لا تحظى دراسات الباحثين العرب للأدب الإسرائيلي بالاهتمام نفسه الذي تحظى به الدراسات السياسية والاقتصادية التي تتناول الشأن الإسرائيلي؛ فالدوائر التي تتابع تفاصيل المشهد الأدبي وترصد تحولاته دوائر أكاديمية ضيقة، وهذا أمر يحتاج إلى مراجعة؛ فالأدب نمط من التفكير العميق الذي ينبغي متابعته بدقة، نظرا لقدرته على تشييد الجماعة الإسرائيلية “المتخيلة” سيما وأن هذه الثقافة كثيرا ما اعتبرته أحد جنود المعركة، وأداة أصيلة في تشكيل ما تصفه بـ”الهوية الإسرائيلية” في الأرض العربية.
ومن هذه الزواية تأتي هذه المراجعة لكتاب الدكتوره ناهد راحيل “تفكيك النص.. قراءة ثقافية في الخطاب الشعري الإسرائيلي” (صدر هذا العام 2022م عن دار خطوط ظلال بالأردن) وهو عمل جاد، ومنضبط منهجيا، كما أنه تتويج لسلسلة من المقالات والدراسات التي قامت بها الناقدة منذ التحاقها بقسم اللغة العبرية بكلية الألسن جامعة عين شمس.
وهذا يعني أننا إزاء كتاب يمثل إضافة إلى موضوعه “الأدب الإسرائيلي”؛ إذ يرصد تحولاته الفنية وعلاقتها بالأنساق الاجتماعية والإيديولوجية، كما أنه إضافة نقدية مهمة لحقل النقد الأدبي بشكل عام.
اقرأ أيضا.. عالم السناتر Centers
ينشغل الكتاب بمتابعة تحولات القضايا الفكرية والتقنيات الجمالية للأدب العبري في المرحلة “ما بعد الصهيونية”، التي تُحدد– تاريخيا- بالنكبة الفلسطينية، والعقود التي أعقبت نشأة الدولة عام 1948م.
والدارسون يقسمون الأدب الإسرائيلي إلى مرحلتين: المرحلة الصهيونية، بكل حمولتها من الإيديولوجيا الغربية التوسعية، وتبدأ مع نهايات القرن التاسع عشر وحتى قيام (الدولة)، ثم مرحلة “ما بعد الصهيونية” التي تتبنى أفكارا أكثر انفتاحا حول الديمقراطية التعددية والتنوع والاختلاف، وحقوق الفئات المُهمَّشمة أو المقموعة..إلخ
في المرحلة الصهيونية، بدا النقد الأدبي– مثله في ذلك مثل النصوص الإبداعية- أداة فاعلة في الترويج والتسويق للهجرة إلى فلسطين، فكانت المناهج الاجتماعية والتاريخية والواقعية أقرب إلى المزاج الصهيوني؛ لقدرتها على شَدّ الأدب إلى الواقع وربطه به، سواء أكان الواقع الماديّ أم الواقع المُتخيّل، كما روَّجت الواقعية والماركسية تحديدا لمقولة الالتزام في الأدب، بمعنى التزام الأديب بقضايا مجتمعه العامة؛ فهو يدافع عنها ويُبشِّر بها. والأدب– بهذا المعنى- رسالة اجتماعية، وهذا ما وسم الأدب “العبري في المرحلة الفلسطينية وحتى إقامة الدولة عام 1948”. (ص9)
وهذا الوعي بضرورة توظيف الأدب بوصفه أداة أو وسيلة كان وراء رفض المزاج النقدي العبريّ للمنهجية البنيوية التي تتجاهل الأبعاد الاجتماعيّة والتاريخيّة، وهو ما يعني النظر إلى الأدب بوصفه بنية جمالية مغلقة لا تشير إلى خارجها، وبالتأكيد لم يكن لدعوة مثل هذه أن تجد استجابة من أدب كان يرى أن وظيفته هي “تشكيل ذاكرة جمعية للجماعات اليهودية في فلسطين”. (ص9)
ما بعد الصهيونية
لقد استنفدت الصهيونية نموذجها، وبدت الحاجة ملحّة إلى تجاوزها كأيديولوجيا وممارسة داخل المجتمع الإسرائيلي على مستويات السياسة والاقتصاد والاجتماع، وهذا ما وجد تجليه الواضح في مجموعة الشعراء الذين ينتسبون إلى شعرية “ما بعد الصهيونية”، وهي تختلف في الطَّرْح والغايات والتقنيات عن الخطاب الذي صاحب قيام الدولة، فـ”ما بعد الصهيونية” تنظر إلى الصهيونية باعتبارها مرحلة انتهت مع قيام الدولة، وأن خطابها قد أدى دوره، ولذا فإن خطاب “المابعد” يجب أن يأخذ دوره في تصحيح الأخطاء، وجعل الحياة أكثر مساواة وديمقراطية داخل المجتمع الإسرائيلي الذي تتعدد فيه الأجناس والأعراق.
