“كيف أكتب إذن.. وأنت الصديق الذي اختار الرحيل في منتصف الجملة.. الموسيقية؟ وعن أي جزء أكتب: عن نصف الجملة الذي قلته.. أو النصف الآخر الذي كنت تريد أن تقوله؟” كانت تلك الفقرة هى ختام مقال صاحبنا الذي كتبه بمجلة أكتوبر في 24 أكتوبر 1993 عن عبقرى الموسيقى “بليغ حمدي” الذي غادرنا في ذلك الوقت على جناح سحابةٍ صوب النور. تجاسرتُ فسمحت لنفسى أن أستعير عنوانه “الرحيل في منتصف جملة موسيقية” لأضعه بلا استئذانٍ -أتمنى أن يغفره لي- عنوانًا لهذا المقال مع تبديلٍ في كلمتين منه فقط يتناسبان مع حكايته معنا. روى صاحبنا في مقالهِ عن “البليغ”، أنهما كانا يعملان معًا في مسلسل إذاعيٍ بعنوان “أرجوك، لا تفهمني بسرعة” من تأليفه حيث كان يُذاعُ في أكتوبر 1973 بعد الإفطار، وقد كان عبد الحليم حافظ يشارك فيه بالأداء التمثيلي وبأغانٍ من ألحان محمد الموجي ومنير مراد وبليغ حمدي.

اقرأ أيضا.. السَلَفية الاقتصادية والحوار الوطني

أتذكر هذا المسلسل جيدًا وقد كنت على أعتاب الثانية عشر، وهو عُمرٌ تكون فيه الذاكرة عفية تحتفظ بالأشياء في ثناياها طازجةً لا تنمحى وإن خَفُتَ بريقها. أثناء تسجيل الحلقات، وفي يوم السادس من أكتوبر، اختفى “البليغ” ليظهر بعد ساعتين في الاستوديو المُقابل بمبنى الإذاعة لتسجيل “باسم الله” التي كتبها كلماتها عبد الرحيم منصور لتُذاع في اليوم التالي للعبور (نعم كتبها “المنصور” ولحنها “البليغ” في ستِ ساعاتٍ كالحدث العظيم)، ليغيب ثانية ثم يظهر بعد يومين بنفس الاستوديو لتسجيل “على الربابة”، تلك الأغنية التي لا أستطيع السيطرة على دموع عيني -حتى الآن وقد بَلغتُ من الكِبَرِ عِتيَّا- كلما أتانى صوت “وردة”: “وإيه أكون جنب عشاقِك”. يقول صاحبنا عن صديقه “البليغ”: “إن أحدًا لم يطلب من بليغ أي شيء.. ولا كلفه أحد بأي شيء. يكفيه أن محبوبته هذه -مصر- قد سمعته يشدو لها في لحظة انتكاستها، ويؤمن بقوتها في لحظة ضعفها، وينفخ في روحها في لحظة تمزقها”.

بليغ حمدي

لم أحظَ يومًا بشرف الانتماء الرسمي لصحافيي مصر، فظل ذاك الانتماء حُلمًا طالما رَاوَدَني فَرَاودتُه، لأجد عزائي في الاقتراب على استحياءٍ من أصحابِ الامتياز صديقًا للبعض منهم وتلميذًا لهم جميعًا أغبِطهم وأنهل من فضلهم قدر ما تيسر إلى أن يسترد الله أمانته.

كان صاحبنا واحدا من هؤلاء، وإن لم يسعدني قَدَري بمعرفته شخصيًا. كنت أتابعُ كتاباته كالملهوف المُلتاع شوقًا -وبالأخص في غُربتي التي طالت عن هذه الأرض- كما كنت أفعل مع باقي النجوم الزاهرة، لكنه كان يحظى بمكانٍ مختلف في عقلي والوجدان.

الشاعر عبدالرحيم منصور

كان لكتاباته مذاقٌ خاص جدًا تستطيع أن تُمَيزه بدءًا من صياغة عنوان المقال الذي كان في ذاته وَهَجٌ أخاذ مُسيطر يخطف بصرك ما إن تقع عليه عيناك ليسيطر عليك فلا تستطيع فِكاكًا إلا وقد أتممت القراءة حتى آخر الكلمات. وأحسب أن صاحبنا كان يبذل من الجهد الكبير ما ينبغى لإبداع عنوانٍ مُعَبِرٍ بلا تعالٍ، ومُبهِرٍ ذي بريق خاص لا يصنعه سواه، وكيف لا وعنوان المقال هو بابه الذي تقف أمامه مُحتارًا -أو فلنقُل مُختارًا- تَطْرُقه للدخول أو تَنصَرِف عنه غير آسف. “رجل بأثر رجعي، الأيديولوجيا بين من لا قلب لهم ومن لا عقل فيهم، جلالة الملك معاوية، أرز وحب وحقوق إنسان، رجل يخترع المستقبل، عيال اللغة الرابعة، أولها فلفل، لبنان بالزيتون والرصاص والجبنة، شيك يأخذ العقل، موسيقى عذبة للنصب على نغماتها، سندريللا بالمقلوب، للحزن صباح آخر، الرحيل في منتصف جملة موسيقية”.. كانت تلك بعضا من عناوين مقالات لصاحبنا، أما عن الكتب والدراسات فحدث ولا حرج، ستجد “ممنوع من التداول، الحرب الرابعة، متمردون لوجه الله، وعليكم السلام، أفكار ضد الرصاص، مصري بمليون دولار، أم كلثوم التي لا يعرفها أحد، محمد عبد الوهاب الذي لا يعرفه أحد، اليوم السابع-الحرب المستحيلة حرب الاستنزاف، بالعربي الجريح”، بخلاف “أرجوك لا تفهمني بسرعة، وشيء يشبه الحب” في الرواية والقصة. كان صاحبنا نجيبًا مُبدِعًا في صياغة العنوان كصانعِ أربيسكٍ ماهرٍ، فما بالك بالكتابة ذاتها وقد كانت تعبيرًا عن مواقف دفع ثمنها راضيًا. ساحرةٌ عميقةٌ بسيطةٌ شديدة التركيز وبالغةُ العمق كانت كتاباته التي تنوعت مجالاتها شامِلةً السياسة والاقتصاد والحرب والحب والمجتمع والتاريخ والجغرافيا والفن والرياضة. كانت الكلمة لديه هي محض اختيار بحسابِ ميزانٍ دقيقٍ بين الخشن والناعم، بين الرصاصة والوردة، بين قطرة الدم وحبة القمح، وكان هو المُجيد الذي ينتقيها لتصيب موضعها مباشرةً في الزمن اللائق دون إسهابٍ مُمِل ولا إيجازٍ مُخِل.

“يندهش المرء كثيرًا، فالكاتب لا يساوي شيئًا إن لم يندهش. كيف يطاوعه القلم في كتابة مقال منتظم ليتم نشره في موعد محدد سلفًا، ثم يعصيه القلم تمامًا في الكتابة عن حدث مفاجئ يهز النفس هزًا.”، هكذا تحدث مؤسس جائزة الصحافة المصرية “محمود عوض” الذي غادرنا منذ ثلاثة عشر عامًا في ليلة ساخنة كالأمس، فاندهشوا يرحمكم الله.

*راجع الصفحة 35 من كتاب “من وجع القلب”- إصدار دار المعارف- 2007