يتواصل إعجاب العديد من النخب العربية ليس فقط بالنموذج الصيني، بل وأيضا بالترويج له، انطلاقا من مغالطات منطقية ومنهجية. ففي الوقت الذي تسترشد فيه هذه النخب بتطورات الحركة الاقتصادية الصينية على صحة الإجراءات التنموية والاجتماعية في الصين، نجد أن مبرراتها تكمن خلف العداء للنماذج الغربية لا بسبب فشل إجراءاتها الاقتصادية الاجتماعية والتنموية، بل بسبب ما يكمن في الذاكرة التاريخية من تداعيات الاستعمار والتجارب المريرة التي تراها هذه النخب سببا أساسيا للفقر والتخلف بين شعوب المنطقة. الأمر الآخر، أن هذه النخب تتلقف التجربة السياسية الصينية القائمة على الحزب الواحد وإلغاء الحريات العامة، كبديل للفوضى والتفكك. على الرغم من أن ربط هذا بذاك لا يوجد إلا في عقول هذه النخب. وبطبيعة الحال، يتم التركيز على فوضى الديمقراطية الغربية وعدم قابليتها للتطبيق حتى في الدول التي يتصور البعض أن الولايات المتحدة تواجدت فيها لإقامة الديمقراطية مثل العراق وأفغانستان.
ويبدو أن هناك تجاهلا متعمَّدا أو استسهالا، في عدم الغوص في التجربة الصينية والنظر بسطحية إلى خلفياتها التاريخية والفكرية والإجرائية. الأمر الذي يفسر انبهار هذه النخب بها، بل وبتجارب أخرى مثل الانبهار الشديد بالتجربة السوفيتية قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، أو الانبهار بالتجربة البوتينية، أو حتى بالتجربة اليابانية.
تأسيس الصورة الذهنية عن الصين والترويج لها
منذ عدة أيام تداولت وسائل الإعلام العربية في اهتمام واضح خبرا يدور حول أنه “بحسب المعهد الوطني لسياسات العلوم والتكنولوجيا الياباني، وهو مؤسسة حكومية مقرها طوكيو، تخطت الصين الولايات المتحدة في مخرجات البحث العلمي والنشر الأكاديمي”. وعلى الفور بدأت التحليلات تتجه إلى أنه خلال السنوات القليلة المقبلة سيكون إنتاج الصين العلمي، منفردة، مساو لثلث الإنتاج العالمي من حيث الكم. أما من حيث الكيف فالأوراق البحثية الأعلى تأثيرا هي الأوراق الصينية، إذ إن الصين منذ عام 2019 أصبحت متقدمة على الولايات المتحدة وكل دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة. والجدير بالذكر أن التفوق الصيني يأتي في سياق فيه معظم الدوريات البحثية لاتزال أمريكية وأوروبية ولغة النشر الأكاديمي هي الإنجليزية”.
هكذا يتم تلقف الأخبار وتحليلها عبر إضافات غير معروفة وغير مفهومة، ثم الترويج لها. وبطيعة الحال طالما أنه “بحسب المعهد الوطني لسياسات العلوم والتكنولوجيا الياباني!، فمن الضروري استقبال هذا الكلام بشكل يقيني تماما، وكأنه ليس هناك أي فرصة لاختبار هذا الكلام على أرض الواقع، ولا من خلال إحصائيات تتعلق بالميزانيات المالية المرصودة للمخرجات وللنشر ولتحقيق هذه المخرجات: أي من حيث توطين نتائج الأبحاث والدراسات والمخرجات وليس فقط نشرها. هذا إضافة إلى القوة التقنية على الأرض وتجلياتها، وبالذات في عملية توطين التكنولوجيا في حياة المواطنين وفي المؤسسات والعلاقات: أي على مستوى تلبية احتياجات الطلب الاجتماعي للتكنولوجيا وللعلوم.
