مع نهاية شهر يوليو/ تموز الماضي، تراجعت واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الروسي بنسبة 70% عما كانت عليه خلال الشهر نفسه من العام الماضي 2021. وكانت بلدان الاتحاد الأوروبي أقرت خطة لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي بعد عدوان روسيا على أوكرانيا نهاية فبراير/ شباط الماضي.
وفقًا للبيانات الرسمية، كانت روسيا تزود أوروبا بنسبة 40% من احتياجاتها من الغاز، و30% من البترول ومشتقاته. ما يجعل القارة العجوز رهينة روسيا.
ظهر هذا جليًا عبر القرارات التي أصدرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي فرض على بلدان أوروبا دفع ثمن الغاز والنفط الروسي بالعملة الروسية “الروبل” بدلًا من الدولار. ذلك تفاديًا للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على بعض البنوك الروسية وإخراجها من منظومة سويفت بنك.
خلال الأشهر التي أعقبت العدوان، دخلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في محادثات للبحث عن مصادر مختلفة لتوريد الغاز إلى أوروبا. والتي تستهلك سنويًا حوالي 397 مليار متر مكعب من الغاز.
تُخطط أوروبا لتقليص حجم الاعتماد على روسيا بمعدلات تصل إلى الثلثين بنهاية العام الجاري 2022. ومن شأن هذا أن يُعيد رسم خرائط الطاقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على الأقل، باعتبارها المنطقة الأقرب لدول الاتحاد.
لكن هذه الخطط طموحة جدًا. خاصة وأن بعض دول الاتحاد يصل اعتمادها على الغاز الروسي لما يزيد بكثير عن نسبة الـ50% تقريبًا: فنلندا بنسبة 97.6%، وبلغاريا بنسبة 85%، وسلوفاكيا بنسبة 85%، وألمانيا بنسبة 49%، وإيطاليا بنسبة 46%.
قطر المستفيد الأكبر
بعد أقل من شهرين، دخل الاتحاد الأوروبي في محادثات مباشرة مع قطر لبحث مسألة تزويده بالغاز المُسال. ذلك بسبب القرب الجغرافي، إضافة لإمكانات قطر التصديرية التي قد تستطيع توفير نحو 13% من احتياجات دول الاتحاد. فضلًا عن الرسائل الإيجابية التي أرسلتها قطر عبر مسئوليها بضمان عدم انقطاع الغاز عن أوروبا.
ومنذ مارس/ آذار، تواصل رؤساء حكومات 4 دول أوروبية في محادثات مباشرة مع قطر لشراء الغاز المُسال بعقود طويلة الأمد.
يصف مسئول قطري المحادثات مع أوروبا بالقول: “نخطط منذ سنوات لزيادة عقودنا طويلة الأجل مع أوروبا. سيكون لدينا مزيد من القدرة على البيع في غضون بضع سنوات. لذا فإن المناقشات الآن تتعلق بصياغة عقود طويلة الأجل، من شأنها أن تساعد في ضمان أن أوروبا لن تمر بفقر الطاقة مرة أخرى”.
وفي إبريل/نيسان الماضي، كشفت شركة قطر للطاقة الحكومية التي تستحوذ على نسبة 20% من سوق الغاز المُسال عن خطتها لبناء 6 مصانع لتسييل الغاز. ذلك بتكلفة إجمالية نحو 30 مليار دولار، ولمضاعفة صادراتها من الغاز المُسال إلى 160 مليار متر مكعب عام 2027، بدلًا من 77 مليار متر مكعب حاليًا.
بحسب بيانات الاتحاد الدولي للغاز، فإن رحلات شحنات الغاز الطبيعي المُسال كانت الأكثر شيوعًا بين قطر وإيطاليا. حيث بلغ عددها 76 شحنة من إجمالي 6708 شحنة غاز مُسال أبحرت في 2021.
كما تُخطط إيطاليا للتركيز على زيادة الغاز المُسال من قطر وبعض الدول ليصل إلى 12.7 مليار متر مكعب خلال عام 2024. ذلك وفق ما قاله وزير الانتقال البيئي في الحكومة الايطالية روبرتو تشينجولاني. وتبحث إيطاليا وقطر أيضًا سبُل تعزيز التعاون الثنائي في مجال الطاقة، في وقت تتطلع فيه روما لكسر اعتمادها على واردات الغاز الروسي.
