“هل تتبع الحكومة سياسة واضحة لترشيد النفقات فعلا؟”. و”لماذا لا تظهر معالمها بوضوح في الأداء المالي لها؟”. و”ما العوائق التي تقف في طريق ضبط النفقات؟”. تبدو تلك الأسئلة ملحة في ظل تضارب ممارسات الحكومة في ملف الإنفاق العام وطبيعة مكوناته التي لا تعطي مساحة واسعة للتحرك.

تتعلق سياسة ترشيد النفقات العامة بتخفيض وضبط المصروفات وإحكام الرقابة عليها. فضلا عن الالتزام بالفعالية في تخصيص الموارد الاقتصادية والبشرية المتوفرة. ما يمثل الإدارة الرشيدة للإنفاق العام. بينما يقرنه البعض بتخصيص الموارد المحدودة في استخدامات أكثر إنتاجية. ما يحقق عوائد اقتصادية أكبر. وفي الوقت ذاته أهداف المجتمع. ما يعني التزاما بأمرين: الفعالية في تخصيص الموارد ممثلة في الإيرادات والكفاءة في استخدامها.

من هذا المنطلق يوجد اختلاف كبير بين الترشيد وسياسة صندوق النقد الدولي في التقشف. والتي ترتبط بالإجراءات التي يتم اتخاذها لتخفيض عجز الموازنة المالية للدولة عبر تخفيض الإنفاق الحكومي -خاصة الدعم والأجور. وزيادة الإيرادات عبر رفع حصيلة الضرائب.

وبحسب اقتصاديين فإن ترشيد الإنفاق يتماشى مع طبيعة الاقتصاد المصري. عكس التقشف في ظل حاجة الاقتصاد إلى مشروعات ضخمة كثيفة التشغيل لمواجهة البطالة.

حكومة مدبولي
صورة سابقة لحكومة مدبولي

الترشيد.. سياسة مستمرة

ترشيد الإنفاق سياسة مستمرة يجب أن تتبعها الحكومات دائًما لضمان وصول المبالغ المصروفة إلى أهدافها تماما. عكس التقشف الذي غالبا ما يتم في خضم أزمة اقتصادية وارتفاع بالديون. ويرتبط بتقليص الإنفاق بصرف النظر عن تأثيراته الاجتماعية.

في أكتوبر 2021 أعلنت الحكومة سياسة لترشيد الإنفاق العام في الموازنة العامة للدولة والهيئات العامة الاقتصادية. وتضمنت عدة آليات كان أبرزها حظر التعيينات الجديدة والترقيات.

وتم العمل بالقرار حتى 12 مايو/أيار الماضي. وشملت أحكام القرار جميع الأبواب والاستخدامات (تتضمن المصروفات) الواردة في الموازنة العامة للدولة. عدا الباب السادس -شراء الأصول غير المالية “الاستثمارات”- والاستخدامات المماثلة في موازنات الهيئات العامة الاقتصادية.

وحينما وضعت الحكومة مشروع الموازنة العامة تحدثت حينها عن توجه تقشفي لترشيد النفقات. لكن بنود الموازنة لم تعكس ذلك سوى في تقليل نسبة الزيادة في الاستخدامات عن العام السابق.

لكن عادت الحكومة بعدها وأعلنت عن سياسة ترشيدية لوقف الضغط على العملة الصعبة. وذلك بتأجيل أي مشروعات جديدة لم يتم البدء في تنفيذها وتحتاج إلى مكونات مستوردة. فضلا عن عدم إجراء أي تعاقدات أو تنفيذ مشروعات جديدة في نطاق المحافظات إلا بعد مراجعة وموافقة الوزارة المختصة -خاصة التنمية المحلية.

كما تم الحديث أيضًا عن تضييق سفر موظفي الدولة للخارج إلا للضرورة القصوى في مهام سفر تخص العمل. بالإضافة إلى إنهاء انتداب بعضهم ترشيدا للنفقات. بجانب وقف أي تعيينات إلا الصادرة بقرار حكومي.

لماذا لا توجد استراتيجية كاملة؟

رئيس الوزراء مصطفى مدبولي
رئيس الوزراء مصطفى مدبولي

عادت الحكومة للمرة الرابعة خلال عام واحد بخطة تتضمن محاولة الإنفاق المظهري. وتتضمن حظر شراء سيارات ركوب فارهة والتعاقد على وسائل النقل المنتج محليا والذي يعتمد على الغاز الطبيعي.

شملت الخطة تطبيق الشراء المركزي على جميع مرافق الدولة. وقصر التعاقد على الإنتاج المحلي إلا في حالة غيابه. لضمان عدم تجاوز الاعتمادات المدرجة في الموازنة المتعلقة بالشراء.

