بات الجدل وربما الصراع أحيانا بشأن المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر موضع خلاف شديد يتجدد سنويا بوتيرة شبه ثابتة اعتادها المراقبون هنا في القاهرة وهناك في واشنطن، حيث محور الخلاف هل سجل مصر في مجال ملف “حقوق الإنسان” يبرر هذه المساعدة. وطرفا هذا الجدل دائما الإدارة ممثلة في الرئيس، والسلطة التشريعية ممثلة في الكونجرس بمجلسيه “الشيوخ والنواب” حيث يميل الأول حتى لو كان صاحب خطاب حقوقي عالي النبرة من قبل (كما الرئيس جو بايدن) إلى التسليم بمنح هذه المساعدة مهما كان “السجل” رديئا، أما الآخرون (أي الشيوخ والنواب)ففي الغالب يتصلبون باتجاه تقييد المساعدة. لكن عادة ما تميل الكفة في النهاية لصالح رؤية الرئيس، حيث تكمن مصالح أمريكا “الصلبة” المجردة العارية من أية قشور أو ادعاءات. هنا فصل جديد.

ففي تقرير حول الصراع داخل المؤسسات الأمريكية بشأن المساعدات العسكرية السنوية لمصر. كتب روبي جرامر، مراسل الشؤون الدبلوماسية والأمن القومي في (فورين بوليسي Foreign Policy).  وجاك ديتش، مراسل البنتاجون والأمن القومي. تقريرا حول المعركة الدائرة بين إدارة الرئيس جو بايدن والكونجرس حول المساعدة العسكرية لحليف “مهم” في الشرق الأوسط. وهو القتال “الذي يخوض في قلب القيم في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وتعهد الرئيس جو بايدن بالوقوف في وجه الطغاة والدفاع عن حقوق الإنسان خارج البلاد”.

يدور الصراع بطريقة واشنطن الكلاسيكية -حسب التقرير- حيث يتم خوض تلك المعركة بأكثر الطرق مللا وبشكل غير مباشر: في الصفحة 313، القسم 7019 من مشروع قانون مخصصات الكونجرس المكون من 716 صفحة. يدور الخلاف حول المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر. وهي مخصصات سنوية بلغت عشرات المليارات من الدولارات من دافعي الضرائب الأمريكيين على مدى عقود.

يقول التقرير: كل عام تقريبًا -على مدار 35 عامًا- ترسل الولايات المتحدة 1.3 مليار دولار كمساعدات عسكرية لمصر. لتعزيز العلاقة الجيوسياسية المهمة بين البلدين، والمساعدة في استقرار العلاقات غير المستقرة بين مصر وأهم حليف لواشنطن في الشرق الأوسط، إسرائيل.

في السنوات الأخيرة، وضع الكونجرس قاعدة تقضي بضرورة أن يكون جزءا من هذا التمويل -حوالي 300 مليون دولار- مشروطًا بتمسك الحكومة المصرية ببعض شروط حقوق الإنسان الأساسية. لكن، التنازل المدمج يسمح للرئيس بالتنازل عن هذه القاعدة لأسباب تتعلق بالأمن القومي. وفي كل عام تقريبًا، استخدم الرئيس هذا التنازل، للحفاظ على استمرارية هذا التقليد البالغ 1.3 مليار دولار.

اقرأ أيضا: فورين بوليسي: توقفوا عن تمويل مشروعات مصر “المظهرية” الشعب في معاناة

تسميم العلاقات الأمريكية- المصرية

ينقل التقرير أحاديث متزايدة من جماعات حقوق الإنسان والمشرعين -لا سيما من الجناح التقدمي للحزب الديمقراطي- والذين يريدون من بايدن أن يرسل رسالة إلى مصر، مفادها أن “الولايات المتحدة لن تقبل الوضع الراهن بإرسال نفس القدر من المساعدة العسكرية، في ضوء سجل مصر “الكئيب في حقوق الإنسان”.