أزمة ألمانيا
أما في ألمانيا، فشهدت المحادثات مع قطر أزمة، بسبب الشروط الرئيسية أبرزها مدة عقد شحنات الغاز المُسال الذي تنوي قطر توريده إلى ألمانيا. وترغب الأخيرة في عدم الالتزام بعقد طويل الأمد لتعويض نحو 50% من الغاز الذي ستفقده بسبب العقوبات على روسيا.
وكان وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك زار قطر ورافقه مسئولون من بعض الشركات الألمانية في مارس/ آذار، لبدء محادثات مع قطر لعقد اتفاق لتزويد بلاده بالغاز.
وتهدف ألمانيا إلى خفض انبعاثات الكربون بنسبة 88% بحلول عام 2040. وهو الأمر الذي يتعارض مع الالتزام بشروط قطر لتوقيع صفقات مدتها 20 سنة على الأقل؛ لتأمين كميات ضخمة من الغاز الطبيعي المُسال.
كما تحدد قطر، شروطًا لمنع برلين من إعادة توجيه الغاز إلى مناطق أخرى في أوروبا. وهو شرط يعارضه الاتحاد الأوروبي.
تستهلك ألمانيا حاليًا نحو 100 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي.
وبينما تحتدم المناقشات بين ألمانيا وقطر، قالت مصادر لوكالة “رويترز” الإخبارية إن حكومة المستشار الألماني أولاف شولز تستعد لاحتمالية توقف مفاجئ في إمدادات الغاز الروسي من خلال وضع خطة طارئة.
ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان الإيقاف المفاجئ للإمدادات سيحدث أم لا. إذ قال مسئولون في ألمانيا إن البلاد تريد تجنب التصعيد. وبالتالي تتردد حول دعم أوروبا بحظر الغاز الروسي.
إحياء مصانع إسالة الغاز المصرية
في يونيو/حزيران الماضي، اتفقت مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي على تصدير نحو 16 مليار متر مكعب من الغاز بعقد طويل الأمد. وذلك بموجب مذكرة تفاهم مبدئية وُقعت في القاهرة.
جاء التوقيع تحت مظلة منتدى غاز شرق المتوسط الذي تأسس عام 2019. ويهدف التعاون إلى نقل الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى أوروبا، بعد تسييله في مصنعي الإسالة المصريين “إدكو، ودمياط”.
إسرائيل تضخ الغاز الطبيعي إلى مصر منذ 2020 من أجل تسييله واعادة تصديره إلى أوروبا، بموجب اتفاق قيمته 15 مليار دولار.
وتشترك الحكومة المصرية في امتلاك مصنعي إسالة بمدينتي دمياط وإدكو بطاقة إجمالية 12 مليون طن غاز مسال سنويًا “16 مليار متر مكعب”. ويصف دبلوماسي تركي سابق، مصر بالقوة الكبيرة في منطقة شرق المتوسط، وأنها ستلعب دورًا كبيرًا في تصدير غاز منطقة شرق المتوسط إلى أوروبا.
ويبلغ الاحتياطي التقديري للغاز والنفط في منطقة شرق المتوسط نحو 3455 مليار متر مكعب من الغاز، و1.7 مليار برميل من النفط، تتراوح قيمتها التسويقية ما بين 700 مليار، و3 تريليونات دولار أمريكي، وفق تقرير هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية الصادر عام 2010.
توقعات بلومبرج لمصر
وتوقعت وكالة بلومبرج، أن تبيع مصر نحو 8.2 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال خلال العام الحالي. وسيكون هذا الرقم الأعلى لمصر منذ عام 2009.
واستثمرت مصر نحو 1.2 تريليون جنيه في قطاع البترول حتى نهاية إبريل/نيسان الماضي. ذلك في إطار خطتها للتحول إلى مركز إقليمي لتجارة وتداول البترول والغاز الطبيعي، وفقًا لبيانات الحكومة المصرية.
وبلغ إنتاج مصر من الغاز الطبيعي حوالي 69 مليار متر مكعب سنويا، لتحتل المركز 13 عالميا والخامس إقليميا والثاني إفريقيا بعد الجزائر في إنتاج الغاز، بحسب أرقام وزارة البترول. وبلغ حجم شحنات الغاز المُسال التي صدّرتها مصر 8.9 مليار متر مكعب في 2021، وخلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري بلغت 4.7 مليار متر مكعب.
كما يتوقع الاتحاد الأوروبي زيادة الصادرات هذا العام، وتتوقع المفوضية الآن شراء 7 مليار متر مكعب من مصر هذا العام ، ارتفاعًا من 5 مليارات متر مكعب، وفقًا لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية.
