تجري الحكومة مفاوضات مكثفة مع صندوق النقد الدولي منذ مارس/آذار الماضي للحصول على قرض جديد قيمته بين 2  و5 مليارات دولار. والاتفاق على برنامج للإصلاح الاقتصادي يصاحبه تمويل جديد بعد اندلاع أزمة روسيا-أوكرانيا.

المفاوضات المستمرة منذ 6 أشهر تحمل بين محاورها نقاطا خلافية تتعلق بعجز الموازنة العامة للدولة والدعم المقدم من الحكومة. والذي يتوزّع بين السلع الغذائية والتموينية ودعم الطاقة.

وتفتح المفاوضات باب التساؤل حول مستقبل الدعم في موازنة الدولة مستقبلًا. وعما إذا كانت موافقة صندوق النقد على القرض قد تؤثر على قرارات المجموعة الاقتصادية ومستقبل تسعير المنتجات. سواء الغذائية أو الطاقة خلال الفترة القادمة. وما إذا كانت الحكومة ستستجيب لاشتراطات الصندوق.

طلبات متشددة يشترطها الصندوق

الفائدة وتعويم الجنيه
الفائدة وتعويم الجنيه

يصف صندوق النقد الأزمة الروسية الأوكرانية بأنها تسببت في تداعيات وبيئة اقتصادية ضغطت على جميع البلدان. وأنتجت تحديات على الاقتصادات العالمية -وبينها مصر- ولهذا خفض الصندوق توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي.

لذا يرى الصندوق أنه للتخفيف من تداعيات حرب أوكرانيا على الدول فإن على الحكومات المتضررة -وبينها مصر- اتخاذ تدابير الاقتصاد الكلي وسياسات هيكلية تخفف من تأثير هذه الصدمة. وتحمي الطبقات الفقيرة وتحافظ على مرونة الاقتصاد وآفاق النمو على المدى المتوسط.

لكن بعض الخبراء أشاروا إلى وجود اختلاف في وجهات النظر بين الحكومة المصرية والصندوق. يحتمل أنها تتعلق بـ”مطالبة الصندوق بإصلاحات هيكلية قد تؤثر على سعر صرف الجنيه أمام الدولار. وتزيد الضغوط على المواطن”.

وقال الخبير الاقتصادي أبو بكر الديب إن اشتراطات صندوق النقد الخاصة بإعادة تسعير الطاقة والمنتجات الغذائية ربما لن تلقى قبولًا من مصر. سواء على مستوى المسئولين أو الرأي المجتمعي. بسبب التحرك السابق في أسعار تلك المنتجات خلال السنوات السابقة. وليس عقب تداعيات أزمتي كورونا وحرب روسيا وأوكرانيا. وبالتالي ستجد الحكومة نفسها في مأزق بسبب هذا المطلب.

وأضاف لـ”مصر 360″ أن تحريك الأسعار سيؤثر داخليًا على معدلات التضخم في السوق. والتي ارتفعت الفترة الماضية بالفعل بشكل جنوني. وبالتالي ستعاني السوق من عدم استقرار على مستوى اقتصاد الطبقة المتوسط ومحدودي الدخل.

ولفت إلى أن أسعار الفائدة ترتبط مباشرة بهيكلة الأسعار في الدولة. فأي ارتفاع على مستوى سعر الصرف يقابله تحريك في أسعار السلع والمنتجات داخليًا. لذا تكون قرارات أسعار الفائدة مؤثرة بشكل كبير في الطبقات محدودة الدخل.

خفض قيمة الجنيه وتوجهات المجموعة الاقتصادية

الجنيه يفقد قيمة جديدة برفع الفائدة
الجنيه يفقد قيمة جديدة برفع الفائدة

ويرى أحمد شوقي -الخبير الاقتصادي- أن الأشهر المتبقية من 2022 ربما تشهد ارتفاعًا في الفائدة في ظل اتجاه حكومات العالم إلى تحريك الفائدة لديها. تماما مثل الفيدرالي الأمريكي الذي تتبعه كثير من الدول في قراراتها.

وهنا قد نجد أن الحكومة المصرية تتجه إلى خفض قيمة الجنيه لمحاولة اجتذاب الأموال الساخنة. والتي تخارجت من السوق إلى دول أخرى ذات فائدة أعلى.

