لا حديث للشعب المصري بجميع شرائحه سوى عن الوضع الاقتصادي، وما يتوقعه الخبراء من حزمة إجراءات تقشف قاسية تتزامن مع مفاوضات الدولة وصندوق النقد الدولي، الشعور العام لدى المواطنين بالقلق واقتراب الخطر يجعل مهمة الحكومة في تمرير تلك الإجراءات أكثر صعوبة، خاصة مع عدم الرضا العام عن نتائج برنامج “الإصلاح” الذي أجرته الحكومة بالتعاون مع الصندوق الدولي منذ 6 سنوات.

أجرى الرئيس تعديلا وزاريا منذ أيام شمل عددا من الوزارات، أعقبه خبر استقالة محافظ البنك المركزي، كان اهتمام الرأي العام بخبر استقالة المحافظ أكبر من الاهتمام الذي أولته الجماهير لتغيير عدد من وزراء الحكومة، ربما يرجع ذلك لتوقيت الاستقالة بعد أنباء تعثر المفاوضات مع صندوق النقد، ولكن الأهم هو الشعور العام بأن تغيير المحافظ قد يتسبب في تغيير السياسات المالية التي أنتهجتها الحكومة خلال السنوات الماضية من تثبيت لسعر الفائدة والتحكم في سعر الجنيه مقابل العملات الأجنبية.

في لقاء أجرته قناة “بي بي سي” الإخبارية مع الخبير الاقتصادي المقرب من الحكومة “هاني جنينة”، ذكر أنه ثمة تسريبات بأن سبب استقالة عامر من المركزي، يرجع إلى رفضه أحد شروط صندوق النقد، وهو الشرط المتعلق بتحرير سعر صرف الجنيه فورا ومرة واحدة، وقد طلب عامر أن يكون التحرير تدريجيا حتى لا يتسبب في ارتفاع سعر الدولار بأكبر من قيمته بفعل المضاربات. كما تنبأ “جنينة” في نفس اللقاء بأن خليفة عامر في البنك المركزي، سوف يكون “أكثر مرونة” في التعامل مع شروط الصندوق، وهو ما يعني أن التعويم سيكون مباشرا وخلال أسابيع.

منذ تولي “جمال عبد الناصر” الحكم في مصر وملف الاقتصاد تتم إدارته من قبل رئيس الجمهورية بنفسه باعتباره “أمن قومي”، استمرت سيطرة الرئاسة على ملف الاقتصاد خلال السبعين عاما الماضية، لم يحدث استثناء سوى في العقد الأول من الألفية أثناء حكم مبارك، بعد أن أفسح المجال لرجال الأعمال لتولي المناصب الاقتصادية، وهو ما يعتقد “رجال الدولة” في مصر بأنه كان من الأسباب الرئيسية لخروج الجماهير على مبارك في ثورة 25 يناير.

استعادة الدولة سيطرتها على الاقتصاد تدريجيا بعد الثورة واستحوذت على النسبة الأكبر من السوق، سواء عبر مؤسسات القطاع العام والمؤسسة العسكرية، أو عبر شركات خاصة مملوكة لمؤسسات وأجهزة حكومية، وبسبب غياب العملية السياسية ووجود حزب حاكم وبرلمان حقيقي، انحصرت تلك السيطرة بين الرئيس ورئيس مجلس الوزراء، وهو ما يعني أن الوضع الاقتصادي هو في المقام الأول مسئولية النظام الحاكم، وأعتقد أن هذا هو السبب الذي يدفع الإعلاميين والخبراء إلى تجنب الحديث عن الاقتصاد، والانخراط أكثر في الحديث عن السياسة المالية، على اعتبار أنها مستقلة بحكم إداراتها عن طريق محافظ البنك المركزي ودون تدخل حكومي، وهو ما يجعل المناقشات سطحية وقاصرة بدرجة كبيرة، في تناول موضوعات مثل أولويات الحكومة والاستثمار الأجنبي والاستحواذات والديون وسعر الصرف.

