كبير، لندرك أن مذهب منتصر، مبني على مجموعة من المغالطات، تتجاوز محتوى كتاب “أفول الغرب”، الذي تأكد لمتابعي “الترند” أن طبيب الأمراض الجلديه لم يقرأه، ولا يعرف شيئا عن رؤية كاتبه.. فمنتصر ومن شايعه، يظنون أن الناس جميعا مثلهم، لا يقرأون إلا ما يوافق رؤيتهم، ويؤيد مواقفهم، ويتوافق مع أفكارهم.. وهذا مذهب في القراءة لا نفع منه ولا فائدة.

ولنفترض إذن، أن شيخ الأزهر كان يقرأ كتابا لأحد عتاة الإرهابيين الدواعش، أو أحد السلفيين المتطرفين الذين يكفرون الأزهر والأشاعرة، أو كان يطالع كتاب “معالم في الطريق” لسيد قطب، فهل يعني هذا أن الإمام الأكبر يتبنى ما تحتويه هذه الكتب؟ أو أنه يؤيد أفكار مؤلفيها؟

لسنوات وعقود، كانت التيارات الدينية، السلفي منها والحركي، محل نقد شديد من عموم المثقفين على اختلاف توجهاتهم، بسبب تورطهم في تكفير أدباء ومفكرين، دون أن يطلعوا على ما كتبوه.. كان خطباء الإخوان يهاجمون طه حسين على المنابر، فإذا سألت الخطيب بعد الصلاة إن كان قد قرأ شيئا لطه حسين لم تجد إلا نفيا وإعراضا.. قاتل فرج فودة أقر أمام المحكمة أنه لم يقرأ كلمة واحدة للكاتب الشهيد، وهو نفس موقف من حاول اغتيال نجيب محفوظ طعنا في رقبته، أو من كفروا نصر حامد أبوزيد.

لكن مذهب منتصر يثبت أن أهل التطرف الديني لم يختصوا بهذا السلوك غير العلمي، لأن محصلة ما كتبه تعني أنه يقبل من شيخ الأزهر أن ينتقد كتابات لم يقرأها، أو أن يتورط في مناقشة أفكار لم يطلع عليها في مصادرها الأصلية.

ومذهب منتصر يحمل قدرا كبيرا من التسلط الفكري، مع شعور متضخم بالذات، يسمح لصاحبه أن ينتقد شخصا ما لأنه يقرأ كتابا ما.. وهذا موقف مرفوض من حيث المبدأ.. مبدأ الحق في المعرفة.. لكن هذا الرفض يتعاظم عندما نضيف له أن هذا المنتقد لم يقرأ الكتاب.. وأنه اكتفى بالحكم عليه من لفظة في عنوانه.. وأنه يعتقد أن من يقرأ كتابا فإنه حتما يوافق على محتواه.. وأنك عند شراء الكتب تبحث عن العناوين التي تظن أنها تؤيد أفكارك المسبقة.

ثم يتحول الأمر إلى ملهاة ساخرة، حين يصدر هذا الموقف المتسلط، ضد الإمام الأكبر، وهو الأستاذ الجامعي المرموق، خريج السوربون، المتخصص في الفلسفة وعلم الكلام، المتقن للفرنسية قراءة وكتابة وتخاطبا، المتعمق في الفلسفات الشرقية، مع الاطلاع الواسع على الفلسفة الغربية، صاحب عشرات المؤلفات في الفلسفة والكلام، مفتي الديار المصرية سابقا، رئيس الجامعة الأسبق، والجالس على كرسي مشيخة الأزهر، أكبر منصب ديني في العالم الإسلامي.

لست حفيا برد الفعل الشعبي الحاد ضد الطبيب خالد منتصر، ذلك الرد الذي تجلى على مواقع التواصل في مئات آلاف التعليقات الساخرة والناقدة وربما الشاتمة، مع تأييد جارف لشيخ الأزهر، اضطر معه منتصر إلى إعلان “إجازة” من “فيسبوك” مؤقتا.. لكن المحزن أن منتصر ومجموعته، لا يكفون عن توجيه الضربات لمسيرة التنوير الحقيقية، المنشغلة بالقضايا الكبيرة، والملفات المهمة الشائكة، المشتبكة مع الواقع الفكري والاجتماعي، دون صدام انتحاري بهذا الواقع.. ولعل أكبر الأزمات التي تعانيها حركة التنوير حاليا، تتمثل في أن لفظة “تنوير” قد ساءت سمعتها في نظر الجماهير الواسعة، والتيار المحافظ العريض والممتد في شرايين المجتمع، لأن العقل الجمعي، وبمجرد أن يستمع إلى هذه اللفظة، أصبح يستدعي مجموعة محدودة من الأسماء، تعد على أصابع اليدين، لم ير منها الناس يوما نقدا عميقا، ولا كلاما متزنا، ولا مقترحا عمليا نافعا.. مع إصرار على تجاهل قضايا الحريات، أو حقوق الإنسان، أو المشاركة السياسية، أو التوزيع العادل للثروة، أو الإدارة الرشيدة للاقتصاد.

خذ مثلا من كلام منتصر الذي يحمل تعييرا لشيخ الأزهر، لأنه ذهب للعلاج في الخارج، ولم يعتمد على خدمة مستشفيات جامعة الأزهر.. فهذا ليس إلا هروبا، من مناقشة حالة المستشفيات ومستوى الخدمة الصحية في مصر، وهل تنفق الدولة النسب التي قررها الدستور للصحة والتعليم أم لا؟، وهل المآخذ على الخدمة الصحية يخص مستشفيات الأزهر أم أن المسألة أعقد من هذا التناول؟.. وهل ينتقد منتصر شخصيات كبيرة ومهمة غير شيخ الأزهر إذا ذهبوا للعلاج في الخارج؟ أم أن المسألة كلها مناكفة مع رأس المؤسسة الدينية؟

على مدار قرنين ونصف، قاد حركة التنوير في مصر عدد من أصحاب العقول الكبيرة المؤثرة الملهمة.. وكنا إذا ذكرت لفظة “تنوير” تداعت إلى الأذهان أسماء: حسن العطار، ورفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وقاسم أمين، وطه حسين، ومحمود شلتوت، وزكي نجيب محمود.. مرر هذه الأسماء على نفسك، ثم اذكر أسماء المتصدرين لـ”التنوير” حاليا: خالد منتصر، إسلام بحيري، فاطمة ناعوت، وحتما ستشعر أنك قد سقطت من شاهق، أو ألقت بك الريح في مكان سحيق.. لخالد منتصر نصيب من اسمه، فهو يحقق الانتصار تلو الانتصار، لكن الحقيقة المرة تؤكد أن كل انتصاراته، بل كل معاركه، كانت ضد حركة “التنوير الحقيقي”.