في الواقع، تسلك الصين حاليا نفس خطة البروباجندا التي كان يمارسها الاتحاد السوفيتي الذي كان يقول عن نفسه أنه الأول في كل شيء والأعظم في كل شيء، وكان يستخدم أمثلة نظرية، ويؤسس لنماذج ذهنية وكأنها هي الواقع. وعلى الرغم من المخرجات والنشر في الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو إلا أنه لم يكن هناك أي تلبية للطلب الاجتماعي على العلوم، ولم يتم توطين العلوم ومخرجاتها وما تتضمنه “المقالات والمنشورات العلمية” في الحياة وفي المؤسسات وفي منظومة العلاقات الاجتماعية. من الممكن أن نجد مقالا في مجلة علمية يؤكد لنا أن مصر مهتمة بالتكنولوجيا، ومصر بها أكبر عدد من الجامعات والمعاهد في المنطقة العربية وأفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط، وأن مؤسساتها العلمية والتعليمية بها مجلات مهمة ومراكز أبحاث. ويمكن تصديق هذا الكلام، لأن المقالات تعتمد على إحصائيات حكومية رسمية مصرية. ولكن ماذا عن الوضع الحقيقي في مصر من حيث المخرجات العلمية والنشر العلمي؟! وماذا عن تجلياتهما من حيث توطين التكنولوجيا والعلوم؟!
إن الحديث الذي يدور حول تفوق الصين على الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي في مخرجات البحث العلمي والنشر الأكاديمي، هو حديث مجتزأ ضمن حملات دعائية صينية، لأن العلوم بحكم منطقها لا يمكن أن تتطور على هيئة حلقات منفصلة، وإنما عبر سلسلة من العمليات والحلقات المرتبطة ارتباطا عضويا. أي أن مخرجات البحث العلمي والنشر الأكاديمي لا يعنيان أي شيء وليس لهما أي معنى أو قيمة بدون الارتباط ببقية حلقات وعناصر سلسلة التطور العلمي وتطوير العلوم الأساسية. وعندما نتحدث عن إنجازات وإخفاقات الاتحاد السوفيتي في هذا المقام مثلا، فإننا نتحدث عن دولة كانت موجودة منذ ثلاثين أو أربعين عاما في ظل ظروف معينة وبإمكانيات تتلاءم مع تلك الظروف. ومع ذلك، فالصين الحالية تتفوق بطبيعة الحال على الاتحاد السوفيتي السابق. لكن وقتها كان الاتحاد السوفيتي متفوقا على الصين بمراحل. ومع ذلك فلم ينجح في توطين التكنولوجيا أو في الصناعات التحويلية، وفشل في توطين التكنولوجيا في المؤسسات البنكية والمالية والتعليمية وفي منظومة العلاقات الاجتماعية.
الحديث يدور الآن عن العلوم والتكنولوجيا. أما بالنسبة للاتحاد السوفيتي، فهو مجرد مثال، خاصة وأن الاتحاد السوفيتي ودول حلف وارسو قبل أربعين أو خمسين عاما كان لديهم اقتصاد ضخم وهائل. لكن هذا مجرد مثال حول عمليات البروباجندا التي تؤدي إلى الهلاك. وعموما، فالغرب نجح في توطين ليس فقط التقنيات والتكنولوجيا في المؤسسات والعلاقات ومفاصل الدول، بل وأيضا في الوعي البشري وفي عقل الإنسان نفسه، وانعكس ذلك على مستوى معيشته وعلى وعيه وتفكيره وطريقة حياته.
واستطاع الغرب أن يضع “المخرجات العلمية والنشر الأكاديمي” ضمن سلسلة طويلة ومعقدة من عمليات الإنتاج والتوطين وتلبية الطلب الاجتماعي على العلوم والتقنيات. أي أن الغرب لا يتعامل مع العلوم والتقنيات والمخرجات العلمية والنشر العلمي والتوطين كحلقات منفصلة يمكن تقييم كل منها بمفردها لإثبات عظمة الغرب أو أمريكا أو أوروبا.
