الصدام بين الأغلبية الملتزمة بقيم المجتمع السائدة، والأقلية الثائرة على تلك المفاهيم والطامحة لكسرها، هو صراع إنساني يمتد عبر العصور والبلدان.

قد تتباين نقاط الخلاف وفقا لمنطق الثقافات المتعددة، لكن يظل الجوهر واحد.  فالأمر لا يعدو كونه صدام بين الاستقرار والتمرد.

أحد أبرز وجوه ذلك الصدام، هو الصراع الجغرافي على خلق مساحات آمنة للبعض ومحاولات يائسة للحفاظ عليها.

فيحدث أن تقرر حزمة من الأقلية المتمردة على قيم المجتمع، أن تبحث عن أماكن منعزلة، تمارس فيها حياتها بالشكل غير المرحب به مجتمعيا، والمدان أخلاقيا من الأغلبية المحافظة.

ومع الوقت تكتسب تلك البقعة شهرة ما، يزيد بريقها روح الانطلاق المحلقة بالمكان، وسرعان ما تلفت تلك النقاط نظر الأغلبية المحافظة، وتجذبهم بجموحها، فيبدأون في التوافد عليها، ليقابلوا برفض مبرر من قاطنيها.

لكن في النهاية -وكما هو منطقي ومتوقع- تنتصر الأغلبية، ويفقد المكان روحه التي جذبت الوافدين الجدد له بالأساس. وهو ما يصفه “سيدل شويلز” الباحث في المعهد الألماني للشؤون الحضرية بالـ Gentrificationبمعني من المعاني، مضيفا أن ذلك الأمر لا يمكن تصنيفه بالجيد أو السيء، ولكنه لا يعدو كونه عملية إحلال، مآلها استبدال المقيمين في الحي بآخرين، وهو ما ينجم عنه فقدان الحي لهويته القديمة وتحوله لخليط بين عالمين.

هذا الصراع ليس حكرا على بلد دون أخرى، الشكل فقط هو ما يختلف، وإن ظل جوهر الصدام واحد.

في شمال شرق برلين يقع حي “برينزلوير بيرغ” وهو حي فقير بالأساس، قصده الفنانون والطلاب والشعراء والمثليون في ألمانيا الشرقية، نظرا لانخفاض تكلفة المعيشة فيه، فضلا عن كونه معزولا إلى حد ما عن باقي المدينة، وهو ما سمح لهم بالانطلاق في الحياة لحد الجموح.

ومع انتشار هؤلاء المدانين اجتماعيا، المختلفين ثقافيا مع القطاع الأوسع من المجتمع، تحولت برينزلوير بيرغ إلى قبلة الرافضين، وواحة للتحرر والتمرد.

فانتشرت مقاهي المثليين، وكثرت الجاليريهات وازدهر مسرح الشارع وفنونه، تقاطع ذلك مع تحرر باد من قيم المجتمع وأخلاقه بشكل لا تخطئه عين.

جذبت “برينزلوير بيرغ” بجنونها كثيرا من أبناء الأثرياء، ومن انتابهم الملل من عيشتهم الرغدة، والباحثين عن تجارب وقتية جديدة، فتوافدوا عليها.

ومع قدوم الرأسمالي المدجج بماله، ظهرت مظاهر الراحة والثراء، فانتشرت المطاعم الفاخرة، ومحلات البرندات، وأزيلت منازل قديمة وشيدت عوضا عنها أبنية فاخرة أكثر “شياكة”، وصاحب ذلك بالطبع ارتفاع في الأسعار، حتى باتت المنطقة أعلى من متناول قاطنيها القدامى، الذين اضطروا لهجرتها إلى حي “فريدريشاين” المجاور، آملين ألا تأتي الرأسمالية مرة أخرى لتبتلع فقاعتهم الجديدة.