يفضل النظام المصري التعامل مع صندوق النقد الدولي، لأن الأخير لا يهتم بالجدوى الاقتصادية ولا يستهدف تحسن الوضع الاقتصادي، كل ما يشغل الصندوق هو تحسين الأوضاع المالية لجعل الدول المدينة قادرة على توفير النقد الأجنبي اللازم للوفاء بالتزاماتها الخارجية، لذلك كان برنامج الصندوق للإصلاح ماليا أكثر منه اقتصاديا، وكانت النتيجة الوحيدة الإيجابية من ذلك البرنامج -ونحن ننظر إليه الآن- متمثلة في قدرة مصر على سداد أقساط خدمة الدين خلال السنوات الماضية، بخلاف ذلك فشل البرنامج في زيادة الاستثمارات المباشرة كما فشل في الحفاط على سعر الصرف بقيمته العادلة، والأهم من ذلك فشل البرنامج في الوصول إلى معدلات النمو المستهدفة رغم تحقيق ارتفاعات طفيفة في النمو.

كانت لدى الحكومة عدة طرق للاستفادة من برنامج الإصلاح المالي لتنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي يهدف إلى تقليل البطالة وتحسين الميزان التجاري ودفع عجلة التنمية الاقتصادية بالمجتمع، ولكن الدولة اختارت استغلال تلك السيولة التي وفرها البرنامج المالي من عملات أجنبية، في تبني برنامج اقتصادي يهدف إلى توفير فرص عمل مؤقتة وضخ الأموال في السوق عبر مشروعات عملاقة أغلبها من مشروعات البنية التحتية غير المنتجة، وبعيدا عن الأسباب التي دفعت النظام للتوجه نحو هذا الشكل من المشروعات، فإن النتائج تظهر الآن فشل البرنامج الاقتصادي بتعثر تلك المشروعات عن استكمال أعمالها، بالإضافة إلى الزيادات المتسارعة في البطالة نتيجة توقف العمل بها لنقص السيولة.

تواجه الدولة الآن تحديا خطيرا بسبب استحقاق التزامات قدرها 30 مليار دولار يجب أن يتم سدادها خلال الربع الأخير من العام الجاري، وهو التحدي الذي بموجبه اتجهت الدولة للتفاوض مع صندوق النقد للحصول على قرض جديد ضمن برنامج “إصلاح مالي” جديد، يتضمن شروطا أكثر قسوة من سابقه، بحسب آراء أغلب الخبراء، كما اتجهت الدولة لبيع أصول مملوكة لها عن طريق استحواذ مؤسسات خليجية على عدد من المؤسسات المصرية المملوكة للدولة، بالإضافة إلى التجهيز لحزمة تمويل جديدة عبر طروحات تشمل سندات وأذون خزانة.

يبدو أن الدولة عازمة على المضي في طريقها لتنفيذ برنامج صندوق النقد وفق شروطه، خصوصا بعد استقالة عامر وتولي “حسن عبد الله” قائما بأعمال رئيس البنك المركزي، كما يبدو أن ذلك البرنامج لن يكون مطروحا للنقاش، خصوصا وأن عبد الله كان يعمل سابقا رئيسا لمجلس إدارة شركة “المتحدة”. وهي الشركة المهيمنة على مجال الإعلام بحكم مليكتها وإدارتها عبر أجهزة حكومية.

ولكن ما يجب أن يتناوله النقاش بشكل جدي هو البرنامج الاقتصادي الذي سوف تنفذه الحكومة، عبر تلك الحزمة الجديدة من التمويلات الضخمة، وهو ما أتمنى أن يتم داخل جلسات الحوار الوطني بشكل حقيقي وشفاف وحر.

هناك عدة أسئلة أتمنى أن نعرف إجابتها من المسئولين الحكوميين، خلال جلسات الحوار وقبل التخطيط لبرنامج جديد:

– لماذا عزف المستثمرون الأجانب عن الاستثمار في مصر؟

– لماذا اتجه مستثمرو الخليج العربي إلى سياسة الاستحواذ بدلا من الاستثمار، واختاروا شراء مؤسسات قائمة وناجحة بالفعل، بدلا من تأسيس أخرى؟

– لماذا لم يقبل المستثمرون على شراء المشروعات الجديدة التي تم تنفيذها؟

– من يتحمل فاتورة البرنامج الجديد لصندوق النقد؟

– بعد أن تنتهي الدولة من خطتها لبيع الأصول، والتخارج من الاقتصاد، كيف سيتم سداد الديون؟