إن المؤسسات الغربية دائمة “التحذير” لحكوماتها ولإدارات دولها من تفوق ليس فقط الصين، بل واليابان وكوريا الشمالية وأي دولة أخرى. وهذه التحذيرات لا تعني إطلاقا أن الأطراف الأخرى تفوقت بالفعل، وإنما تعني جرس إنذار! لكن عادة ما يتم التقاط مثل هذه التحذيرات والشروع فورا في بناء سيناريوهات تآمرية عليها لإثبات فشل الغرب وتفوق الصين. بل والتأكيد على أن “الصين في طريقها للريادة”! وبالطبع، فالصين في طريقها للريادة مثل أي دولة تعلن عن ذلك، وتقول إنها في طريقها للريادة. فمصر كانت في طريقها للريادة نوويا عام 1958، وكانت في طريقها للريادة صاروخيا في أوائل ستينيات القرن العشرين، وفضائيا في أوائل نفس الحقبة أيضا! غير أن مسألة الريادة هنا، وبالذات في مجال العلوم والتقنيات والبحث والتطور العلميين، مرتبطة بمعايير وعناصر أخرى غير البروباجندا والترويج لصور ذهنية عن الصين أو عن مصر أو جنوب أفريقيا أو البرازيل.
أزمة تايوان كمثال للمسافة بين الصورة الذهنية والواقع
تعتبر الصين هي المورد الرئيسي، ضمن موردين آخرين، للرمل الطبيعي إلى جارتها تايوان. والرمل الطبيعي هو المكون الذي يدخل في صناعة الرقائق الإلكترونية وأشباه المواصلات التي تشكل أهمية كبيرة للاقتصاد التايواني. وتستهلك تايوان إلى الآن نحو 90 مليون طن متري من الرمال الطبيعية في العام، ثلثها من صادرات الصين. أي أن تايوان تستورد من الصين 30٪ فقط من الرمال الطبيعية. من جهة أخرى، تعد تايوان مركزا عالميا لإنتاج الرقائق الإلكترونية. وتقوم بتوريدها إلى كثير من دول العالم من خلال شركتها العملاقة “TSMC” التي تأسست عام 1987. وهي الشركة المسؤولة عن 92٪ من صادرات الرقائق الإلكترونية في العالم، بينما تتولى شركة “سامسونج”، أقرب منافسيها، تصدير نسبة الـ8٪ المتبقية. كما تولت الشركة التايوانية أيضاً مسؤولية 24٪ من إنتاج أشباه الموصلات في العالم. وذلك وفق آخر إحصائية صدرت في عام 2020. وتقوم بتصنيع الشرائح وتطوير صناعات جديدة تسمح بزيادة استخدام أشباه الموصلات ضمن الشرائح الإلكترونية. ومن أهم الشركات التي تستعين بخدمات “TSMC”، شركات مثل “إنتل” و”أبل” و”هواوي” و”نفيديا” و”كاكوم” و”أمازون”.
وتحتل تقنيات الرقائق الإلكترونية موقع الصدارة في كثير من الصناعات الحديثة، وعلى رأسها الصناعات التحويلية والعسكرية والفضائية. وهي رقائق في منتهى الصغر لا يمكن الاستغناء عنها لكونها من قواعد البنية التحتية في تصنيع جميع المنتجات الإلكترونية والرقمية. وبطبيعة الحال، فهذه الرقائق جزء أساسي من صناعة الطائرات الحربية والتجارية، والصواريخ بجميع أنواعها، وأنظمة التسليح المطورة والدفاعات الجوية، والهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية والمكتبية والذكاء الاصطناعي. وهذه الرقائق عبارة عن حزم مع توصيلات إلكترونية مدمجة في رقائق من السيليكون. وهذا السيليكون بدوره عنصر يُستخرج من الرمال الطبيعية.
إن حظر أو تعليق الصين صادرات الرمال الطبيعية إلى تايوان سيكون له تأثير على صناعة الرقائق الإلكترونية في تلك الجزيرة المجاورة لها، ولكن بنسبة 30٪ فقط. وهذه النسبة كبيرة بالنسبة لنطاقات التصنيع في العالم كله، وبالذات في الدول الرائدة مثل الصين والهند وماليزيا وفيتنام وهي الدول التي حصلت على توكيلات وحقوق ملكية ومميزات خاصة من الغرب الذي يعتبر المصدر الأساسي، إضافة إلى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.
وبالطبع، فالصين هي التي تتمتع بمكانة ضخمة بين هذه الدول من حيث التصنيع والإنتاج والبيع في جميع أنحاء العالم. بل وأصبحت الصناعات التحويلية والرقمية تشكل دخلا ضخما للخزينة الصينية. وبالتالي، فإن حظر تصدير نسبة 30٪ من الرمل الطبيعي من الصين إلى تايوان، يمكنه أن يؤثر على نسبة إنتاج تعادل 30٪ من إنتاج الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات والمنتجات الأخرى في تايوان التي تصدر بدورها إلى الصين الحجم الأضخم من هذه الرقائق. ولا شك أن هذا الحظر أو التعليق سينعكس سلبا على الجانبين.
