في الآونة الحالية تتفاوض مصر مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد تحتاجه الحكومة بشدة لضبط وضعها المالي، وفي السنوات الأخيرة بات الاعتماد المتزايد على القروض ملمحًا رئيسيًا للاقتصاد المصري، حيث ارتفع حجم الدين الخارجي في الفترة من يونيو 2015 حتى يونيو 2022 من 48.1 مليار دولار لما يقارب 158 مليار دولار.

تلجأ الحكومات للاقتراض إما خارجيًا من الدول والجهات المانحة، أو داخليًا عبر أذون وسندات الخزانة وذلك بحثًا عن مصادر للتمويل والإيرادات العامة التي تمكنها من تلبية التزاماتها من أجور ومرتبات وشراء للسلع والخدمات والاستثمارات وغيرها من أوجه الإنفاق الحكومي. وتتزايد حاجة الحكومات للاقتراض والبحث عن المنح التمويلية إما لتدبير العملة الصعبة، أو سد فجوة الميزان التجاري أو عجز الموازنة أو خططها الاستثمارية طالما لا يتحقق ذلك من خلال الإيرادات الضريبية أو المصادر الأخرى من استثمارات الحكومة وأرباح قطاعها العام إن وجد.

وبالنظر لموازنة العام الجاري في مصر 2022/2023 نجد أن الموارد المتوقعة تصل لـ 3 تريليونات و66 مليار جنيه، تتوقع الحكومة تحصيل38.9% منها من خلال الضرائب بواقع 1.1 تريليون جنيه، بينما تنتظر ما يوازي 49.7% من الإيرادات من خلال القروض والمنح وأدوات الدين بواقع 1.5 تريليون جنيه. وبغض النظر عن دقة وثبات هذه الأرقام في ظل العواصف الاقتصادية المحلية والدولية التي نعيشها من ارتفاع مستويات التضخم وزيادة أسعار الطاقة والغذاء وغيرها من نتائج الحرب الروسية الأوكرانية، فإننا نلاحظ اعتمادًا كبيرًا للحكومة على القروض بأنواعها المختلفة يقترب من نصف احتياجاتها التمويلية.

في السنوات الأخيرة تحسنت كثيرًا أرقام الحصيلة الحكومية من الضرائب، نتيجة تعديل قوانين وتشريعات وفرض ضرائب جديدة وتحسين في بعض أدوات التحصيل، وبالرغم من ذلك فبند الاقتراض وفوائد الدين يتزايد بشكل كبير، نتيجة تزايد رغبات الحكومة في الإنفاق الاستثماري.

لكن الاضطرابات الاقتصادية الدولية التي نعيشها، زادت من تكلفة الاقتراض بشكل كبير نتيجة رفع أسعار الفائدة من الفيدرالي الأمريكي والذي تبعه رفع سعر الفائدة في أغلب الاقتصادات باتباع سياسة التشدد النقدي، وهو ما لجأ إليه البنك المركزي المصري طوال الأشهر الماضية، من رفع لأسعار الفائدة على الاقتراض، وتراجع قيمة العملة المحلية أمام الدولار، لتصبح نسبة الـ 54% من مصروفات الموازنة العامة الموجهة لسداد القروض والفوائد مرشحة لزيادة كبيرة نتيجة تلك التغيرات.

قد تضطر الحكومة لترشيد إنفاقها غير الضروري وقد تقرر تخفيف بعض المشاريع القومية، خاصة التي تحتاج للنقد الأجنبي، لكن على الجانب الآخر لماذا لا نسمع في أروقة الحكومة أو البرلمان دراسة جادة لملف السياسات الضريبية الذي يحتاج لمعالجة مختلفة وجريئة تضمن تطور واستدامة وعدالة هذا المورد الأساسي؟

في تاريخ الاقتصاد المصري منذ الحقبة الناصرية وحتى اليوم، فالحكومة أكثر كفاءة في تحصيل الضرائب الأسهل، عملًا بمبدأ سهولة تحميل مجموعة كبيرة من الناس عبئًا بسيطًا في مقابل تحميل عدد أصغر أعباء كبيرة في صورة ضرائب استثنائية.

فمنذ العهد الناصري كانت تعتمد الحكومة على الإيرادات القادمة من شركات القطاع العام، وعلى استقطاعات الرواتب من المنبع لموظفي الدولة، ومع تطبيق سياسات الانفتاح في عهد الرئيس السادات، اتضحت مشكلة جوهرية، تكمن في غياب الكفاءة المطلوبة لدى أجهزة الدولة على جمع الضرائب من القطاع الخاص، بسبب تطلب ضرائب الدخل وأرباح الشركات لقدرات كبيرة من دقة البيانات وضمان عدم التلاعب بأرقام الأرباح ونتائج الأعمال، وقدرة الحكومة على النفوذ للقطاع الخاص، وهي عدة تحديات لم تنجح الحكومات المتعاقبة في معالجتها ما انعكس بوضوح في التراجع الدائم عن توفير حصيلة جيدة من هذه الضرائب المباشرة.

