الرجل الذي عاش بيننا 94 سنة (11 ديسمبر 1911 – 30 أغسطس 2006) ما يزال ميراثه الفكري والأدبي يبقيه حيًا على مر السنين وتعاقب الأجيال، وقد يصعب على أي متابع أن يصدق أن ستة عشر سنة قد مرت على رحيل نجيب محفوظ فحضور الأديب الكبير لم ينقطع، والكتابة عنه لم تتوقف، والإقبال يشتد على كل ما أنتجه، والحاجة للرجوع إليه لم تتراجع، كأنه لم يغب يومًا طوال هذه السنين.

16عامًا من الحضور رغم الغياب، وهل يمكن أن تغيب شمس روائي عظيم مثل نجيب محفوظ عن أن تشرق كل صباح بكل هذا الألق، وكل هذا الحضور المتألق بإنتاجه وأعماله وفلسفته وما خلفه وراءه من تراثٍ يبقى أبد الدهر حاملا مشاعل النور والتنوير والوعي والانحياز إلى القيم النبيلة.

**

انقسمت حياة نجيب محفوظ العملية بين صفتي الموظف والمؤلف، وحكمت هذه الثنائية مشواره المهني، وتداخلت الصفتان طوال 37 سنة من عمره المديد قضاها موظفا في دواوين الحكومة، وكتب خلالها العديد من أعماله، بدأ مشوار الوظيفة فور تخرجه من كلية الآداب قسم الفلسفة في عام 1934، وتسلم أول عملٍ له في 11 نوفمبر 1934 كاتبا بقلم المستخدمين في الجامعة المصرية ليخرج من الوظيفة وكان قد صار مستشارا لوزير الثقافة بدرجة نائب وزير في 10 ديسمبر 1971، ليسترد مرة أخرة حريته وجزءا مهما من وقته كان يضيع في دواوين الحكومة ويتفرغ للكتابة وانضم بناء على طلب محمد حسنين هيكل إلى كتيبة كبار الكتاب بجريدة الأهرام.

**

اشتغل نجيب محفوظ بالوظيفة أكل عيش، ولكن ظل شغله الشاغل هو التأليف، بدأ على الفور مسيرته الوظيفية منذ تخرج في كلية الآداب وحصل على ليسانس الفلسفة سنة 1934، وعمل في إدارة الجامعة المصرية موظفا حكوميا في بداية السلم الوظيفي، وكان عمره وقتذاك لا يزيد عن 23 سنة، ثم انتقل إلى العمل في وزارة الأوقاف مع أستاذه الجليل الشيخ مصطفى عبد الرازق، حين عُيّن وزيرًا للأوقاف، فعمل معه سكرتيرا برلمانيًا للوزير.

كان أصغر العاملين بين زملائه في العمل، كانوا جميعا أكبر منه سنا، ولم يحصل أي منهم على أي شهادات جامعية، بعضهم حصل على شهادة الابتدائية، وبعضهم حصل على شهادة الثانوية (التوجيهية)، ومع ذلك كانوا يسخرون منه ومن شهادته الجامعية، وحين علموا أن شهادته تلك في الدراسات الفلسفية أطلقوا عليه لقب “أرسطو”.

**

ومبكرًا أيضًا وجد نفسه أمام القرار الصعب عند مفترق الطريق في بداية حياته العملية، وكان قد استمر في مشواره الدراسي وظل لمدة عامين يدرس ويحضّر لدرجة الماجستير في الفلسفة الإسلامية، تحت إشراف أستاذه الإمام الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق، حتى رُشح للسفر في بعثة علمية للدراسة في فرنسا، ولما تخطوه وفقد فرصته في السفر برز أمامه السؤال كبيرًا مقلقًا: هل يواصل طريق الدراسات الفلسفية أم يتفرغ للكتابة الأدبية؟

من حسن حظنا وحظ الأدب العربي كله أنه استقر على أن يهب نفسه ووقته وجهده للرواية والأدب، وحينها شعر بأنه أخيرا حصل على حريته، حتى إنه كان يقرن بين معاهدة الاستقلال سنة 1936 التي أعطت مصر نوعًا من الاستقلال الصوري، وبين قراره بالتفرغ للكتابة الأدبية، والتوقف عن إكمال دراسته الفلسفية.