لكن فرص تايوان في كسر هذا الحظر أكبر من فرص تجاوز الصين خسائرها المالية، ومشكلات البطالة والكساد التي يمكن أن تسبب لها منغصات داخلية شديدة الوطأة. وفي الواقع، تايوان تمتلك حدودا مشتركة مع دول كثيرة يمكنها أن تدعمها في حال تم فرض حصار كامل عليها من جانب الصين، إضافة إلى وجود التكتلات الجديدة التي نشأت مؤخرا في جنوب وشرق آسيا. أي سيقوم الغرب بتعويضها عن أي خسائر أو خامات أو مواد غذائية ستحظرها الصين.
وهناك بعض الأرقام الدالة على إمكانية التفكير بهدوء في “التفوق الصيني”، وأيضا في قرارات الحرب والحصار والحظر. فحجم التبادل التجاري بين الصين وتايوان يصل إلى 330 مليار دولار. بينما على سبيل المثال، يصل حجم التبادل التجاري بين الصين وروسيا إلى 130 مليار دولار فقط. أي أن حجم التبادل التجاري بين الصين وتايوان أكبر من حجم التبادل التجاري بين الصين وروسيا بمرتين ونصف المرة. وهناك مثال آخر، يظهر أن حجم التبادل التجاري بين روسيا وتركيا وصل إلى 14 مليار دولار. أي أن حجم التبادل التجاري بين الصين وتايوان يساوي حوالي 25 ضعف حجم التبادل التجاري بين روسيا وتركيا. كما أن حجم التبادل التجاري بين تايوان والكويت 5.2 مليار دولار. أي أن حجم التبادل التجاري بين تايوان والكويت أكبر من حجم التبادل التجاري بين روسيا من جهة وكل من مصر والسعودية والإمارات والكويت وقطر مجتمعة من جهة أخرى.
كل هذه الأمثلة قد تتعلق بالاقتصاد، ولكن إذا نظرنا إليها من زاوية “التفوق الصيني” عموما، أو التفوق الصيني التكنولوجي، فإننا سنجد أن هذا التفوق مشروط، ومرتبط بعدة مسارات مؤثرة للغاية. بمعنى أن التفوق هنا يعود لشبكة من التعاملات والمصادر التقنية والعلمية الخاضعة ليس للصين، بل للولايات المتحدة وأوروبا الغربية بالأساس، ولشبكة أصغر من الدول التي وظفتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتكون لمثابة عوامل الضخ التقني الوسطى. وكانت الصين لفترة طويلة، وربما لا تزال، ضمن هذه الشبكة الأصغر.
ملاحظات حول التجربة الصينية
إن الترويج المبالغ فيه للنموذج الصيني إعلاميا، بل وفكريا، يتزامن مع تحولات جيوسياسية وجيوأمنية في السنوات العشر الأخيرة. وزادت حدتها مع ظهور وباء كورونا، حيث تعالت موجة سقوط الغرب وانهيار مؤسساته وقيم الحرية والديمقراطية ومنظومات التأمينات الاجتماعية فيه، مقابل نجاح مؤسسات كوبا وموريتانيا ومصر والصين وروسيا وسوريا في وقف الوباء، ونجاعة منظوماتها “السياسية” والأمنية والتزامها بالعادات والتقاليد. وبعد عدة أشهر من هذه الحملات الدعائية، اتضح الفارق بين مؤسسات المعسكرين. لكن في حقيقة الأمر، فالاختراق الصيني بدأ ربما منذ مطلع القرن العشرين للدول العربية والأفريقية. وتزايد في عام 2006 عندما انعقدت في بكين القمة الصينية- الأفريقية الأولى بمشاركة حوالي 10 من دول الجامعة العربية. وتم الإعلان عن شراكة استراتيجية واقتصادية، تبعها إنشاء أحياء ومناطق صينية كاملة في العديد من المدن الأفريقية، حيث المشهد وكأنه شكل من أشكال المشاريع الاستيطانية “الهادئة”. وكل ذلك كان تحت غطاء الاستثمارات الصينية. وظهرت مجتمعات صينية ضخمة لها صحفها ونمط حياتها في العديد من الدول الأفريقية.