ولفت إلى أن نقاشات سعر الفائدة ربما لكن تكون خلافية بدرجة كبيرة بين الحكومة المصرية وصندوق النقد. أما إذا تعلق الأمر بتحرير سعر الصرف وتبني فكرة تعويم جديدة فقد يكون الأمر أكثر صعوبة هنا.

قرارات وإجراءات المجموعة الاقتصادية بالتأكيد ستتأثر كثيرًا خلال الفترة المقبلة باشتراطات صندوق النقد. وقد يُعاد النظر في بعض السياسات الاقتصادية -المعتمدة سابقًا في موازنة 2022/2023- والقرارات التي كانت ستصدر لاحقًا.

خفض الدعم يلوح في الأفق

السيسي يجتمع بشركات ألمانية
السيسي يجتمع بشركات ألمانية

الإصلاحات الهيكلية التي يشير إليها الصندوق تتمحور وفقا لما قاله الخبير الاقتصادي هاني توفيق حول “خفض الدعم“.

وقال “توفيق” لـ”مصر 360″ عن الإجراءات التي يطلبها الصندوق من مصر: “روشتة إصلاح هيكلي سابقة التجهيز من جانب الصندوق بترشيد الدعم وخفض العجز المالي واستئناف برنامج الخصخصة. وغيرها من الشروط والطلبات التي تهدف إلى سداد ديوننا -فقط- عن طريق السيطرة على الدعم وعجز الموازنة وسعر العملة والتضخم”.

وأضاف: “أرجو ألا نكتفي من قرض الصندوق بما يكفي فقط لسداد مديونيتنا. بل أرجو أن نستغل قرض الصندوق وما يعقبه من تخفيف حدة وضخامة الدين الخارجي في العمل على بدء حزمة استثمارات خارجية من صناديق سيادية ومؤسسات دولية لتمويل المكون الأجنبي في مشروعات صناعية وزراعية. سواء كانت مشروعات جديدة أو في شكل توسع في مشروعات ناجحة قائمة. وطبقا لمعايير وأولويات أهمها: لا اقتراض جديد إلا لمشروعات إنتاجية ذات جدوى اقتصادية مؤكدة”.

من جانبه أوضح الخبير الاقتصادي الدكتور فخري الفقي أن من أهم شروط صندوق النقد للحصول على القرض هو وصول الدعم لمستحقيه. دون إهدار. وهو ما تعمل عليه الدولة المصرية في جميع السلع.

وأضاف في تصريحات سابقة لبرنامج “صالة التحرير” المذاع على قناة “صدى البلد” أن البرنامج الاقتصادي الذي نفذته الدولة المصرية أسهم في مواجهة أزمات عالمية. منها أزمة فيروس كورونا والتي نجحت الدولة في إدارتها. مشيرًا إلى أن الأزمة الروسية-الأوكرانية ألقت بظلالها على الاقتصاد العالمي وهو ما تطلب تنفيذ برنامج وطني لمواجهة تداعياتها.

ولفت “الفقي” إلى أن الحصول على قرض النقد يتطلب شروطا. موضحا أن الدولة المصرية تتفاوض مع صندوق النقد للاتفاق على برنامج إصلاح اقتصادي يصاحبه تمويل منذ مارس/آذار الماضي. خاصة أن كمية الأموال الساخنة التي خرجت من مصر تقدر بـ20 مليار دولار بسبب تداعيات الأزمة الروسية-الأوكرانية.

تخارج الدولة من الاقتصاد ورغيف الخبز

أزمة رغيف العيش
أزمة رغيف العيش

من جانبه كشف هاني جنينة -الخبير الاقتصادي والمحاضر في الجامعة الأمريكية- أبرز طلبات صندوق النقد من مصر للحصول على القرض الجديد. وقال إن صندوق النقد طلب من مصر طلبات “قاسية”. أولها ترشيد الدعم. حيث لا يفضل الصندوق الدعم العيني لأنه “يهدر موارد الدولة”.