سنتناول في هذا المقال شاعرين ينتميان إلى هذا التيار المابعد، وهما: دافيد أفيدان، و”ليونا فولاخ”
دافيد أفيدان
تقدم لنا الناقدة ناهد راحيل سمات الخطاب الشعري “ما بعد الصهيوني” من خلال وقوفها في الفصل الأول إزاء تجربة دافيد أفيدان (1934- 1995)، وهي تجربة تتسم بالتحولات الواسعة، فقد كتب الشاعر قصائده مع بدايات قيام الدولة، ملتحمًا بالفكرة الجماعية الكلية التي هيمنت على الشعراء في تلك الفترة، ولكنه – وهو هنا يمثل جيلا كاملا – سريعا ما يغادر الفكرة الجماعية إلى الفردية الذاتية التي تصل أحيانا إلى العدمية، فيقول – مثلا – في ديوانه “مشاكل شخصية”:
“من أين جئنا ولأين نمضي دون انقطاع؟ / هل لهذه الدرجة واثقون أننا توقفنا عن الحب؟/ ولماذا خانتنا النهاية الجيدة لهذه الدرجة؟ / نحمل أجسادنا الصغيرة بسهولة./ لم نصل من عالم تافه إلى عالم العبث”. (ص36)
ورغم وضوح الروح العدمية في النص، إلا أنه يصعب أن نوافق الناقدة على أن ذلك يعود إلى أزمة “النموذج” الصهيوني بحد ذاته؛ فالعبثية والعدمية نزوع إنساني، وهي جزء من شعور الإنسان المعاصر بشكل عام، وهذا ما يؤكده بدرجة أو أخرى قصائد ديوانه “طبيبي النفسي الإلكتروني”، الذي يضم ثماني محادثات بين الذات الشاعرة وجهاز الحاسب الآلي، يتناول فيه موضوعات عامة، قد يتناولها أي شاعر معاصر، كالوحدة والجنس والزمن والزواج.
وتتوقف الناقدة إزاء العتبات الخارجية والداخلية، ومنها هذا الإهداء الذي يتصدر قصيدته “توكيل”:
“لكل من يهمه الأمر؛ إن المبرر الأكبر لهذه العزلة، ولذا اليأس الكبير، ولهذا التحمل الغريب لعبء العزلة الكبيرة واليأس الكبير، هي الحقيقة البسيطة والقاطعة، بأنه ليس لنا جهة حقيقية نسير إليها”.
وهو إهداء يمكن بالتأكيد تفسيره- كما تقول الناقدة- بعجز الشاعر “عن الانفصال عن المصير الجماعي للدولة، فتوجه بالخطاب إلى مجموع آخر “قد يهمه الأمر” علّه يجد خلاصًا جماعيًا مغايرًا من أزمة الوجود الصهيوني” (ص46)
وهذا تأويل قد لا نختلف معه، ولكن حصره في زاوية التمرد على الصهيونية قد لا يكون كافيا؛ إذ يمكن رؤيته أيضا بوصفه نزوعا إنسانيا، ويمكننا العثور بسهولة على مثل هذه النماذج في الشعر العربي بالتأكيد، فسيطرة الآلة على أنماط التواصل مما لا يختص به مجتمع دون غيره.
