لا يمكن فهم إقالة أو استقالة طارق عامر بدون رسالته إلى «الأهرام» التي -كما شرحنا في المقال السابق- كانت بمثابة انقلابا كاملا -ولو لفظيا- من الرجل علي سياسة الانفتاح الاقتصادي الكلية المطبقة منذ 1974 عموما وعلى طبعتها النيوليبرالية المتوحشة التي قننت الفساد وشرعت له وحصنته وزواجت بين الثروة والسلطة في السنوات العشر الأخيرة لعهد مبارك خصوصا.

هذه السنوات كما يعرفها الجميع كانت سنوات التحضير لمشروع التوريث الذي أسقطته ثورة 25 يناير 2011 أو هكذا بدا للمصريين جميعا عندما تم خلع مبارك في 11 فبراير.

الاستنتاج هنا هو أن مشروع التوريث سقط منه فقط عنوانه، أي التوريث الشخصي من مبارك لابنه جمال، لكن مضمونه أي سياساته الكلية ومفكريه ومنفذيه أي ما كان يعرف بمجموعة «الحرس الجديد» أو «مجموعة جمال» مستمرة ومهيمنة على مشهد الاقتصاد السياسي واختياراته دون تغيير.

هل هذا استنتاج قديم؟.. الحقيقة لا، لكنه تلقي في وقائع وصور أزمة خروج عامر -التي اتصفت بروح تشفي كيدية- أدلة اضافية ودامغة.

فقد كتبت في هذا الموقع أكثر من عشر مرات على الأقل أن أحد مصادر تكرار وصول الأزمة الاقتصادية في بلدنا إلى حافة الهاوية هو أن لا يوجد هناك صوت وحيد مسموع في الاقتصاد السياسي والانحيازات الاجتماعية في دوائر صنع القرار أو في الإعلام المصري إلا صوت المدرسة الليبرالية المتوحشة التي لا تمانع في رفع الدعم عن الخبز والسولار، بل تطالب جهارا نهارا بتنفيذه في أسرع وقت دون أن تأخذهم شفقة أو رحمة بشعب يقع أكثر من نصفه أي فوق الخمسين مليون من البشر بين الفقر وتحت خط الفقر.

ويثبت خروج عامر من المشهد دليلا دامغا علي ما أشرت إليه فعندما كان عامر منفذا جيدا للسياسات الكلية التي باتت مقننة وجزءا من البنيان التنظيمي والتشريعي لهيكل الدولة في مصر -منذ عهد لجنة السياسات 2002/ 2010- هو واحدًا من أعظم محافظي البنك المركزي الذين مروا علي مصر، ولكنه يتحول إلى محافظ فاشل ومعاد للمستثمرين في طرفة عين، عندما يقيد الاستيراد ليقلل الاستنزاف المخيف في الاحتياطي الدولاري ويضيق على شريحة الـ10 % جزءا بسيطا من أرباحهم من وارداتهم الترفيه.

أو عندما يرفع سعر الفائدة ليحمي الحد الأدني من تآكل مدخرات القطاع العائلي بسبب التضخم الخارج عن السيطرة، وبالتالي يرفع كلفة اقتراض الأغنياء من البنوك.

حتى لا يتم شخصنة الموضوع أشير هنا إلى مجموعة نقاط أساسية:

  • القائم بأعمال المحافظ خلفا لعامر وهو حسن عبد الله -وليس هناك خلاف على أنه خبير مصرفي قدير بالمعايير الفنية- ليس مجرد خلف لسلف، فهو رئيس اللجنة الاقتصادية للحزب الوطني الحاكم وعضو لجنة السياسات في العصر الذهبي لجمال مبارك، والتي كانت مسئولة مسئولية تامة عن كل مشروعات القوانين والإجراءات والقرارات الاقتصادية والتعيينات القيادية التي هيمنت على البنوك (تخصص جمال مبارك المهني الأساسي) والمؤسسات الاقتصادية والمالية العامة والتي كانت حكومة نظيف تقوم بتنفيذها حرفيا باعتبارها «حكومة الحزب» حسب التعبير المفضل أيامها  لجمال مبارك.
  • حسن عبد الله هو خصم لدود لطارق عامر منذ أن أبعده الأخير عن رئاسة البنك العربي الأفريقي الدولي وتبادل الطرفان علنا بعدها اتهامات خطيرة بالفساد والتربح من المال العام لم يحقق فيها جهاز قضائي أو رقابي واحد حتى الآن بشكل شفاف، وظلت هذه الاتهامات معلقة فوق رأسيهما، وحقيقتها مازالت حتى اليوم غائبة.
  • قديمة فيما يبدو الخلافات أو الثآرات بين طارق عامر مع جمال وفريقه الاقتصادي في لجنة السياسات أو في لجنة الحزب التي كان يرأسها حسن عبد الله ومنهم رجال أعمال متنفذين مثل هشام طلعت مصطفي لخصها طارق عامر بعد ثورة يناير في حوار تلفزيوني «جمال مبارك طلب مني أن أقابل أحد العملاء لإعادة جدولة ديونه ولكنني رفضت ذلك كما رفضت تقديم تمويل 4.5 مليار جنيه لهشام طلعت مصطفى وقام البنك المركزي بوضع ضوابط خاصة بتمويل المطورين العقاريين للحفاظ على أموال البنوك وأموال الحاجزين، ولكن ذلك لاقى هجوما شديدا، وتقدم طلعت مصطفى بشكوى لمبارك وقتها بأن البنك المركزي يسعى لتدمير الاقتصاد القومي».
  • لم تكن صدفة تلك اللقطة الثلاثية لبسمة انتصار لاحظها البعض -ومنهم الزميل الكاتب أنور الهواري- التي أعقبت مباشرة إقالة عامر وتعيين عبد الله في صورة اللقاء الثلاثي الذي جمع بين رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي وحسن عبد الله والدكتور محمود محيي الدين وزير الاستثمار الأسبق وأحد أهم أعضاء فريق جمال مبارك الاقتصادي وأحد نجوم مرحلة الخصخصة في عهد نظيف، والتي صدرت أحكام قانونية نهائية ببطلانها. وهذه الصفقات على وجه الخصوص كانت محورا رئيسيا لرسالة النقدالعنيفة  للسياسات النيو ليبرالية قبل 2011 في فترة هيمنة الوريث ولجنة سياساته التي  وصفت وقتها بـ«حكومة الظل» أو «الحكومة الخفية» على الشأن العام المصري، والتي وجهها طارق عامر عبر صديقه الكاتب الكبير فاروق جويدة مطلع الشهر الجاري.

اقرأ أيضًا: لماذا “استقيل” طارق عامر؟ رجل التعويم والمخاطر يغادر “المركزي”