وأوضح في تصريحات سابقة له مع برنامج “الحكاية” المذاع عبر “إم بي سي مصر” أن أهم بنود الدعم هي الخبز الذي لم يتحرك سعره منذ الثمانينيات. وكذا سعر السولار. حيث يتم استهلاك سنويا 10 مليارات لتر. وهو رقم ضخم قد يصل إلى 50 مليار جنيه سنويًا. والملف الثاني هو تخارج الدولة تدريجيا من الاقتصاد.

وكان رئيس الحكومة مصطفى مدبولي كشف نية الحكومة تحريك سعر رغيف الخبز. وقال خلال مؤتمر عقد في مقر الحكومة بالعاصمة الإدارية الجديدة في فبراير/شباط الماضي إن “الحكومة تدرس حاليا سيناريوهات عدة محتملة تتعلق بتعديل سعر رغيف الخبز”.

وأضاف أن “آخر تحريك لسعر رغيف الخبز كان قبل 34 عاما. عندما زاد نحو 5 قروش (نحو 0.0032 دولار) في الوقت الذي كانت تكلفة الإنتاج فيه 17 قرشا (0.0108 دولار) عام 1988. مشيرًا إلى “أن التكلفة الفعلية وصلت الآن إلى أكثر من 70 قرشا (0.0423 دولار)”. مؤكدا أن “الدولة ستراعي الفئات الأكثر فقرا. وستدرس تأثير ذلك فيهم مع ضمان عدم تأثرهم”.

تقليل الإنفاق

واصل “جنينة”: أنه لحين إتمام الاتفاق مع صندوق النقد وتغطية هذه الفجوة أو جزء منها فليس هناك سوى وسيلة واحدة لمواجهة هذه التداعيات. وهي تقليل الإنفاق من أجل تحقيق التوازن بين المعروض والإنفاق بالجنيه المصري. وبين المعروض الدولاري حتى لا يحدث ضغط على الدولار.

وأوضح أنه ما دام يحدث ضغط على الدولار سيحدث أحد أمرين: إما أن يزيد الطلب على السلع ولا يوجد دولار لتوفيرها. وبالتالي ستشح في الأسواق مقارنة بالطلب. وإما سيستمر سعر الدولار في الارتفاع مقابل الجنيه. وبالتالي ستتوفر السلع ولكن بأضعاف أضعاف أسعارها. وفي الحالتين سيصل الوضع الاقتصادي إلى الكساد.

وقال إن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لترشيد استهلاك الكهرباء لتوفير النقد الأجنبي تعتبر بداية إجراءات يمكن وصفها بـ”التسخين” فقط. ولكن الإجراءات الأصلية لا بد أن تشمل ما هو أكثر من تقليل الإنفاق.

مطلب مصري بتوسط أوروبا لدى الصندوق

السيسي في ألمانيا
السيسي في ألمانيا

وخلال زيارته إلى ألمانيا في يوليو الماضي طلب الرئيس عبد الفتاح السيسي من أوروبا التوسط لمصر لدى صندوق النقد للحصول على قرض لم تحدد قيمته بعد.

وقال السيسي في مؤتمر صحفي مشترك مع المستشار الألماني: “مانقدرش نعمل زي أوروبا. إن الأسعار تنعكس على المواطن لأن ده لو حصل في مصر هيحصل مشكلة كبيرة جدا. هيعمل تضخم لا يتحمله المواطن. وهنا حالة عدم الاستقرار هتبقى على المحك”.

وتابع: “اللي بنطلبه من أصدقائنا في أوروبا يعاونونا في هذا الوضع لإيصال رسالة إلى مؤسسات التمويل الدولية زي صندوق النقد أو البنك الدولي بأن الواقع الموجود في بلادنا لا يحتمل المعايير المعمول بها خلال هذه المرحلة حتى تنتهي الأزمة”.

وكانت الولايات المتحدة أعلنت في بيان مشترك أنها تساند مصر في مسعاها للحصول على تمويل من صندوق النقد. مشيدة بالمشاورات الجارية حاليًا بين مصر والصندوق.

وفي مؤتمر صحفي قالت بيتيا كوفا بروكس -نائب مدير قسم البحوث الاقتصادية بصندوق النقد- إن مصر طلبت مساعدة من الصندوق. وإن بعثة زارت مصر نهاية يونيو/حزيران الماضي وعقدت لقاءات مع السلطات المصرية والتفاوض لا يزال مستمرًا مع الحكومة.