ومنذ الثمانينات بدأت الدولة المصرية نهجها المستقر في الاعتماد على الضرائب غير المباشرة – ضرائب التي لا يدفعها الأفراد والشركات إلى الحكومة بشكل مباشر لكنها تُفرض على إنتاج السلع والخدمات وبيعها، حيث ظهر رسم تنمية الموارد المالية للدولة عام 1984 وقانون ضريبة الدمغة في نفس العام، وقانون ضريبة الاستهلاك والتي تحولت لاحقًا لضريبة المبيعات عام 1991 وفي 2016 تحولت إلى ضريبة القيمة المضافة.

تستطيع الحكومة جمع الضرائب بشكل أفضل من خلال هذه الآلية، حيث يتم تحصيل الضريبة من خلال شراء السلعة الاستهلاكية، ما يؤدي عمليًا لزيادة أسعار السلع التي تطبق عليها تلك الضرائب وتحمل المستهلك النهائي لتلك الضريبة التي يتخلص منها المنتجين من خلال تحميل قيمتها على سعر السلعة النهائية، وبالتالي قد يتعدل السلوك الاستهلاكي للمواطنين بشراء السلع ذات الضرائب الأقل، وهي بالتالي أقل عدالة من الضرائب القائمة على استهداف الأشخاص الأكثر تحقيقًا للدخول والأرباح وتراكم الثروات وتخزينها في شكل عقارات فاخرة وقطع أراضي وغيرها من مخازن الثروة.

اجتهدت الحكومات المتعاقبة في محاولة تحديد بعض السلع الأساسية وإعفائها من الرسوم والضرائب، واستهداف السلع الترفيهية أو “الاستفزازية” بأسعار ضريبية أعلى، ومع تطبيق هذا النهج مع محاولات التحديث الإلكتروني عبر الفواتير الإلكترونية، واستحداث ضريبة القيمة المضافة التي تحتسب على السلع والخدمات وليس السلع فقط كما كانت ضريبة المبيعات، وغيرها من الإصلاحات زادت الإيرادات الضريبية من 364 مليار جنيه في عام 2014 إلى تريليون و 168 مليار جنيه في الموازنة الحالية.

وبرغم هذه الزيادة “الكمية” في حجم الحصيلة الضريبية، فإن خللًا واضحًا يبدو لدينا في توزيع الأعباء الضريبية في المجتمع، حيث تبلغ 46.3% من حجم الإيرادات الضريبية من ضرائب السلع والخدمات والقيمة المضافة، والتي تستهدف الاستهلاك في حد ذاته كما شرحنا. وبالرغم من أن ضريبة الدخل والأرباح تمثل حوالي 36% من حجم الإيرادات الضريبية، إلا أن النسبة الأكبر من هذه الضريبة يتم تحصيله من مرتبات موظفي الدولة أو مرتبات القطاع الخاص “المثبتة بعقود رسمية”، وهم بحسب إحصاءات المركزي للتعبئة والإحصاء 53.8٪ فقط من العاملين بالقطاع الخاص، فضلًا عن إمكانيات التلاعب في حجم المرتبات المذكورة في العقود الرسمية داخل القطاع الخاص.

يساهم في هذا الأمر هو غياب أي صورة مكتملة ودقيقة عن حجم أعمال المهن الحرة غير التجارية داخل المجتمع – أطباء ومحاميين وفنانين ولاعبي الكرة – وأرباحهم الضخمة جدًا، في مقابل تأديتهم لـ 6 مليار جنيه فقط من الضرائب وهي نسبة تقل بعشرات الأضعاف عما يتم تحصيله من موظفي الحكومة !

وبالنظر للعقارات التي تعتبر مخزنًا رئيسيًا للثروات في مصر، فإن حجم الضرائب التي يتم تحصيلها منها لا يتناسب أبدًا مع ما نراه من شراء مجنون للعقارات الفاخرة في ظل ثروة عقارية تتخطى قيمتها 200 تريليون جنيه في بعض التقديرات. وبالتالي فإن التناقض الواضح بين مشاهد التزاحم على شراء فيلل في منتجعات سياحية خاصة بالساحل الشمالي بأسعار تصل لـ 100 مليون جنيه، بينما نجد ضريبة التصرفات العقارية التي يتم تحصيلها من مبيعات العقارات هي في أفضل أحوالها 8.5 مليار جنيه فقط هو أمر يلفت النظر بشدة لمدى عدالة النظام الضريبي، الذي لا تصل فيه الضرائب على العقارات لـ 20% على الأقل من حجم الإيرادات الضريبية في مقابل الضرائب على السلع الاستهلاكية التي تصل لنصف الإيرادات الضريبية.