يجادل هؤلاء بأنه من خلال تقديم مساعدات أقل، فإن بايدن “ينفذ وعد حقوق الإنسان المهم الذي قطعه خلال حملته الرئاسية”. ويستشهدون بما كتبه بايدن على تويتر في يوليو/ تموز 2020 -في إشارة واضحة  للرئيس عبد الفتاح السيسي “لا مزيد من الشيكات الفارغة لـ”الديكتاتور المفضل لترامب” أي الرئيس السابق دونالد ترامب.

نقل التقرير عن سيث بيندر، مدير المناصرة في مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط، قوله: “إن حالة حقوق الإنسان في مصر مروعة تمامًا كما كانت قبل تولي بايدن السلطة. كما كانت في العام الماضي، كما هي الآن”.

على الجانب الآخر، هناك صقور المشرعين، إلى جانب مجموعة من خبراء الشرق الأوسط الذين يشغلون مناصب رئيسية في إدارة بايدن. والذين يعتقدون أن مصر “لا تزال حليفًا مهمًا في الشرق الأوسط، حتى في ضوء حكم السيسي الذي يقمع المعارضة”. يجادل هؤلاء بأن مصر “تتعاون مع واشنطن في مكافحة الإرهاب، وتساعد المنطقة في الحفاظ على توازن مستقر مع إسرائيل” وكان آخر ما قامت به، عندما ساعدت القاهرة في التوسط لوقف إطلاق النار هذا الشهر بين إسرائيل والمسلحين الفلسطينيين بعد تصاعد العنف في غزة”.

يرى هذا المعسكر من المسئولين أن قطع المساعدات العسكرية عن مصر. قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تسميم العلاقات الأمريكية- المصرية، ودفع القاهرة إلى الاقتراب من الخصوم الجيوسياسيين مثل روسيا والصين. وفي النهاية “لا تفعل شيئًا يذكر لتغيير سجل الإدارة المصرية في مجال حقوق الإنسان”.

تقارب القاهرة وموسكو

يلفت التقرير إلى أنه، مع تدهور العلاقات الأمريكية في العقد الذي أعقب الربيع العربي، وصعود نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي. بدأت مصر -ثالث أكبر مستورد للأسلحة في العالم- في إحياء العلاقات مع روسيا. حيث توصل الجانبان إلى اتفاقيات تعاون لترقية الأسطول المصري القديم من الطائرات المقاتلة إلى طائرات MiG-29. M كما بدءا التعاون في مجال الطاقة النووية.

أثار هذا التعاون قلق واشنطن بشدة. حتى أن المسئولين الأمريكيين اشتكوا -في الماضي- من أن نظراءهم المصريين سمحوا للجيش الروسي -دون إذن أمريكي- بتفتيش الطائرات الأمريكية التي تطير دوريًا إلى مصر. في وقت تحاول الولايات المتحدة أيضًا المضي قدمًا في بيع طائرات مقاتلة من طراز F-15 لمصر.

هنا، يجادل بعض الخبراء بأن واشنطن “يجب أن تفعل كل ما في وسعها لمنع القاهرة من التقرب من موسكو أكثر من ذلك”.

ينقل التقرير عن ديفيد شينكر، المساعد السابق لوزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأدنى خلال إدارة ترامب. قوله: “تعتبر القاهرة مبلغ 1.3 مليار دولار المخصص باعتبارها أموالهم. إنهم يشعرون بالظلم والإهانة بسبب حجب أي أموال. لذلك، نظرت مصر تقليديًا إلى موردين آخرين”.

أيضا، وبّخ السناتور الجمهوري تيد كروز -وهو من مؤيدي استمرار المساعدات الأمريكية لمصر والمنتقد بشدة للرئيس بايدن- بعض زملائه المشرعين وبايدن “لأنهم يهدفون إلى قطع المساعدات التي يستخدمها الحلفاء المصريون لمحاربة الإرهاب”. وذلك في بيان أرسل بالبريد الإلكتروني إلى وزارة الخارجية الأمريكية. وأضاف أن “سياسة بايدن الخارجية تتحول من عدم الاتساق إلى الإضرار عمدا بالمصالح الأمنية لأمريكا”.