ويرى الدكتور تشارلز إليناس، المحرر العام بمجلة عالم الغاز الطبيعي، أن موقع مصر وتوافر إمدادات الغاز الطبيعي والبنية التحتية الأكثر شمولًا بشرق المتوسط، يؤهل البلاد لكي تكون “مركز إقليمي للغاز.
الجزائر تُعيد رسم سياستها
ترتبط الجزائر بسوق الغاز الأوروبية من خلال أنبوب “ترانسميد” والذي يعبر البحر الأبيض المتوسط إلى إيطاليا.
وتريد الجزائر استغلال الحرب الروسية الأوكرانية لزيادة صادراتها من الغاز. وتُصدر الجزائر حاليًا نحو 22 مليار متر مكعب معظمها إلى أوروبا.
وترغب الحكومة الجزائرية في زيادة صادراتها من الغاز بنحو 10 مليار متر مكعب، والتي ستكون وجهتها إسبانيا وبعض الدول الأوروبية الأخرى. ولهذا الأسباب، دخلت شركة سوناطرك الجزائرية على الخط مباشرة وأعلنت استعدادها لزيادة صادراتها من الغاز إلى البلدان الأوروبية.
وفي سبيل ذلك، استقبلت الجزائر وزير الخارجية الإيطالي الباحث عن زيادة واردات بلاده من الغاز الجزائري، بعد أن أعلن رئيس الوزراء الإيطالي في وقت سابق أن بلاده تستهدف تنويع مصادرها من الطاقة، لتقليص اعتمادها على الغاز الروسي.
ووفقًا للبيانات الصادرة عن وكالة الطاقة الدولية eia، تحتل الجزائر المرتبة الثانية في قائمة الدول المُصدّرة للغاز لإيطاليا، خلف روسيا. وترتبط إيطاليا عبر شركتها إيني بثلاثة عقود لاستقبال الغاز الجزائري والتي تمتد حتى العام 2050.
في عام 2021 ارتفعت مشتريات إيطاليا من الغاز الجزائري إلى 6.4 مليار متر مكعب
تصدر الجزائر ما بين 20 إلى 22 مليار متر مكعب يمر خط أنابيب ترانسميد عبر تونس ومنها للبحر المتوسط بطول 2485 كم تبلغ القدرة الأساسية لخط ترانسميد 33 مليار متر مكعب سنويا الاتفاق مع إيطاليا يُزيد كمية تصدير الغاز عبر ترانسميد 3 مليار متر مكعب بإجمالي 25 مليار متر مكعب سنويا المصدر: وكالة الطاقة الدولية eia |
كما أن هناك خط أنابيب ثان قيد الإنشاء يُسمى “جالسي”، بطول 860 كم، وبسعة نحو 6.74 مليار متر مكعب سنويًا، كان قد توقف العمل فيه نتيجة تراجع الطلب الإيطالي على الغاز الجزائري، والخلاف بين الجزائر وإيطاليا حول خطة التوريد، إذ رغبت الجزائر في توقيع عقود طويلة الأجل، وهو ما رفضته إيطاليا. غير أن أزمة أوكرانيا والبحث عن بديل من الغاز الروسي، أعاد التفكير بخط “جالسي”.
ومن المفترض أن يتوجه هذا الخط إلى إيطاليا، ويبدأ إنتاجه في النصف الثاني من العام الجاري.
أنبوب الصحراء النيجيري
في يوليو/تموز الماضي، وقعت الجزائر مذكرة تفاهم مع نيجيريا والنيجر لمد خط أنابيب للغاز الطبيعي عابر للصحراء. ذلك بهدف تعزيز صادرات الغاز إلى أوروبا. وكانت الدول الثلاث قد اتفقت في يونيو/حزيران الماضي على إحياء المحادثات بشأن المشروع، الذي يمثل فرصة لأوروبا لتنويع مصادرها للغاز.
اقرأ أيضًا: صراع روسيا والغرب.. أية مكاسب للعرب في معادلة الطاقة العالمية؟
وبحسب التقارير، تُقدر تكلفة المشروع ما يتراوح بين 13 إلى 20 مليار دولار. فيما تصل سعته التقديرية إلى 30 مليار متر مكعب إلى أوروبا.
