لابد وأن تشكل متغيرات القوة في أفريقيا أحد أهم الشواغل المصرية في الفترة الراهنة. ذلك أن الإدارة المصرية الحالية قد انتبهت إلى أهمية المحيط الأفريقي لمصر من زاويتين: الأولى، كمصدر تهديدات للأمن القومي المصري على الصعيدين الأمني والمائي، والثانية، كفرص لدعم الوزن الإقليمي المصري بما يمثله ذلك من إمكانية دعم عناصر القوة الشاملة للدولة المصرية والمتضمنة إمكانية دعم الاقتصاد المصري عبر التعاون مع أفريقيا بشكل عام، ودول حوض النيل خصوصا.
وبطبيعة الحال، يشكل الصعود الإقليمي الإثيوبي متغيرا مهما ومؤثرا على مصر، وذلك نتيجة لثلاثة تطورات على المستويين المحلي والإٍقليمي والعالمي، ففي عام 1991 صعد ملس زيناوي إلى الحكم، والذي يصنف كأب لمشروع قومي إثيوبي، حيث أسس نظاما سياسيا هدفه الاستراتيجي محاولة حل معضلة التعدد العرقي والإثني والديني في إثيوبيا، وذلك تحت مظلة فيدرالية إثنية، تم الاعتماد على مشروع سد النهضة كآلية لحشد الدعم الداخلي لزيناوي في بيئة منقسمة، ومحاولة إيجاد رابطة قومية إثيوبية في بلد يفتقد حالة الاندماج الوطني.
وعلى الصعيد الإقليمي، فإن تصاعد التهديدات في بيئة البحر الأحمر وسعي إثيوبيا لبناء سلاح بحري إثيوبي رغم أنها دولة داخلية يشكل تهديدات إضافية لمصر وأمنها القومي، خصوصا وأن بناء جزء مقدر من سد النهضة، وتعطيل القدرات المصرية في منع إقامة هذا السد، استنادا إلى معطيات قانونية وبيئية ومهددات للأمن الإنساني لدولتي المصب يعد مؤشرا على تغيير في موازين القوى في بيئة حوض النيل، خصوصا بعد نجاح إثيوبيا في توحيد غالبية دول منابع النهر، وتحييد السودان مرحليا كدولة مصب، وذلك بفك تحالفها التاريخي مع مصر فيما يتعلق بمسألة الإخطار المسبق لإقامة السدود على نهر النيل.
وفي هذا السياق، نشطت الدبلوماسية المصرية بكافة آلياتها لمواجهة هذا الموقف، عبر استراتيجيات جديدة ومنها محاولة إعادة التموضع العسكري في منطقة شرق أفريقيا، وتنشيط أدوات التعاون الاقتصادي مع أفريقيا عموما وإقليمي شرق أفريقيا وحوض النيل خصوصا.
- إعادة التموضع العسكري:
أقدمت القاهرة على إنشاء الأسطول الجنوبي المصري في قاعدة سفاجا البحرية عام 2017، وذلك بقيادة مستقلة لضمان الفاعلية، حيث يشارك الأسطول الجنوبي في المناورات البحرية، مع الدول الأخرى، وهي على سبيل المثال لا الحصر المشاركة في مناورات الموج الأحمر مع المملكة العربية السعودية، وتحية النسر مع الولايات المتحدة وبعض دول الخليج، فضلا عن مناورات نسور النيل وحماة النيل مع السودان خلال عام 2021.
كما أقدمت القاهرة أيضا على التمركز العسكري بأربع سفن حربية في إحدى جزر باب المندب حماية لتدفق حركة التجارة المرتبطة مباشرة بقناة السويس، وقاعدة بحرية في منطقة حلايب فضلا عن رفع مستوى القدرات البحرية المصرية بسفن المينسترال، والفرقاطات البحرية.
في هذا السياق تسعى مصر لتغيير موازين القوى لصالحها ولو نسبيا عبر عدد من الآليات، ومن ذلك إعادة التموضع الإقليمي، ربما يكون أكثرها كثافة حاليا، لاسيما مع دولة السودان الشمالي، حيث تم خلال الشهور القليلة الماضية التفاعل لدعم الخرطوم لوجستيا في مجالات البنية التحتية والنقل والصحة، كما تم عقد اتفاقات عسكرية ذات أبعاد استراتيجية، خصوصا في مجالات حماية الحدود المشتركة، وكذلك تم دعم سلاح المهندسين السوداني لضمان سيطرته على كامل ترابه الوطني مع فيضان نهر القاش الفاصل بين الحدود السودانية الإثيوبية.