اتجهت الحكومة قبل أيام نحو الترشيد ذي العائد المزدوج. وذلك بإصدار تعليمات لترشيد استخدام الطاقة تتعلق بالكهرباء. بهدف توفير الغاز للتصدير والاستفادة من أسعاره عالميًا.

تضمنت الخطة الالتزام بالغلق التام للإنارة الداخلية والخارجية عقب انتهاء مواعيد العمل الرسمية. وتخفيض إنارة الشوارع والميادين العمومية والمحاور الرئيسية. والإضاءة القوية التي توجد على واجهات المحال. بجانب ترشيد الإنارة بالإعلانات المضاءة وبجميع دور العبادة.

لكن الأسبوعين الماضيين أظهرا أن الاستجابة أو التطبيق في المحافظات جاءت بعيدة عن المستهدف. فأعمدة الإنارة تظل مضاءة نهارا. وفروع إضاءة الزينة تملأ الطرق السريعة. بينما قامت بعض المحافظات بتخفيف الأحمال عن طريق التداول بين الأحياء في قطع التيار.

أعمال صيانة بأحد خطوط الكهرباء
أعمال صيانة بأحد خطوط الكهرباء

دولة مثل ألمانيا أعلنت خطة لترشيد الطاقة لكن على نطاق واسع. يتضمن علاوات للأسر التي تقلل بشكل كبير من استهلاك الغاز في الشتاء المقبل عبر مقارنة فواتير الغاز. بعد تنظيم حملة تواصل مع الجماهير لإقناعهم بالترشيد. وهو ما لم يتحقق في الحالة المصرية.

فرنسا انتهجت النهج ذاته لكن بشكل أوضح مع حظر الإعلانات المضيئة ليلًا. باستثناء محطات القطارات والمطارات. ومنع المتاجر من إبقاء الأبواب مفتوحة عند تشغيل مكيفات الهواء أو أجهزة التدفئة. لخفض فواتير الطاقة بنسبة 20%. كما حثت مواطنيها على عدم نسيان إطفاء الأنوار ضمن مخططاتها لتوفير استهلاك الطاقة.

عوائق أمام الترشيد

تواجه محاولات الحكومة للترشيد عائقًا في وجود مصروفات لا يمكن الترشيد فيها. كفوائد الديون التي تلتهم وحدها نحو ثلث مصروفات الموازنة بنسبة 33.3%. بجانب بنود الأجور التي لا يمكن المساس بها في ظل ارتفاع مستوى التضخم الذي يقل معه الراتب الحقيقي.

كما يواجه الجهاز الإداري -رغم تخمته بالموظفين- نقصا في قطاعات متخصصة لا يمكن سدها عبر التنقل من القطاعات ذات الفائض. ما دفع الموازنة الحالية لتخصيص 5 مليارات جنيه لتعيين 60 ألفًا من المعلمين والأطباء والصيادلة.

ورغم وجود القانون رقم 5 لسنة 2015 بشأن تفضيل المنتج المحلي في العقود الحكومية فإن هناك العديد من المؤسسات والهيئات التي تتعنت في تنفيذه لعدم ثقتها في المنتج المصري في بعض المجالات التقنية. علاوة على اعتماد المنتج المصري الكامل على التجميع أو سلع وسيطة مستوردة بالدولار. ما يعني أن الترشيد بالاعتماد على المنتج المحلي مرهون بحل مشكلات الاستيراد.

الدولار
الدولار

يقول الدكتور صلاح الدين فهمي -رئيس وحدة الأبحاث العلمية بالمركز الدولي للاستشارات الاقتصادية: “الترشيد لا يعني خفض الإنفاق. ولكن وضع النفقة في مكانها الصحيح أو الاستفادة منها في الحصول على أعلى عائد وأكبر منفعة”.

ويحذر “فهمي” من خطورة الخلط بين مفهوم ترشيد النفقات وتخفيضها. لأنه يخلق مشكلة أكبر أحيانا مثل الذي حدث في وقف تعيينات المدرسين والمعيدين في بعض الجامعات. ما سبب نقصًا في الكادر التعليمي ومشكلات لا يمكن حلها. حتى إن إحدى الكليات لديها 110 قاعات بحث لا تعرف كيفية استخدامها لعدم وجود معيدين.

ويضرب مثالا بالترشيد باستئجار شركة سيارات لتقديم خدمات لإحدى الوزارات. بدلاً من شراء سيارات خاصة باعتبارها تتضمن تخفيضًا لتكاليف التشغيل والوقود والتعيينات والصيانة والتهالك. بشرط أن يكون التعاقد جيدا. وهو أمر لا يعني في المقابل إنهاء حصول الموظفين على خدمة لنقلهم لمقر عملهم بحجة تقليل النفقات.