**

في عام 1950، أصبح محفوظ مديرا لمشروع القرض الحسن بوزارة الأوقاف، وهو المشروع الذي كان يقرض المحتاجين من دون فوائد مالية، وبعد ثورة 23 يوليو 1952 انتقل نجيب محفوظ إلى وزارة الإرشاد القومي حيث انتدب للعمل في مكتب يحيى حقي مدير مصلحة الفنون الذي عينه فتحي رضوان وزير الإرشاد القومي آنذاك، وطلب منه أن يستعين باثنين في إدارة العمل بالمصلحة الحكومية الكبيرة، واختار حقي نجيب محفوظ وعلي أحمد باكثير.

وحين تولى الدكتور ثروت عكاشة وزارة الثقافة فرح جدا بوجود محفوظ في الوزارة، وكان يعرفه قبل الثورة عن طريق بعض الأصدقاء والأقارب، يقول نجيب محفوظ: «كنت أرسل إليه برواياتي وكان يرسل لي بمترجماته، ولكننا لم نلتق إلا في الوزارة حين جاء وزيرا فأصدر قراره بتعييني مديرا للرقابة ثم أسند إليَّ رئاسة مؤسسة دعم السينما، وظللت في هذا المنصب حتى قبل إحالتي إلى المعاش بعامين حين عينني مستشارا لوزير الثقافة».

**

راتب الموظف، مهما يبدو الآن صغيرا، كان في وقتها كافيا لتحقيق ضرورات الحياة، بل وبعض الكماليات أيضا، وحين بدأ محفوظ مسيرته العملية كانت الوظيفة الحكومية أملا كبيرا يسعى الجميع إلى الوصول إليه ولو بالواسطة، كانت الوظيفة الحكومية تعني الأمان والضمان والاستقرار، وكانت توفر لصاحبها وضعا اجتماعيا مميزا، بالإضافة إلى ما تمنحه من فرص الترقي على درجات السلم الوظيفي، والزيادة في الراتب والرفعة في المقام.

أجمل سنوات الوظيفة عند محفوظ، حين كان موظفا صغيرا في مكتبة تابعة لوزارة الأوقاف بالأزهر، نقل للعمل فيها بعد مجيء حكومة الوفد، وذهاب حكومة «الأحرار الدستوريين» التي كان الوزير مصطفى عبد الرازق منها، فرح نجيب محفوظ بوضع «الموظف المركون» في مكتبة بحي الأزهر، الذي أتاح له –أولا- أن يكون في الحي الذي يعشقه، وسمح له هذا الوضع الجديد -ثانيا- بأن يقرأ كما يحب، وأمضى فيها أجمل أيام الوظيفة، بالمقارنة مع أية وظيفة أخرى خلال خدمته الطويلة في الحكومة.

أصعب سنوات الوظيفة حين وصل إلى أعلى درجاتها، كنائب وزير، وأصبح رئيسا لمؤسسة دعم السينما، كان مفروضا عليه الكثير من الاجتماعات المسائية، وجارت على نصيبه الذي كان يخصصه للقراءة والكتابة، ومرة أخرى كانت سعادته بالغة حين ترك رئاسة المؤسسة، وحين تم «ركنه» مجددا في منصب مستشار الوزير.

**

كان يردد: «مصر بلد وظائف»، وكان يُسر إلى أصدقائه المقربين: «عشت طول عمري أتمنى ترك الوظيفة، ولكنني لم أستطع بسبب احتياجي إلى راتبها»، ولكنه لم يسمح للوظيفة بأن تؤثر سلبًا على مشروعه الأدبي، أو أن تسلب منه وقته أغلى ما يملك، وحين خصصوا له سيارة بسائق بعد أن ترأس مؤسسة السينما تنازل عنها حتى لا يفقد ما اعتاد عليه من أن يذهب إلى عمله، ويعود إلى بيته كل يوم سيرا، ووجد أن هذه السيارة الحكومية ستمنعه من ممارسة رياضته اليومية، فتخلص منها، وعاد إلى عادته المستديمة.