في السياق العسكري أيضا هناك تحركات لعقد اتفاقات عسكرية مع كل من كينيا وأوغندا وبروندي، بينما لم تنجح حتى الآن مع كل من جنوب السودان وأرض الصومال والتي يتمتع فيها الخليج بنفوذ مرئي، بينما تعود ممانعات جمهورية الصومال لتأِثير مباشر من تركيا التي تملك قاعدة عسكرية هناك.
- الدبلوماسية الرئاسية
نشطت الدبلوماسية الرئاسية المصرية في السياق الأفريقي اعتبارا من عام 2014 بما لا يقارن بالفترة السابقة عليها، حيث أصبح حضور القمم الأفريقية تقليدا سنويا ضمن لمصر تأثيرا سياسيا في نادي الرؤساء الأفارقة، وذلك فضلا عن زيارات الرئيس السيسي لكل أنحاء أفريقيا شرقا وغربا، وربما يكون من أهمها في منطقة شرق أفريقيا زيارة إلى دولة جيبوتي حيث كان أول رئيس مصري يزورها، وهي الدولة المستقلة منذ نهاية السبعينيات وتملك موقعا جيبولتيكيا مؤثرا وذلك بإطلالتها على خليج عدن، ومناطق وجزر باب المندب وهو ما يجعل لها أهمية استراتيجية مرتبطة بأمن البحر الأحمر وأمن قناة السويس معا، وذلك في ضوء سعي إثيوبي لبناء سلاح بحري لها بالبحر الأحمر، كما تملك جيبوتي علاقات متميزة مع إثيوبيا قائمة على خط سكة حديد أنشأته الصين بين البلدين، تقوم فيه أديس أبابا في مفارقة لافتة بتلبية الاحتياجات الغذائية لجيبوتي رغم أن الأولى دولة حبيسة والثانية دولة ساحلية، كما يقوم هذا القطار بدور هو بمثابة الجسر الإثيوبي للبحر الأحمر.
وعلى صعيد مواز فإن العلاقات المصرية بكل من تنزانيا وروندا تشهد تقدما كبيرا مؤسسا على مداخل تنموية.
- آليات التعاون الاقتصادي والتنموي
وقد كانت مداخل الدبلوماسية الرئاسية بالأساس لدول حوض النيل وشرق أفريقيا هي مداخل اقتصادية وتنموية، فعلى الصعيد الاقتصادي اهتمت مصر بتدشين البنى التحتية الاقتصادية اللازمة لتنمية دول شرق أفريقيا، ومن ذلك بناء سد سترنجر جورج في تنزاينا، وكذلك لتهيئة البيئة المناسبة لوجود رجال أعمال مصريين في أفريقيا، ودعمهم بما يجعل العلاقات التعاونية الأفريقية الأفريقية ممكنة انطلاقا من المنصة المصرية. وفي هذا السياق أنشأت مصر صندوق مخاطر الاستثمار في أفريقيا، وذلك تحسبا منها لتوقف مشروعات أو تحقيق خسارات نتيجة ظروف سياسية اشتهرت بها القارة كالنزاعات المسلحة أو حالات عدم الاستقرار السياسي الطارئة.
اقرأ أيضًا: الإمارات وسد النهضة.. من الحياد اللفظي إلى الدعم الفعلي لإثيوبيا
ولعل من الخطوات الإيجابية في مضمار الأعمال المصرية في أفريقيا إنجاز إجراءات استحواذ بنكي، أو فتح فروع ومكاتب تمثيل للبنوك المصرية في القارة، فبعض البنوك المصرية تسعي حاليا لتعزيز تواجدها في السوق المصرفية الأفريقية عبر الاستحواذ على بنوك قائمة في دول شرق أفريقيا، وذلك عبر دعم مباشر من البنك الأفريقي للاستيراد والتصدير «أفريكسيم بنك» الذي سوف يقوم بتمويل عمليات استحواذ مصرية على حصص حاكمة من مصارف تتواجد داخل السوق الأفريقية أبرزها في دول مدغشقر، جزر القمر، الكونغو ديمقراطية، أوغندا.