ورغم ذلك، فالمؤكد أننا إزاء تحول أساس في الشعرية الإسرائيلية، ولا يمكن فهم هذه الفردية أو تلك الحالة العدمية بعيدا سياقها الداخلي ضمن المجتمع الإسرائيلي الذي يحشد كل شيء من أجل الدولة أو استمرارها في الأرض المحتلة.
الشاعرة “ليونا فولاخ” (1944- 1985)
وهذه الشاعرة هي موضوع الفصل الثاني الذي جاء بعنوان “كتابة الذات بين التشكيل والتلقي” وفيه تقدم لنا الناقدة مقاربة لديوانها “هذه هي الحمامة” بوصفه سيرة ذاتية للشاعرة، وهي تجربة فريدة، وما جعل الناقدة راحيل تتناوله من هذا المدخل هو التداخل الواسع بين سطوره وحياة الشاعرة، بالإضافة إلى دال الحمامة نفسه، “الذي يحيل إلى نموذج خارجيّ كثيرًا ما كانت تشبه الشاعرة نفسها في قصائدها به، ليكون العنوان المعادل للمجموعة “هذه هي يونا” الأمر الذي يُعزز انتماء الخطاب الشعري لصاحبته”. (ص75)
وبعيدا عن الإشكالات التي قد تثيرها مثل هذه التجربة، نظرا لطبيعة الشعر الذاتية، ومع التسليم بإمكانية تأويل بعض القصائد من حيث كونها سيرة ذاتية سيما في سياق التحولات النوعية وإمكانية التداخل بين الأجناس، ومع إمكانية توظيف الشعر نفسه لكثير من تقنيات الفنون الأخرى ومنها السرد بطبيعة الحال، فإن هذا لا يكفي- وحده- لإقامة سيرة ذاتية للشاعر من خلال نصوصه، أو لا يكفي لكي نغدو إزاء سيرة شعرية ذاتية.
والناقدة راحيل تدرك بالتأكيد هذا الإشكال، ولذلك نجدها تجتهد في تشييد مقدمات نظرية تُبرر هذا الموقف التأويلي من شعر “ليونا فولاخ”؛ فتحدثت عما يصفه النقد الحديث بـ”التداخل بين الأنواع”، وحاولت الوقوف على الفروق الجوهرية بين السرد في الشعر والسرد في الحكاية، والخلاصات الجمالية التي يمكن الحصول عليها جراء هذا المزج بين الشعر والسرد.
ثم أضافت إلى ذلك كله ما هو متداول بين نقاد هذا الأدب من ميل الشاعرة إلى البوح، ونزوعها في مجمل شعرها إلى الاعتراف الذاتي، وتضفير ما هو معروف من حياتها بجسد النص، فهناك “علاقة بين الذاكرة والتخييل، على اعتبار أن مادة القصيدة الخام هي الحياة الخاصة التي عاشها الشاعر والتي سيقوم بسردها في النص”.(ص 78) ولا يتم ذلك بطبيعة الحال دون الائتناس بالإشارات المرجعية خارج النص، وبالسيرة الغيرية للشاعرة، باعتبارها “النص الملحق” الذي وردت به هذه الأحداث أو “المواد الخام” للتجارب الشعرية.