مزيد من الجدل

يشير التقرير إلى أن الجدل الذي يختمر بين مختلف المؤسسات الأمريكية، سواء البيت الأبيض أو وزارة الدفاع “البنتاجون” أو مجلس الأمن القومي. وكذلك الكابيتول هيل -يقصدالكونجرس- يعكس هذا الجدل التوتر المستمر داخل إدارة بايدن. حول ما إذا كان يمكن إعطاء الأولوية لحقوق الإنسان، في مواجهة الأولويات الجيوسياسية الملحة الأخرى.

قال توماس هيل، الخبير في العلاقات بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط في معهد الولايات المتحدة للسلام: “هناك فرصة حقيقية. يمكن أن يؤدي قطع التمويل العسكري إلى كسر العلاقة بين واشنطن والقاهرة بطريقة مهمة حقًا. مع ذلك، هناك حجة يجب طرحها، مفادها أن هذه العلاقة ليست بنفس الأهمية التي كانت عليها من قبل. وأن مصر لم تكن صديقا جيدا للولايات المتحدة، وأنها تتجاهل هذه الدوافع لدعم حقوق الإنسان”.

يأتي الجدل حول المساعدات العسكرية لمصر، في أعقاب رحلة قام بها بايدن إلى المملكة العربية السعودية الشهر الماضي. حيث سلم على ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بقبضة اليد، خلال اجتماع لمعالجة ارتفاع أسعار النفط العالمية.

عندها، انتقدت منظمات حقوق الإنسان الرئيس الأمريكي. لتراجعه عن تعهد حملته الانتخابية بالوقوف في وجه المملكة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، بعد أن تورط ولي العهد بشكل مباشر في مقتل جمال خاشقجي، الصحفي السعودي المقيم في الولايات المتحدة. وقالت نيكول ويدرسهايم، نائبة مديرة منظمة هيومن رايتس ووتش في واشنطن: “نحن متفائلون ومتحمسون للخطاب الإيجابي حول التأكيد على حقوق الإنسان الذي نراه من هذه الإدارة. لكن هذا يحتاج إلى متابعة بأفعال حقيقية.”

يقدم هذا النقاش أيضًا لمحة عن العملية الفوضوية لصنع السياسة الخارجية للولايات المتحدة، حيث يحاول بعض المشرعين التفوق على جهود إدارة بايدن لحماية التمويل العسكري لمصر. في صفحات فواتير الاعتمادات المطولة والمعقدة.

اقرأ أيضا: بلومبرج: روسيا تجد طريقا جديدا لسوق النفط عبر ميناء مصري صغير

مجرد كلام

في العام الماضي، حاولت إدارة بايدن تقسيم الفرق بين قطع 300 مليون دولار من التمويل العسكري المشروط لمصر أو قطع أي منها. حيث حجبت الإدارة 130 مليون دولار عن مصر “بسبب مخاوف تتعلق بحقوق الإنسان”. وهو مبلغ أقل بكثير من الـ 300 مليون دولار التي كانت منظمات حقوق الإنسان تطالب بها. كما أنها هذا العام، وافقت أيضًا على مبيعات أسلحة منفصلة بقيمة 2.5 مليار دولار إلى مصر.

بررت وزارة الخارجية هذا الخفض بالإشارة إلى بند في قانون مخصصات الكونجرس -القسم 7019 على وجه الدقة- والذي قال إن الإدارة “لا تستطيع الانحراف عن خطط الإنفاق السنوية على التمويل العسكري الأجنبي بأكثر من 10% مما هو مبين في فاتورة الاعتمادات. وبحسب هذا التفسير، لا يمكن للإدارة أن تخفض أكثر من 130 مليون دولار -أو 10%- من 1.3 مليار دولار من المساعدات العسكرية المخططة لمصر.