يلعب مسار الاستحواذ الجزئي أو الكلي من جانب بنوك مصرية، لبنوك أفريقية دورا في دفع قطاع الأعمال المصري الخاص للتوسع في استثماراته بأفريقيا، ذلك أن بنك القاهرة وهو البنك المنتمي لقطاع الأعمال التابع للحكومة المصرية، كان قد استحوذ خلال 2020 أيضا على 100% من أسهم بنك القاهرة أوغندا، حيث يعتزم البنك ضخ 3.7 مليون دولار في رأسمال البنك على مدار عامين.
وربما يكون للبنك الأهلي المصري قصب السبق داخل السوق الأفريقية، حيث كان الأول فيما يتعلق بعمليات فتح مكاتب تمثيل في كل من إثيوبيا وجنوب أفريقيا، بالإضافة إلى بنك تابع له في السودان تم تدشينه عام ٢٠١٢.
وقد شهدت سنوات ما قبل ثورة 25 يناير 2011، محاولات مكثفة من البنوك المصرية للتواجد بقوة داخل السوق الأفريقية وخاصة دول حوض النيل، والتي أسفرت عن تدشين شركة النيل للاستثمار في أفريقيا بمساهمة بنوك حكومية تضم الأهلي المصري والقاهرة ومصر، بالإضافة إلى تدشين مكتب تمثيل للبنك الأهلي المصري في إثيوبيا.
ولعل ما يفسر اهتمام البنك التجاري الدولي بكينيا في عمليات الاستحواذ البنكي، هو أن كينيا تحوز على اهتمام مصري عام كبير في كل مجلات الأعمال، حيث إنها الدولة الأكبر في مجموعة دول شرق أفريقيا، وتعتبر مدخلا رئيسيا لتجارة دول الإقليم من خلال ميناء مومباسا، خصوصا الدول الحبيسة مثل أوغندا وبوروندي ورواندا وجنوب السودان والكونغو الديمقراطية.
وعلى الصعيد التجاري، تحتل كينيا المركز الأول ضمن دول القارة الأفريقية، وتجمع الكوميسا المستوردة للسلع والمنتجات المصرية. حيث عمقت مصر خلال الفترة الأخيرة تواجدها في السوق الكيني من خلال إنشاء جمعية المصدرين المصريين (إكسبولينك).
وربما تكون أوغندا من أكثر الدول التي تملك تقاربا مع مصر فقد زارها الرئيس السيسي في ختام 2016، حيث حاول الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني أن يكون جسرا ما بين مصر ودول حوض النيل في مبادرات متعددة متعلقة باتفاقية عنتيبي المختلف عليها بين دول الحوض وتستخدمها إثيوبيا ضد مصر، وفي هذا السياق تركز وزارة الري المصرية على التعاون مع أوغندا ومن ذلك إنشاء مرسى نهري بمقاطعة كامونجا الأوغندية، بالإضافة إلى مشروع درء مخاطر الفيضان بمقاطعة كسيسي بمقاطعة روينزورى بغرب أوغندا والجاري تنفيذ المرحلة الثانية منه.
وفي مجال مواجهة التغيرات المناخية، قامت مصر بنقل خبراتها التكنولوجية للتعامل مع الحشائش واستخدامها كبديل لقطع الأشجار في توليد طاقة نظيفة من خلال توزيع 17) وحدة غاز حيوي (بيوجاز) للاستخدامات المنزلية، مما سيسهم في الحد من انتشار الأوبئة وتحسين الصحة العامة للمواطنين وحماية البيئة، هذا إلى جانب الانتهاء من المرحلة الثانية التي بدأت في أكتوبر 2020 من مشروع “إدارة الحشائش المائية بالمواقع الضحلة ببحيرتي كيوجا وألبرت”.
وفي مجال مواجهة الفجوة الغذائية سيتم استغلال تلك الحشائش في إنتاج السماد العضوي لزيادة إنتاجية التربة الزراعية، هذا إلى جانب إنشاء ثلاث مزارع سمكية في مقاطعات (واكسيو – جولو – سيرونوكو)، ومرسيين نهريين في مقاطعات (كاليرو – أمولاتار)، وهو ما سينعكس بالضرورة على سد جزء من الفجوة الغذائية وتشغيل الأيدي العاملة.
واستكمالًا للدور المصري في التعرف على التحديات التي تواجه دول الحوض والعمل على مواجهتها، قامت مصر بإنشاء 7 سدود لحصاد مياه الأمطار بدولة أوغندا في مقاطعات (كيبوجا – واكسيو – سيرونوكو – أدجومانى) وافتتاح أحد السدود في مدينة لياتوندي، وحفر 75 بئرًا جوفيًا في إطار مبادرة إنشاء بئر مياه نظيفة للمناطق لتوفير المياه النظيفة الآمنة والمستدامة وخاصةً في فترات الجفاف.