لقد بدأت الصين تجربتها التحديثية قبل 200 عام تقريبا، في ثلاثينيات القرن التاسع عشر. وبحلول عشرينيات القرن العشرين حققت نتائج معقولة. لكن التجربة انهارت في ظل الفوضى التي صاحبت انهيار الإمبراطورية الصينية، وظلت الأمور تتدهور حتى قيام ثورة 1948. والمثير هناك أن الصين تواجه اليوم نفس الإشكالية التي واجهتها قبل قرن، أي عندما كانت تحصد النتائج الجيدة لعمليات التحديث. هذه الإشكالية هي “مصاعب التوفيق بين تنمية اقتصادية سريعة وفعالة، والحفاظ على التماسك الاجتماعي والسلم الأهلي”.
وفي مقال للدكتور السيد ولد أباه (جريدة الاتحاد- أكتوبر 2009)، رأى أن “الإمبراطورية الصينية حافظت تاريخياً على الأمن الداخلي والتماسك الاجتماعي من خلال آليتين متمايزتين هما: التركيبة البيروقراطية المنظمة والتراتبية المرتبطة مباشرة بالحكم الإمبراطوري، وقدرة الثقافة الكونفوشيوسية على توحيد وربط المكونات الجزئية التي ينقسم إليها المجتمع”. كما رأى أيضا أن “الحزب الشيوعي الصيني الذي لا يزال يرفع الشعار الماركسي (دون مضامين فعلية) يضطلع بدور السلطة الإمبراطورية المطلقة، في الوقت الذي شجعت القيادات الإصلاحية ما بعد المرحلة الماوية الرجوع للتقاليد الكونفوشيوسية القائمة على مبادئ الطاعة المطلقة والنظام الصارم، مع تشجيع نزعة قومية استعلائية تستند إلى التراث المحلي الغني وإلى عقود مذهلة من النمو خلقت أغنى طبقة رأسمالية في العصر الراهن”.
أما الملاحظة المهمة الأخرى للسيد ولد أباه، فتدور حول أن “الصين حققت دون شك طموحها للحاق بالغرب، الذي شكل أفق النخب التحديثية منذ القرن التاسع عشر. ولا يبدو أنها مهددة بسيناريو التفكك السوفييتي، نتيجة لغياب التركة التنويرية المشتركة مع الثقافة الأوروبية (انعدام معايير الذاتية الفردية ومفاهيم الحرية والتميز المرتبطة بها). ولهذا السبب ذاته، فإن هذا النموذج القائم على السلطوية المطلقة والجماعية القامعة للإرادة والتحرر غير قابل للتصدير وغير مغر للاستنبات والتجريب”.
هذه الرؤية المهمة والاسترشادية تقودنا إلى الحديث أيضا، وبنفس المنطق، عن التجربة البوتينية المليئة بالمنعطفات والتعقيدات، وبالخصوصية الروسية التي لا تسمح لها بالتكرار، نظرا لاعتمادها على أدوات مثل تصدير المواد الخام (النفط والغاز)، واعتمادها على تراث طويل من القمع والاستبداد وصياغة أنماط محافظة للعادات والتقاليد، وجملة أخرى من المحددات والمعايير الجيوسياسية والعسكرية. لكن المشترك بين روسيا والصين، هو أنهما من إمبراطوريات الأطراف التي تسعى بالدرجة الأولى إلى الدفاع عن نفسيهما بالتقوقع وفقا لنظرية “القنفذ” أثناء الدفاع، أو السيطرة على الدول المحيطة والملاصقة لتحويلها إلى مناطق عازلة بينها وبين الغرب في حالة الانفراج. وفي الحقيقة، فالنموذجان، غير قابلين للتصدير، وخاصة إلى دول المنطقة العربية التي يجب أن تبحث عن مساراتها، انطلاقا من مصيرها وفق جغرافيتها السياسية، وعلاقاتها التاريخية على الأقل في القرنين الأخيرين، ووفقا للتطور الحضاري القائم على المنجز العلمي- التقني، وانطلاقا من مصالحها الحيوية المستقبلية قبل كل شيء.