أعطت الوظيفة محفوظ الأمان الاقتصادي، كان يخشى على مستقبل بناته لو أنه ترك الوظيفة المرموقة والمرتب المضمون والموقع الاجتماعي المعتبر ليعتمد على ثمار الأدب التي قد تأتي أو تتأخر، وكان يقول: «مفيش حاجة تذل الرجل إلا الأولاد».

إضافة إلى الأمان النفسي والاقتصادي أضافت الوظيفة إلى حياة الأديب الكبير الكثير من الصداقات، وكانت بالنسبة إليه كأديب بمثابة «منجم» مليء بالشخصيات والأنماط البشرية المختلفة، تلك النماذج التي لم يكن له أن يتعرف إلى دواخلها ولا أن يفك رموز ومفاتيح شخصياتها من دون مثل هذا الاحتكاك الحياتي في أوساط الموظفين.

**

كانت الوظيفة أحد مصادر الوعي لدى نجيب محفوظ بالواقع من حوله يقول: «لم أندم على السنوات الطويلة التي أمضيتها موظفا، فالكتب وحدها ليست مصدرا للوعي، ولا الحياة السياسية وحدها مصدرا للوعي، ولا الجامعة، ولا الصحافة فقط، وقد تعاملت مع الوظيفة باعتبارها مجموعة من العلاقات والقيم والدلالات»، وكانت منجما يحتوي على نماذج بشرية عدة لها خصائص ومكونات شخصية لا توجد إلا في عالم الوظيفة، وقد أعاد الأديب الكبير توظيف هذه الشخصيات في أدبه، بما تمثله من قيم وتقاليد ودلالات، وصارت الوظيفة مثل الحارة واحدة من أهم مصادر الرواية المحفوظية، وكما أن الحارة عنده هي العالم مصغرا، فقد كانت الوظيفة هي البشر في حالات خاصة، وقد عالج عالم الوظيفة في أكثر من عمل، وأفرد له واحدة من أعماله هي «حضرة المحترم».

وهو يعترف بأن «الوظيفة» أثرت أعماله، بل اعتبرها واحدة من المصادر الرئيسة لعالمه الروائي الذي انحصر تقريبا في ثلاثة أماكن: دواوين الحكومة والحارة والمقهى، علمته الحارة فن «الإصغاء» وعلمته الوظيفة قيمة «الانضباط»، وكان المقهى واحته المفضلة.

**

ظل محفوظ ينصح الأدباء الشباب الذين حازوا شرف صداقته بعدم الاعتماد على «الأدب» في لقمة عيشهم، وحين كان يعبر بعضهم عن كراهيتهم الشديدة للعمل الوظيفي الثابت الروتيني ويرونه قاتلا للإبداع؛ ويتمنون لو أنهم تفرغوا لحرفة «الأدب» كان الأستاذ يحذرهم بأبوية من مغبة التعويل على الأدب ويقول: «اجعل من الأدب هوايتك، لا حرفتك، حتى تضمن الاستمرار، وتتجنب اليأس».

وهي لا شك نصيحة «مجرب»، وخبرة كاتب وأديب كبير اعتبر الأدب حياة لا مهنة، وكان يقول: «إذا اعتبرت الأدب مهنة فسوف تنشغل، لا محالة، بانتظار الثمرة، وحرصت على أن أحصر اهتمامي بالإنتاج نفسه، وليس بما يمكن أن يأتيني من ورائه. كنت أكتب على أمل أن ألفت الأنظار إلى كتاباتي، ذات يوم، بل كنت أكتب أحيانا وأنا معتقد أنني قد أظل على هذه الحال دائما»، وجاء حين من الوقت كان نجيب محفوظ يحتفظ في أدراجه بخمس روايات «مركونة» بانتظار ناشر يعترف بموهبته.

**

يشهد محفوظ لنفسه بأنه كان موظفا كما يجب أن يكون الموظف: «عمري ما زوغت، ولا أخذت إجازة عارضة من دون وجه حق، ولا استأذنت قبل موعد الخروج الرسمي للموظفين، وعملت في الوظيفة بضمير، ولم آت بأي عمل أخجل منه أثناء مدة عملي»، وشهادة صديقه الأديب الكبير يحيى حقي تؤكد ذلك: «ليست في نجيب محفوظ ذرة من طبائع الموظفين، ولا تستغرب إن قلت لك إنه مع ذلك موظف مثالي لم يحدث أن تأخر عن الوصول إلى مكتبه دقيقة».