ومن المُخطط أن يمتد خط الأنابيب لمسافة 4 آلاف كيلو متر. ومن المُقرر أن يبدأ الأنبوب من منطقة واري بنيجيريا مرورًا بدولة النيجر حتى ينتهي في منطقة حاسي الرمل بالجزائر ومنها عبر البحر إلى أوروبا.
وتعود فكرة هذا الأنبوب إلى أكثر من 40 عامًا. فيما جرى توقيع أول اتفاق بين الجزائر والنيجر ونيجيريا في عام 2009. لكنه كان حبرًا على ورق حتى كانت الحرب الروسية الأوكرانية.
خط الغاز الجزائري النيجيري يمتد لمسافة 4128 كم
تصل سعته التقديرية 30 مليار متر مكعب تتراوح تكلفته بين 13 إلى 20 مليار دولار |
منافسة جزائرية مغربية على غاز نيجيريا
وفقًا لآخر التقارير، لم تُعلن إيطاليا دعم مشروع خط الغاز الجزائري النيجيري. بل لم تُظهر الدول الأوروبية اهتمامًا بالخط على الأقل حتى الآن. فيما يواجه هذا الخط منافسة من المغرب التي وقعت مذكرة تفاهم مع نيجيريا بشأن استحواذها على نقل الغاز النيجيري بدلاً من الجزائر.
لكن خط الغاز المغربي النيجيري المقترح، يواجه معضلة كبرى. إذ يتطلب موافقة 11 دولة أفريقية حتى يصل إلى المغرب ومنها إلى الأسواق الأوروبية. وبموجب الاتفاق، تُخطط البلدان لمد خط الأنابيب إلى بنين وتوجو وغانا، وكانت بدأت فكرة هذا الخط عام 2010.
في الوقت الحالي، تعدّ إسبانيا والبرتغال وفرنسا الأسواق الثلاثة الرئيسية لمنتج الغاز الطبيعي المسال النيجيري، ولا تستطيع الشركة الوفاء بعقودها الحالية إلا مع المشترين، وفقًا لما نقلته بي بي سي.
روسيا.. لابديل عنها
من وجهة نظر روسيا، التي ينقلها رئيس تحرير موقع “جيو إنيرجيتيكا”، المتخصص في شؤون الطاقة، بوريس مارتسينكيفيتش، فإن هناك عقبات فنية ترتبط بالبنية التحتية، إضافة لعدم وجود ناقلات غاز كافية حول العالم في ظل الإقبال الكبير على الغاز المُسال من جانب الأسواق الأوروبية والأسيوية.
يُضيف أن مصر والإمارات والجزائر وأذربيجان ليس لديها القدرة على تعويض الغاز الروسي المصدر إلى أوروبا. ويعتقد بوريس، أن ألمانيا لا تستطيع الاستغناء عن الغاز الروسي على الأقل خلال الـ7: 8 سنوات القادمة.
كما أن خط الغاز المقترح إنشاؤه من حقل شاه دنيز الأذربيجاني. وتقدر سعته بـ16 مليار متر مكعب سنويًا، سيتم تخصيص 10 مليار متر مكعب منه لدول جنوب أوروبا. في حين ستتجه الكمية الباقية إلى تركيا، لن يكتمل قبل سنوات، وفقًا للخبير الروسي.
ويرى بوريس، أن الجزائر مؤهلة لزيادة صادراتها من الغاز إلى إيطاليا. لكن العلاقات الجزائرية الإسبانية تشهد توترًا. وبالتالي قد تخسر الجزائر سوقًا محتملة. ويلفت إلى أن الاتحاد الأوروبي تخلى عن سياسته المعروفة بـ”الأجندة الخضراء” وبدأ يعود للفحم الحجري الملوث للبيئة.
أما فيما يتعلق بخطط ألمانيا لبناء محطات لاستقبال الغاز المسال لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي. يقول خبير الطاقة الروسي، إن هذه المساعي قد تواجه معارضة من جانب حماة البيئة، وبناء محطات من هذا النوع يستغرق عامين إلى ثلاثة. لذلك لن يحدث تغير في الشتاء المقبل. علمًا بأن كميات الغاز المسال في العالم محدودة. لذلك، فإن بناء محطات غاز مسال لا يعني شيئا.
في النهاية، قد تكون الحرب الروسية الأوكرانية سببًا في إعادة خطط قديمة لإنشاء أنابيب غاز كان من الصعب الاتفاق على إنشائها. والتي قد تُغير من خريطة الطاقة وبالتبعية الأوزان الجيواستراتيجية والسياسية في العالم خاصة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.