لكن، هذا التفسير ترك بعض دعاة حقوق الإنسان والمشرعين -بمن فيهم حلفاء مهمون في الكونجرس من حزب بايدن- في حالة من الغضب. لأن قسمًا آخر من قانون الاعتمادات الضخمة -القسم 7041- أضاف “علامة النجمة” إلى قاعدة الـ 10%. مما أدى، في الواقع، إلى وجود “استثناء يسمح بتخفيضات أكبر في التمويل إذا كانت هناك مخاوف كبيرة تتعلق بحقوق الإنسان”.

يجادل هؤلاء المشرعون بأن وزارة الخارجية اتبعت بشكل انتقائي جزءًا من مشروع القانون، الذي قلل من التخفيضات على مصر. وتجاهل جزءًا مهمًا آخر من مشروع القانون، الذي كان من شأنه أن يؤدي إلى تخفيضات أكثر حدة فيما يتعلق بمصر. وهم يجادلون في هذه العملية بأن إدارة بايدن بعثت برسالة إلى السيسي وغيره من الحكام. مفادها “أن حديث الرئيس الصارم عن الدفاع عن حقوق الإنسان على مستوى العالم كان مجرد كلام”.

نقل التقرير عن السيناتور الديمقراطي كريس مورفي قوله: “أنا سعيد لأن الإدارة رفضت التصديق على أن مصر قد استوفت شروط حقوق الإنسان في القانون. لكن هذا القرار اليوم هو تنفيذ فاتر للنظام الأساسي من القرار الصادر في سبتمبر/ أيلول 2021”.

وأضاف مورفي: يلاحظ آخرون أنه عندما تتحدث أمريكا بحزم بشأن حقوق الإنسان لا تتابع حديثها بعمل جريء.

ماذا عن هذه السنة؟

هذا العام، لم تشر الإدارة الأمريكية بعد إلى الموقف الذي ستتخذه بشأن التمويل العسكري لمصر. وقال متحدث باسم مجلس الأمن القومي: “نحن لا نعلق على المداولات الداخلية. تعد مصر شريكًا استراتيجيًا رئيسيًا في جهودنا لتعزيز شرق أوسط أكثر تكاملاً وأمانًا. على سبيل المثال، لعبت للتو دورًا حاسمًا في إرساء وقف لإطلاق النار في إسرائيل وغزة بعد ثلاثة أيام من النزاع”.

وأضاف المتحدث: “احترام حقوق الإنسان هو أيضًا مبدأ أساسي في سياستنا الخارجية”.

لكن، وفق التقرير، فإن العديد من المسؤولين ومساعدي الكونجرس المطلعين على الأمر يقولون إن الإدارة تخطط للمحاولة مرة أخرى للحد من خفض التمويل العسكري الذي تقدمه لمصر هذا العام.

يقول التقرير: في الكونجرس، يستعد الرافضون للمحاربة بنيران البيروقراطية. إنهم يعملون على التفوق على إدارة بايدن في تفسيرها القانوني لمقدار المساعدات التي يجب قطعها عن مصر. من خلال خطوة متقلبة من جانبهم. هي “قطع أي ذكر لمصر من جدول التمويل العسكري الأجنبي في قانون الاعتمادات”، وفق ما نقل عن أحد كبار أعضاء الكونجرس ممن هم على دراية بالموضوع.

ولكن -وهناك دائمًا لكن في العالم الغامض والمعقد لمخصصات الكونجرس- فإن التمويل العسكري لمصر هو جزء من زيادات لمدة عامين. نظرًا لأن إدارة بايدن لا تزال تعمل على إنهاء فاتورة الاعتمادات منذ عام مضى، فقد تستخدم نفس التفسير القانوني للسماح لها بقطع حد أقصى قدره 130 مليون دولار مرة أخرى هذا العام، وإن كان للمرة الأخيرة، قبل ظهور لغة الاعتمادات الجديدة.