في الشهر الماضي صرح الخبير الاقتصادي “هاني توفيق” مع الإعلامي عمرو أديب، بأن ضمن أسباب تراجع الاقتصاد المصري هو أن لدينا أكثر من 25 نوع ضريبة! ومرت هذه الجملة مرور الكرام.

ومع احترامي للسيد هاني وآرائه، إلا أن هذه النقطة هي انعكاس للتيار العام من شكاوى رجال الأعمال في مصر من أن القطاع الخاص يعاني بسبب الضرائب، رغم أن القطاع الخاص في مصر يعاني من مشاكل أخرى تتعلق بالبيروقراطية والعقبات التمويلية تؤثر على إنتاجيته ونشاطه بشكل حقيقي، أكثر من الضرائب خاصة مع توقف سقف ضريبة أرباح الشركات عند 22.5%، والتي يفلت البعض منها بسبب اتفاقيات الازدواج الضريبي التي تحمي الشركات متعددة الجنسيات من دفع الضرائب، وسعي بعض الشركات للتهرب بطرق مختلفة.

تعد طبيعة تصميم النظام الضريبي، وطريقة توزيع الأعباء الضريبية في المجتمع هي من صميم مبادئ العدالة الاجتماعية، فالقدرة على الدفع والتي تقاس بمستويات دخل الأفراد تعد أحد ركائز توزيع الأعباء الضريبية، وبالتالي فإن وجود نظام ضريبي أكثر ميلًا للضرائب غير المباشرة، فإن ذلك يعني تحمل الطبقات الفقيرة والطبقة الوسطى التي تكافح من أجل عدم السقوط في الفقر للعبء الضريبي الأكبر، لأن هذا النوع من الضرائب يميل للارتفاع مع انخفاض مستويات الدخل، فالفقير أو الأقل دخلًا ينفق بالفعل معظم دخله على السلع الاستهلاكية وفي مقدمتها الطعام والشراب بنسبة تتخطى الـ 35% من الدخل، مقارنة بأصحاب الدخول المرتفعة الذين لا يتم استهدافهم بضرائب ثروة أو تركة وبالتأكيد لا تتأثر دخولهم بزيادات أسعار السلع بسبب ضريبة القيمة المضافة أو ضريبة الجدول أو رسوم تنمية الموارد، وبالتالي يحافظ النظام الضريبي لهم على قدرة الادخار وتخزين الثروة، ويلعب هنا النظام الضريبي دورًا عكسيًا في إعادة توزيع الموارد والثروات.

إذًا قضية الضرائب ليست بالبساطة التي يتصورها البعض بأن الحل النموذجي هو البدء مباشرة بعمل زيادة في أرقام الضرائب التصاعدية، لأنها لا تتعامل إلا مع المرتبات والدخول المثبتة بعقود موثقة، ويمكن التهرب منها في حالات الدخول العالية عن طريق إنشاء عدة شركات وتحويل الأرباح لها ما يعني التلاعب بالأرقام المستحقة، فضلًا عن صعوبة الوصول لكافة نتائج الأعمال الخاصة بالمهن الحرة وبالقطاع الخاص.

كذلك فإن الكليشية الآخر المرتبط بقضية الضرائب هو التصور بأن الحل السحري لنقص الموارد يتمثل في دمج الاقتصاد غير الرسمي في الاقتصاد الرسمي، وإجراءات الشمول المالي، يحتاج لإعادة تفكير وتأمل، فبرغم أهمية الشمول المالي ووضوح صورة الاقتصاد بشكل كامل، فهل إدخال بيانات  ومعلومات عن أعمال بائعة الخضار على الرصيف وأرباحها سيجلب التمويل الكافي من الضرائب، أم تحسين كفاءة وعدالة النظام الضريبي الذي يدفع فيه أصحاب المهن الحرة فقط 6 مليارات جنيه!

هذا الخلل في النظام الضريبي، ينبغي أن يدفع لفتح نقاش حقيقي وعميق حول جوهر السياسات الضريبية، يتناول العدالة الضريبية وتوزيع الأعباء والثروات بشكل عادل بين أفراد المجتمع، وكفاءة وقدرات أفراد الجهاز الضريبي، وكيفية زيادة الامتثال الضريبي  وطرح ضرائب تخدم عدالة الفرص، وحماية الموارد الطبيعية والقضاء على سلوكيات التهرب والتجنب الضريبي، كلها قضايا هامة تحتاج للدراسة والنقاش الموضوعي، فلا توجد تنمية بدون تعبئة الموارد المحلية لتلبية الاحتياجات، ولا توجد أموال وموارد بدون سياسات ضريبية عادلة وناجحة ومستدامة، تحقق الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية في آن واحد.