لكن في مراجعته للاقتصاد المصري قال صندوق النقد إن مصر “بحاجة إلى إجراء تقدم حاسم” في الإصلاحات الهيكلية والمالية.

سيناريو 2016

سياسة رفع الدعم عن الوقود
سياسة رفع الدعم عن الوقود

ويشبه الخبير الاقتصادي فخري الفقي الوضع الراهن في مصر بما حدث في 2016. موضحًا أن الحصول على تمويل من صندوق النقد يتطلب تنفيذ إجراءات استباقية. كما حدث من قبل عند حصول مصر على قرض الصندوق عام 2016. حيث قامت مصر بتحرير سعر الصرف ورفع الدعم عن الوقود وهذا ما يطلبه الصندوق من مصر الآن.

وأضاف لـ”مصر 360″ أن مصر رفعت الدعم عن الوقود. وحررت سعر صرف الجنيه المصري. لكنّ صندوق النقد يطالب بـ”إنهاء قوائم الانتظار على الاعتمادات الدولارية”. وهي المسألة التي تتفاوض مصر بشأنها الآن. بدعوى أن هذه القوائم مبالغ فيها. إضافة إلى أن تلبيتها دفعة واحدة قد تؤثر بشكل كبير على نسب التضخم والأسعار.

وحررت مصر سعر صرف الجنيه نهاية 2016. كما نفّذت تحريراً آخر في مارس/آذار الماضي. لتصل قيمة الدولار اليوم إلى نحو 19.16 جنيه. فيما تشكو طبقات مجتمعية عدة من موجة غلاء جراء تداعيات “كوفيد-19” والأزمة الروسية-الأوكرانية. ورفع أسعار الوقود وتغير سعر صرف الجنيه.

ولفت “الفقي” إلى أنه نظراً لسجل مصر مع الصندوق ومع استمرار المفاوضات والتشاور على المستوى السياسي مع الدول الكبرى ستحصل مصر على التمويل.

ميزان المدفوعات وفجوة موارد النقد الأجنبي

السيسي وبن زايد
السيسي وبن زايد

وصف الخبير الاقتصادي أشرف غراب، تجربة الاعتماد على “الأموال الساخنة” بأنها كانت حلًا مؤقتًا على المدى القصير، عقب خفض سعر الجنيه في 2016. إلا أنه كان لا يجب إعادة استخدامه والبدء في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وزيادة الصادرات وخفض الواردات.

ويرى غراب تزايد لجوء الحكومة إلى حل “الأموال الساخنة” أنه خلق أزمة عندما حدثت تغيرات سياسية واقتصادية عالمية خلال الفترة الماضية. ويضيف -في تصريحاته لـ “مصر 360”- أن الحكومة تسعى بشكل حثيث لإتمام الاتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على القرض الجديد لعلاج العجز في ميزان المدفوعات وسد فجوة موارد النقد الأجنبي.

وقد بدأت الحكومة منذ نحو 6 سنوات التعاون مع صندوق النقد الدولي، وحصلت على قرض بنحو 12 مليار دولار في 2016 ضمن برنامج الإصلاح الاقتصادي ثم في عام 2020، ونتيجة لتداعيات أزمة كورونا، حصلت على قرض بآلية التمويل السريع بقيمة 2.77 مليار دولار. ثم حصلت مصر على قرض آخر ضمن برنامج الاستعداد الائتماني بقيمة 5.2 مليار دولار.

وبخلاف هذه القروض حصلت مصر في أغسطس الماضي على دعم بقيمة 2.8 مليار دولار من مخصصات السحب الخاصة التي وزعها الصندوق على الدول الأعضاء من أجل مواجهة تداعيات كورونا، وتسهم في دعم الاحتياطات الدولية في البنك المركزي، وفق غراب، الذي يشير إلى أن الحكومة بدأت مفاوضاتها مع صندوق النقد منذ مارس الماضي، كي تحصل على قرض قد تتراوح قيمته بين 2 و5 مليارات دولار. ذلك إلى جانب الاتفاق مع الصندوق على برنامج للإصلاح الاقتصادي بعد اندلاع أزمة “روسيا – أوكرانيا”.