من الآثار الإيجابية للوظيفة أنها علمته ضرورة أن ينظم وقته، وقال مرة وهو يتحدث عن نفسه: «نعم أنا منظم والسبب في ذلك بسيط، إذ عشت عمري كموظف وأديب، ولو لم أكن موظفا لما اتخذت النظام بعين الاعتبار. كان عليّ أن أستيقظ في ساعة معينة، وتبقى لي من اليوم ساعات معينة، فإن لم أنظم هذا اليوم فسأفقد السيطرة عليه»، ويضيف: «الوظيفة جعلتني أتمكّن من أن أصبح أديبا، فبعد أن أنتهي من عملي أذهب لتناول الغداء وأستريح، ثم أعمل ست ساعات، ثلاثة منها للقراءة وثلاثة للكتابة، وهذه الساعات يرجع الفضل فيها إلى الوظيفة التي علمتني تنظيم الوقت».

**

الورقة الأخيرة التي حواها ملف خدمته جاءت من مكتب وزير الثقافة وموجهة إلى عبد الحميد جودة السحار، تحيطه فيها باقتراح منح وسام مناسب لنجيب محفوظ بمناسبة انتهاء خدمته، وجاء فيها: «أرجو التفضل بموافاتنا بمذكرة بالمعلومات التي يمكن إدراجها في هذا الموضوع، ذلك من واقع ملف خدمة سيادته وما قدمه للمؤسسة من خدمات، مع رجاء اعتبار هذا الموضوع مهما وعاجلا».

وأخيرًا صدر قرار رفع اسم نجيب محفوظ من سجلات العاملين في المؤسسة المصرية العامة للسينما، اعتبارا من 10 ديسمبر عام 1971، لبلوغ السن القانونية للإحالة إلى المعاش، جاء القرار بتوقيع عبد الحميد جودة السحار، رئيس مجلس الإدارة، وإلى جانبه أربعة توقيعات أخرى، وفي نهايتها تأشيرة كأنها تشير إلى خلاصة هذا العمر الوظيفي: «للحفظ بملف السيد الأستاذ نجيب محفوظ، مع تمنياتنا له بالصحة والرفاهية».

**

ظل نجيب محفوظ يسخر من نفسية الموظف التي لازمته طول حياته، حتى بعد أن ترك الوظيفة، وهي نفسية خاصة تتشكل ملامحها الأساسية على مدار سنوات العمل الوظيفي، ومن بينها تلك التراتبية بين الموظفين التي تجعل أعلاهم درجة هو الأهم وصاحب الحيثية بينهم. ويحكي الأديب الروائي سعيد سالم أن وزير الثقافة الفرنسي فاجأ الحاضرين بندوة نجيب محفوظ بحديقة فندق «سان ستيفانو» البحرية بحضوره لتقديم التهنئة للأستاذ بجائزة «نوبل»، فانتفض محفوظ واقفا للوزير وهو يصافحه ويشكره بشدة وباحترام مبالغ فيه لفت نظر الحاضرين، وحين انصرف الوزير تهكم محفوظ على ما جرى، واعتبره بقايا نفسية الموظف عنده فقال: «يا أخي ما فيش فايدة، الموظف يظل موظفا طول عمره».

لازمت ثنائية الموظف والمؤلف نجيب محفوظ 37 سنة من حياته، بقي خلالها متصالحا مع نفسه ومع الوظيفة، واستطاع أن يوظفها في خدمة مشروعه، ورغم أنه تمنى لو أنه وهب شبابه وقوته ووقته للأدب وحده، فإنه قال مرة: «أقول للوظيفة، قد غفرت لك ما التهمت من شبابي ووقتي بسبب ما وفرت من الرزق والاستقرار ولأنك وهبتني حياة غنية في اتصالي بالموظفين أبطال رواياتي».

**