الحديث عن التنوير لم ينقطع في مصر والعالم العربي، وهو حديث راج في أوروبا القرون الوسطي حين أسست نهضتها على مفكري عصر التنوير الذين خاضوا حروبا فكرية ودينية ضد هيمنة الكنيسة جنبا إلى جنب مع تنويرين آخرين مهدوا للثورة الفرنسية (جان جاك روسو وآخرون) وخاضوا معارك من أجل الإصلاح الديني والسياسي وفتح الطريق أمام بناء دولة القانون والديمقراطية.

وعلى خلاف العالمين العربي والإسلامي في الوقت الحالي، فإن الغرب عرف حكما دينيا سيطر على القلوب والعقول، فكانت انتفاضه المصلحين الدينيين ضد سلطة تحكم أو على الأقل تهيمن على السلطة الزمنية الملكية، ولم تعرف أوروبا إصلاحا دينيا بمعزل عن الإصلاح السياسي والاجتماعي.

اقرأ أيضا.. حريق أبوسيفين| كيف كانت ردود الأفعال؟

والمؤكد أن في العالم العربي لا توجد سلطة دينية تحكم إنما توجد سلطة سياسية توظف في كثير من الأحيان السلطة الدينية والخطاب الديني لإضفاء الشرعية على حكمها، بما يعني أن قصر قضية التنوير على مواجهة الخطاب الديني الذي لا يحكم حتى لو كان مؤثرا والابتعاد عن الخطاب السياسي الذي يحكم والإعلامي والثقافي والتعليمي الذي يؤثر يحول قضية التنوير إلى مجرد ثرثرة لا تؤثر في المجتمع بل وتتعالى على احتياجاته، وأولوياته. وقد يبدو موقف بعض “التنويرين” في مصر غريبا ومريبا من قضية الحداثة والإصلاح الديني فمصر لم تعرف حكما دينيا ولم يقل حاكم واحد في تاريخها المعاصر إن شرعيته من عند الله أو إنه يحكم باسم الرب.

إن كل حكامنا في العصر الجمهوري حكموا وهم يعتبرون أنفسهم إما قاده شعبيين، وإما رؤساء مخلصين، ولم يقل واحد “منهم” إنه يحكم باسم الدين أو إن سلطته إلاهية كما جري في أوروبا في العصور الوسطي، حتى لو وظف الدين بصور وبدرجات مختلفة من أجل إضفاء الشرعية على حكمه.

والحقيقة لا يمكن القول إن المسئول عن تردي الخطاب الإعلامي والثقافي أو التعليمي أو ضعف الخطاب السياسي هو المؤسسات الدينية والأزهر، فمدهش أن مصر لا تعرف حكما دينيا ومع ذلك يتم اختزال قضية الإصلاح في الخطاب الديني وتجاهل السلطة السياسية التي تحكم وتمتلك كل أدوات السلطة والتأثير، ومطالبة قبل غيرها بإجراء إصلاح سياسي، وثقافي، شامل.

والحقيقة أن ما جرى في الغرب كان هو إصلاح للسلطة السياسية التي ساهمت وربما فرضت الإصلاح على السلطة الدينية، التي لم تنسحب من المجال السياسي ولم تفقد هيمنتها على السلطة الزمنية القائمة، إلا بعد أن قاد التنويريون الحقيقيون نضالا فكريا من أجل إجراء إصلاحات سياسية وبناء دولة قانون مدنية عادلة أنهت هيمنة السلطة الدينية والكنيسة.

ولذا يبدو غريبا آن يتصور بعض “التنويريين” في مصر أن الإصلاح الديني يبدأ وينتهي عند المؤسسات الدينية، وأن قضية تجديد الخطاب الديني تختزل في أن يطرح الأزهر أفكارا مستنيرة ويجدد خطابه الديني ويطور مناهجه، حتى لو بقت السلطة الزمنية ومؤسساتها وخطابها على حالها دون إصلاح أو تجديد.

والمؤكد أن الأزهر أجرى جانبا من هذه الإصلاحات المطلوبة، ومع ذلك لازالت هناك أزمة في توعية الناس وفي وجود تفسيرات دينية متشددة، حتى بدا المجتمع في كثير من القضايا أكثر تشددا وانغلاقا من الأزهر الشريف، واتضح ذلك في قضايا المواطنة التي اتخذ فيها شيخ الأزهر موقفا متقدما ومع ذلك ظلت الطائفية حاضرة، وقضية التحرش التي جرمها الأزهر بصرف النظر عن زي المرأة، في حين لا زال قطاع من المجتمع يرجع التحرش إلى زيها، ويرى أن عدم حجابها يعني ضمنا أو صراحة تبرير التحرش، وهو ما يشير إلي إننا أمام قضية تتعلق بتوعية المجتمع، والتي تتحملها أساسا أدوات السلطة الزمنية أكثر من المؤسسة الدينية التي قامت بواجبها في هذه المسألة.

ومن هنا لا يمكن الحديث عن تنوير حقيقي يقصر الإصلاح على مؤسسة لا تحكم، حتى لو دينية ويتجاهل المؤسسات التي تحكم، حتى لو زمنية.

والحقيقة فإن هذا الخلط في الأولويات وتعمد الانسحاب من مناقشة الأوليات الصحيحة أوصل البعض لاعتبار قراءة شيخ الأزهر لكتاب “أفول الغرب” سببا للمزايدة والتهكم، وكأن المطلوب فقط التغني بسطحية بإنجازات الغرب علي طريقتنا في ترديد الأناشيد الوطنية، أو وصفه “بالكافر” والمنحل، وتغييب النظرة النقدية والعلمية له وهو مضمون هذا الكتاب الذي يحمل رؤية علمية نقدية لجوانب سلبية في الحضارة والمنظومة السياسية الغربية يقولها مثقفون تنويريون حقيقيون يعيشون في الغرب وخارجه، وتقبل آرائهم لأنها جزء من حيوية مجتمعاتهم التي تعرف النقد الذاتي، وهو ما يفترض أن يسعد أي تنويري حقيقي.

التنوير الحقيقي هو الذي يمتلك نظرة نقدية شاملة للسلطة والمجتمع، وإذا كان غير قادر أن ينتقد من في يده السلطة فعليه على الأقل ألا يمعن ويبالغ في نقد من لا يمتلكها، خاصة أن قضية تجديد الخطاب الديني أساسا في يد مؤسسات الدولة بتطويرها المجتمع بالٌإصلاح السياسي، والثقافي، والتعليمي، القادر على بناء مجتمع يتقبل فكرة الإصلاح الديني.

التنوير الحقيقي ليس انتقائيا، فيجب أن تعتبر كل السلوكيات الهابطة والتدليس والظلامية والتجهيل ضد التنوير والتقدم، بصرف النظر عن منبع هذه السلوكيات، ديني أم غير ديني، فيجب إدانة ورفض كل طيور الظلام مهما كانوا، سواء كانوا يصفون أنفسهم بدعاة ورجال دين، أو إعلاميين أو سياسيين أو أهل فن.