هذه الآليات المصرية في مجالات الري والتعليم والصحة تتفاعل بها مصر مع دولة جنوب السودان فضلا عن محاولات دعم جوبا للحفاظ على استقراها في ضوء الصراع الداخلي بين الأطراف المتصارعة في جنوب السودان.
ما هي التحديات التي تواجهها مصر؟
على الصعيد الخارجي، فإن هشاشة دول حوض النيل وشرق أفريقيا وضعف مؤسسة الدولة فيها فضلا عن تأثيرات تنظيمات الشباب في المرحلة الراهنة خصوصا في الصومال يجعل تحالفات هذه الدول الإقليمية تحالفات غير مستقرة ومرتبطة بأمن نظم الحكم فيها أكثر ما هي مرتبطة بمتطلبات السلم والأمن الإقليمي أو الاستقرار الداخلي، وهو أمر يجعل إثيوبيا فاعلة بقوة بين هذه الدول لعدد من الأسباب، في مقدمتها طبيعة الدعم الدولي الذي يقدم لها لبسط نفوذها الإقليمي في دول الجوار المتداخلة قوميا مع إثيوبيا أصلا مثل إرتيريا عبر التيجراي، والصومال عبر العفر، وإقليم الأوجادين الصومالي، وكذلك كون إثيوبيا هي دولة المقر للاتحاد الأفريقي بما يجعل دورها فاعلا تجاه الدول الأفريقية إزاء مصر في أزمة سد النهضة، خصوصا فيما يتعلق بطبيعة حركة وقرارات الاتحاد الأفريقي في هذا الملف، أما التحدي الثالث فهو وحدة دول جنوب الصحراء على المستوى العرقي، وهو ما يجعل التعاطف مع إثيوبيا فاعلا على أسس لونية وثقافية خصوصا مع طبيعة التراث العربي السلبي في أفريقيا المرتبط بتجارة العبيد وهو أمر يوظفه كل من الغرب وإسرائيل ضد مصر والعرب معا.
وربما يكون من المقولات المتفق عليها في الأدبيات السياسية أنه لا دور خارجيا ناجحا ومؤثرا لأي بلد دون آليات داخلية تكون رافعة لهذا الدور وداعمة له، في هذا الإطار فإن أهم التحديات التي تواجهها مصر حاليا في تعظيم تأثيرها في منطقتي شرق أفريقيا وحوض النيل هي استخدام القوة الصلبة للدولة، والآليات الحكومية التنفيذية دون الاعتماد على القوة الناعمة، وهو ما جعل إثيوبيا أكثر تأثيرا في المنصات العالمية والأفريقية، حيث تستخدم قدرات قوتها الناعمة بمنتهى الفاعلية، وهو ما جعل الخطاب المصري بشأن التأثير السلبي لسد النهضة يدور في كواليس العلاقات الدبلوماسية الرسمية فقط، بعيدا عن مجال الرأي العام العالمي المتعاطف مع إثيوبيا.
أما التحدي الداخلي الثاني فهو تفعيل أدوات الدولة الداخلية المتعاملة مع أفريقيا في إطار منسق لتنفيذ الاستراتيجيات المصرية والقفز على التحديات التي تواجهها وهو الأمر الذي تقاومه البيروقراطية المصرية منذ عدة سنوات، حيث ترفض إيجاد جسم تنسيق داخلي للمجهود المصري إزاء أفريقيا وتكتفي أن يكون ذلك من خلال إحدى الوزارات بمعزل عن آليات المتابعة والتقييم.
في هذا السياق يغيب الدور الثقافي المصري في التفاعل مع أفريقيا رغم توافر أدواته، ويعاني الإعلام المصري من عدم قدرة على التواجد على الأراضي الإثيوبية بسبب مشاكل تمويلية، كما يؤثر على الصورة النمطية المصرية في الذهنية الأفريقية خصوصا في القطاعات الشبابية بسبب حالة الحريات العامة في مصر، خصوصا ما يتعلق بحرية الصحافة، وطبيعة الأفق السياسي الذي تتحرك تحت مظلته الأحزاب السياسية المصرية، وهو ما يجعل الحوار الوطني المصري يملك أسبابا إضافية لدعمه وإنجاحه.