كيف ترشد النفقات؟

منذ سنوات يطالب خبراء بخطة لدمج الوزارات. فمصر تضم 32 وزارة. بينما تضم حكومة سويسرا 12 وزارة. و17 في أمريكا و22 في روسيا. ما يقلل تكاليف الانتقالات والسيارات الحكومية بجانب تقليل المستشارين الذين لا يوجد تقدير رسمي لعددهم.

النائب أيمن أبو العلا -عضو مجلس النواب- كشف خلال جلسة عامة لمجلس النواب في فبراير/شباط الماضي عن رصد 1.2 مليار جنيه دعاية ونشر مقابل 400 مليون في الحساب الختامي للعام المالي السابق. وكشف أيضا تخصيص 600 مليون جنيه سيارات فارهة. ما يعد إهدارا للمال العام.

في رمضان الماضي خصصت هيئات حكومية حملات إعلانية ليس لها مردود اقتصادي ولا ترتبط بفكرة عملها أو الترويج لمنتج جديد أو  شبكة الفروع والخدمات. من بينها جهة دفعت 15.5  مليون جنيه للمطرب الشهير عمرو دياب لمجرد ركضه لمدة 3 دقائق.

إعلان البريد المصري
إعلان البريد المصري

ويطالب بعض الخبراء بلجنة واحدة استشارية لشركات القطاع العام. بدلاً من اعتماد كل منها على مكاتب منفصلة فيما يتعلق بمشروعات التطوير. وهو ما يقلل الأعباء المالية في ظل وجود نحو 118 شركة حاليًا تعمل مستشارة للقطاع العام.

يقول الدكتور وليد جاب الله -أستاذ التشريعات الاقتصادية- إن الإجراءات الحكومية التي تم الإعلان عنها منفذة بالفعل على أرض الواقع. لكن من المهم أن تكون هناك تحركات لإشراك المواطنين في الترشيد. وذلك لتحقيق منافع أكبر فيما يتعلق بعدم إهدار الطاقة والموارد.

حتمية دراسات الجدوى

وسبق أن طالبت لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب في تقريرها عن الحساب الختامي للموازنة العامة الدولة لعام المالي  2020/2021 بالنظر في هيكل اختصاصات الجهات الداخلة في الموازنة (وحدات الجهاز الإداري للدولة-الهيئات العامة الخدمية وحدات الإدارة المحلية- والتي وصل عددها إلى 648 جهة في 30/6/2021. في ظل تشابه الاختصاصات بين الجهات. منها وزارة شئون البيئة، جهاز شئون البيئة. وفي مجال الهجرة وزارة الدولة للهجرة وشئون المصريين بالخارج وزارة الخارجية).

ودعت اللجنة أيضًا لدراسة حتمية للمشروعات قبل البدء في إدراجها بخطة الدولة وقياس الآثار الاقتصادية والاجتماعية المترتبة عليها. وكذا المردود الناجم عنها حال الاستقرار عليها والالتزام بإعداد دراسات جدوى اقتصادية تسبق تنفيذ المشروعات الاستثمارية التي تم الاستقرار على تنفيذها والممولة من الخزانة العامة للدولة. وربما هذه النقطة تذكر بتصريح شهير لمسئول رفيع بالدولة يسخر من مبدأ وقيمة دراسات الجدوى.

من المقترحات الهامة للترشيد أيضًا إعادة توزيع الموظفين بين الأجهزة الحكومية. وذلك لتحاشي التعيينات الجديدة. وتقديم الأولوية للمشروعات منخفضة التكاليف التي تدر عائدًا ماليًا. والاستغناء عن المباني المؤجرة للمصالح الحكومية التي لا حاجة إليها واستبدال بها أماكن في مبان مملوكة للدولة بشكل كامل.

ويؤكد الدكتور وليد جاب الله -أستاذ التشريعات الاقتصادية-أن الاستراتيجية واضحة ومطبقة لكن الأمر يحتاج إلى مراجعة بصورة تحافظ على المستهدف منه. على حسب تغير الظروف بعد المتابعة والتقييم للإجراءات.

فشركات القطاع العام يتم دمجها بصور تدريجية تحت إطار شركات قابضة. وهذا الأمر يخضع لمواءمات لطبيعة كل شركة في كل قطاع في إطار استراتيجية تحويل الشركات الخاسرة للربحية وإعادة تنظيم القطاع بشكل عام.