فعلى سبيل المثال، تشير قصيدة “إذا ذهبت في رحلة إل إس دي” إلى تجربة المرض النفسي والرحلة التي خاضتها الشاعرة بعد خضوعها للعلاج ورغبتها في الجنون وعدم الشفاء.. فالقصيدة تشير إلى حدث محدد؛ ففي “عام 1965 طلبت طلبت يونا من طبيبها النفسي أقراص (إل إس دي)، وجلست في الحجرة أمام النافذة، وروت أنها لم تشعر بشيء في البداية، إلا أنها جلست تتأمل النافذة، وقررت أن تكتب، فدخلت الحمام لتغسل يدها، وما إن فتحت الصنبور إلا وتدفقت الدماء على المنشفة والحوض فانتابتها حالة من الفزع”، وهذه الحكاية وجدت تجليها في هذا النص، حيث تقول:
“إذا ذهبتَ لرحلة إل إس دي/ فلتذكرني/ لأني لم أعد من هناك إلى الآن/ ما زلتُ هناك/ أمام النافذة/ المقصلة الحمراء تظهر من خلالها/ رأسي في طريقه للقطع/ ما زلت هناك/ في انتظار اللحظة القادمة/ فزع العالم كله/ يهبط عليّ كسكين/ ما زالت خيوط الدماء/ متشابكة على المناشف/ وفوق الحوض/ فلتعلم؛ لا توجد سلطة على الدماء”. (ص100)
والحقيقة أننا إزاء تجربة شديدة الخصوصية للشاعرة، من حيث مرضها النفسي من ناحية، وموت والدها المبكر في حرب 1948 ثم تخلصها من جنينها بإجهاض نفسها 1963م .. وهي– شأن الشعراء دائمًا- تعمل على استعادة هذه الذكريات شعرًا، فتمنح الابن ميلادًا شعريًا أو ميلادًا رمزيا بديلا عن ميلاده البيولوجي، إذ تقول:
“مضطرة ثانية أن أتذكر/ ابني أبشالوم/ الذي تعلق شعره برحمي/ ولم أستطع/ أن أكمل ابني أبشالوم”
في النص، فيما تقول راحيل- محاولة لاستعادة “موت أبشالوم في العهد القديم، الذي تعلق شَعْره على الشجرة، وتلك المقابلة بين الرحم والشجرة تلغي العلاقة بين الخصوبة والإنبات، حيث يظل الابن داخل رحم الأم، ويكون جزءًا منها، يتشكل داخلها وليس خارجها. وكما كان أبشالوم متمردًا على سلطة الأب تمرد أبشالوم في النص الشعري على الوجود في الواقع في شكله المطلق”. (ص102)
وبالمثل يمكننا النظر إلى تجربة فقد الأب، بل يمكننا اعتبار هذا الحدث وتلك القصيدة تعبيرًا عن الرؤية “ما بعد الصهيونية”، بأكثر مما يدل غيرها، تقول:
“أبي، الآن فهمت كيف /تتطاير الآن كالدخان وكم من/أناس أحببتها حتى النخاع/ يتطايرون الآن”. (ص94)
فـ”الآن” هي لحظة وعي وانتباه تغاير ما كان قبلها، الآن لحظة ممتدة وواعية بالموقف الإنساني الذي يجعل الأحبة يرحلون تباعًا كالدخان، وكأنه لا أثر لهم… الآن تكتشف أن كل وعود البقاء والأمان لا وجود لها..!
ويمكننا أيضًا أن نتوقع شعورًا طاغيًا بالوحدة والفراغ، وذلك على نحو ما نجد في هذه القصيدة التي تأخذ منحى اعترافيا واضحًا، ونشير فيها إلى ذاتها بضمير المذكر، تقول:
“أنا وحيد/ صرخت في كل روح سماوية/ أنا وحيد/ صرخت في كل النجوم/ سادة ونساء/ سادتي وسيداتي/ قوموا بزيارتي/ أنا وحيد/ حتى عنان السماء/ اجلسوا بجواري/ تحدثوا إليّ/ احكوا عن أنفسكم/ فلتأتوا/ أنا وحيد”. (ص124)
ولنا بالتأكيد أن نعد هذا الشعور نزوعًا إنسانيًا طبيعيًا، ولكنه بالنسبة لأدب (مجند) يعد نقلة أساسية من الصهيوينة إلى ما بعدها، من التفكير في الجماعة إلى التفكير في الذات الفردية المأزومة… في المقال التالي سوف نتناول ظاهرة الجماعات المهمشة في المجتمع الإسرائيلي كالمثليين واليهود الشرقيين أصحاب الثقافة المختلفة عن المتن الإشكنازي الغربي.