نظريا، نحن إزاء عملية تطوير وتحسين للمنطقة، وعمليا نحن أمام عملية اجتياح أفقدت الحي روحه المميزة -التي جذبت الأثرياء بالأساس- وحولته بفعل وجودهم إلى منطقة عادية مثل باقي مناطق برلين التي سئموها.

في مصر يحدث الأمر ذاته لكن بنكهة مصرية، حيث لا تهتم الجموع كثيرا بصراع الرأسمالية والنيوليبرالية، بقدر ما تحدث المواجهات هنا على خلفية ثقافية/ دينية.

وما صار في “برينزلوير بيرغ” يمكن مقارنة بما يحدث في “دهب” وإن اختلفت الأيديولوجيات وتباينت الأسباب.

لسنوات عدة كانت مدينة “دهب” المطلة على البحر الأحمر مساحة آمنة لطالبي التحرر والناقمين على الأفكار المحافظة، والسلطة الأبوية.

هناك وجد الشباب المتمرد ضالتهم، حيث يستطيعون العيش على النمط الذي اختاروه لأنفسهم، دون وصاية أخلاقية من أحد، ودون أن يواجهوا بألف سؤال، وألف نظرة اتهام. فقط لانتهاجهم نهج مغاير.

جنتهم المتخيلة اكتسبت شهرة تجاوزت حدودها، وأضافت إليها الأفلام السينمائية التي صورت بها وعنها، شهرة على شهرتها، جعلت أنظار الغالبية المحافظة تتجه إليها.

في البدء تم ذلك بشكل فردي، ثم توسع الأمر عبر رحلات نظمتها الشركات السياحية للمصريين العاملين بالقطاعات المختلفة.

وبدأ ظهور الحجاب الشرعي على شواطئ “دهب” وبدأت القيم الأخلاقية المجتمعية تكتسب مساحات أوسع، هنا بدأ الصراع يطفو على السطح بين القديم والجديد، أو لنقل بين “المحترم والمنحل” وفقا للتقييمات الشعبية، وساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في إبراز الصدام وتجسيده.

بالطبع اكتسب الصراع صبغة درامية عربية مختلفة في الشكل عن الصراع الحادث في “برينزلوير بيرغ”.

فهنا تسلحت الأغلبية بخطاب الدين، وصبغ الخلاف الثقافي بالأساس بصبغة دينية، واعتبر الرافض لحضور الوافدين الجديد هو علماني أو كاره للإسلام وقيمه، ويحتقر الحجاب والزي الشرعي.

وكما هو متوقع ومنطقي، انتصرت الأغلبية، ولم يعد المتحررون من القيود الاجتماعية آمنين في فقاعتهم المنعزلة.

وزاد الطين بلة أن ظهور المحافظين كان من الطبيعي أن يصاحبه تغيير بوصلة الأمن، وبدأت التضييقات تظهر على الإقامة بكامبات المدينة، وطفا على السطح سؤال: تقرب لك إيه دي؟

وفي النهاية فقدت دهب ميزتها النوعية ولم تعد دهب هي دهب على حد تعبير أحد زبائنها القدامى.

السؤال: هل يمكن إدانة الأثرياء على اختيار الإقامة في “برينزلوير بيرغ” أو المحافظين على الذهاب إلى دهب؟ هل من حق قاطني تلك الأماكن منع الوافدين الجدد؟

الإجابة: بالقطع لا ليس من حقهم هذا، فبالأخير الجميع مواطنون وتلك بقعة من بقاع الوطن من حق أي مواطن الذهاب إليها والتملك فيها.

لكن المفارقة هنا، أن الصورة في تلك المناطق سواء الألمانية أو المصرية، بدت براقة للوافدين الجدد لأنهم ليسوا فيها، واللحظة التي سوف يتموضعون فيها داخل الصورة، هي نفس اللحظة التي ستتحول المنطقة فيها إلى منطقة عادية من مناطقهم المعتادة التي سئموا منها ومن رتابتها.

لذلك يقول أحدهم: ابعد.. الصورة تفضل حلوة.