  • لقطة أخرى لاحظها هذه المرة الخبير الاقتصادي أحمد النجار في تعليقه علي رسالة عامر عندما قال «وتصورت أن حديث عامر عن الأوليجاركية وعن الاستحواذ على الشركات العامة من خلال قروض مصرفية يتم سدادها من أرباح تلك الشركات أي بدون دفع أي ثمن حقيقي لتلك الشركات، سوف يعني رفض تلك السياسات والخروج من دائرتها الجهنمية. كما تصورت أن الحديث عن نقد الدعوة التي كان د. محمود محيي الدين قد أطلقها عندما كان وزيرا للاستثمار في عهد مبارك ببيع كل الأصول العامة وتوزيعها على المواطنين (مشروع الصكوك) لتلتهمها العصبة أو القلة المالكة والحاكمة (الأوليجاركية) بعد ذلك كما حدث في الاتحاد السوفيتي يعني ان الرجل يتبرا من كارثة الخصخصة».
  • وكأن أحمد النجار يتنبأ بالمستقبل فما هي إلا ساعات قليلة من كلامه إلا وكان أحد المحللين يطالب في برنامج تليفزيوني ببيع قناة السويس في أسهم -صكوك- للمواطنين في إحياء مدهش فائق السرعة لأفكار د. محمود محيي الدين القديمة وبعد ساعات أيضا من تعيين عبد الله محافظا للبنك المركزي ولقطة صورته معه ومع رئيس الوزراء.
  • لابد من الاعتراف بأن تنكر السياسات الحكومية لما قرره دستور 2014 في العدالة الاجتماعية والضرائب التصاعدية وإهمال ما نص عليه بالتركيز على الصناعة والزراعة واستمرارها في سياسات جمال مبارك كانت نتيجتها المنطقية هي عودة الاستعانة برجاله الذين قاموا أصلا ببلورة هذه السياسات.
  • هنا ينبهنا الاستاذ ضياء رشوان نقيب الصحفيين و المنسق العام للحوار الوطني حاليا إلى جذر تغلغل رجال جمال في هيكل الجهاز العصبي للاقتصاد المصري في تحقيق صحفي تم عام 2007 بصفته وقتها كباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية، مشيرًا إلى أن نفوذهم في لجنة السياسات واللجنة الاقتصادية للحزب الوطني كان بشكل أساسي في الشأن الاقتصادي، فيقول فيما يتعلق بـ«الملف الاقتصادي أو السياسة الاقتصادية، فالحقيقة أنهم مطلقو السراح في هذا الملف، بل هو المجال النوعي الرئيسي لهم، ولذلك، تجد رجال جمال أو الحرس الجديد في الحزب الوطني الديمقراطي،(…) وخلال العام الذي مضى من عمر حكومة نظيف، قاموا بتدعيم فكرة الخصخصة، وتعويم الجنيه».
  • إذا قمت فقط باستبدال اسم الحكومة في الاقتباس السابق واستبدلت نظيف بمدبولي ستجد أن هذا بالضبط «تعويم الجنيه والخصخصة» هما العمودان الأساسيان للخطة التي أطلقها د.مدبولي في المؤتمر الصحفي العالمي في مايو الماضي لمواجهة الازمة الاقتصادية الطاحنة، وكما تقول الأمثال الشعبية التي تبدو أصدق وصف لكثير من أحوالنا الراهنة «أحمد أخو الحاج أحمد».
  • هناك توافق عام على أن ضغوط لوبي أغنى 10% أو الأوليجاركية المصرية كان جزءًا رئيسيًا من أسباب معاقبة عامر على قراره تقييد الاستيراد ورفع سعر الفائدة الشهور الماضية وأيضًا على رسالته التي علقت الجرس في رقبتهم واتهمتهم صراحة بأنهم مسئولون عن تدمير التوازن الاقتصادي والتوازن النقدي للبلاد.
  • ويشير تحقيق لـCNN بالعربية عن أن ضيق مجتمع الأعمال بعامر مؤخرا كان أحد أسباب رحيله ويتحدث خبير مالي آخر عن أن مهمة حسن عبد الله هي تشجيع المستوردين والمصدرين في القطاع الخاص، ويذكر بعضويته السابقة المتعددة في مجالس إدارات شركات القطاع الخاص الكبرى مثل أوراسكوم وغبور إلخ، كأدلة على أنه من أقرب المصرفيين للقطاع الخاص.
  • هل كان عامر مختلفا في هذه التوجهات عن سلفه أو عن خلفه؟ الجواب هو لا ولكن ذلك مجرد مؤشر صارخ على سطوة لوبي الاوليجاركية الراسمالية بحيث لا يتحمل أي إبطاء وتيرة نزحه للثروة وحصد الأرباح حتى ولوكان ذلك لفترة مؤقتة حتى تعبر البلد من أزمتها.
  • وتكفل رئيس الوزراء بإنهاء أي مجال للشك في أن هذا هو جوهر التعديل في منصب المحافظ إذ أبلغ المحافظ الجديد للبنك المركزي -حسب البيان الرسمي- أن المهمة الرئيسية له هي «تحفيز القطاع الخاص».

وإذا كان الأستاذ هيكل قد قال مرة «إنه لا يمكن أن تستعيد سلطة وشعبية عبد الناصر بسياسات إسماعيل صدقي»، فإنه بالقياس لا يمكن لأحد أن يقول وهو مطمئن تمامًا إن مشروع التوريث انتهي طالما أن الحكومة الحالية تسير علي سياساته وتستعين برجاله.

هل يفسر هذا التناقض بين «اختفاء الوريث وحضور مشروعه ورجال لجنته».. لماذا لم تقطع حتى الآن اللجان الإلكترونية المباركية وقيادات مالية واقتصادية -تدين بالفضل لفترة 2002/ 2010- الأمل تماما في أن جمال قد يعود يوما إلى مسرح السياسة المصري مرة أخرى؟


حسين عبد الغني كاتب وإعلامي مصري