في تحليلهما المنشور في فورين أفيرز/ Foreign Affairs، حول مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا في أعقاب نهاية الأزمة الأوكرانية. يلفت دميتري ألبيروفيتش، خبير السياسات والأمن السيبراني. وسيرجي رادشينكو الأستاذ بكلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة. إلى أنه مع استمرار حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا في الوقت الراهن، وإعادة تنظيم الجغرافيا السياسية العالمية. تحتاج الولايات المتحدة إلى مراجعة استراتيجيتها طويلة المدى تجاه روسيا. استراتيجية تتطلع إلى ما بعد نهاية الحرب.
اقرأ أيضًا: كيف تحوّل الحرب في أوكرانيا موسكو إلى “خادمة” لبكين؟
يشير التحليل إلى أنه يجب أن يكون التركيز الأساسي لهذه الاستراتيجية، على عكس استراتيجية الاحتواء الأصلية، التي مارستها واشنطن في حقبة الحرب الباردة. والتي أوضحها جورج كينان في عام 1947 -أي قبل 75 عامًا- نعم تتسم كسابقتها بأنها “احتواءً صبورًا”. ولكن تتميز هذه المرة كونها يجب أن تكون احتواء “حازمًا ويقظًا، أمام الميول الروسية التوسعية”.
خلال الحرب الباردة، سعت الولايات المتحدة إلى كبح الدوافع التوسعية للاتحاد السوفيتي دون الانخراط في مواجهة عسكرية مباشرة، في انتظار انهيار النظام السوفيتي غير الطبيعي في موسكو. اليوم، فإن الهدف من احتواء روسيا مختلفا، لأنه سيكون من السذاجة توقع تفكك روسيا كما حدث مع الاتحاد السوفيتي السابق. أو كما اعترف كينان نفسه “لن يدوم الاتحاد السوفيتي، لكن روسيا ستبقى”.
يشير الكاتبان ذوا الأصل الروسي إلى أنه “بدلاً من ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تعمل بجد اليوم لكبح توسع روسيا في أوروبا وأماكن أخرى. حتى تدرك القيادة الروسية بحسب الكاتبين “أن ميولها الإمبريالية المدمرة تقودها إلى المستقبل الكئيب، المتمثل في أن تصبح تابعة لـ الصين”. حيث “ستصبح موسكو، المنعزلة بشكل متزايد عن الغرب، مدينة بالفضل لبكين كشريك تجاري وراعي دولي رئيسي”.
اقرأ أيضا: الإيكونوميست: هل العقوبات الاقتصادية على روسيا مجدية؟
ويلفت التحليل إلى أن هذه “علاقة ليست بين أنداد، بل بين المتوسل والمتبرع”. وأن مثل هذا المصير المعتمد على الصين، قد يدفع الكرملين إلى إعادة التفكير. في سعيه وراء السياسات الخبيثة المعادية للغرب، وكبح عدوانيته.
الحفاظ على التوازن الدولي
يمضي التحليل: يجب ألا تتوهم الولايات المتحدة أن مثل هذا التحول سيؤدي إلى علاقة ودية مع روسيا، ناهيك عن تحالف مناهض للصين. أو أن تغييرًا في سلوك الكرملين سيحدث بسرعة. في الواقع، قد تمر سنوات قبل أن يتبنى القادة الروس موقفًا أقل تصادمية تجاه الغرب.
ويلفت الكاتبان إلى أنه “من غير المحتمل تمامًا أن تصبح روسيا مندمجة في المجتمع الغربي. كما أنه من غير المحتمل أن تضحي روسيا بعلاقتها مع الصين من أجل علاقات أكثر دفئًا مع الولايات المتحدة وأوروبا. سيتعين على الولايات المتحدة قبول الاختلافات الكبيرة بين القيم الأساسية والمصالح طويلة الأجل لروسيا ومصالح الغرب، مثل دعم حقوق الإنسان والحكم الديمقراطي”.
مع ذلك، قد يستنتج الكرملين في النهاية أن سياسة التوازن- أي الحفاظ على العلاقات المثمرة مع كل من الصين والغرب- هي في مصلحته. أو كما يقول الكاتبان، أن احتمالية بقاء “روسيا أخرى” ممكنة، دولة ذات سياسة خارجية أكثر توازناً. وتتجنب التشابكات الوثيقة مع الصين أو الغرب، وتحترم وحدة أراضي الدول الأخرى، وتلتزم بالتزاماتها القانونية الدولية.
لذلك “يجب أن تتحلى الولايات المتحدة بالصبر، وعلى استعداد للانتظار، حتى تدرك روسيا أنه ليس لديها الكثير لتكسبه من مستقبل الاعتماد الخاضع للصين”.
ويلفت التحليل إلى أنه بعد ستة أشهر من غزو روسيا لأوكرانيا، لا يزال مسار الحرب في المستقبل غير مؤكد. “في حين أن بوتين فشل كثيرًا في تحقيق تغيير النظام في كييف، تمكنت روسيا من الاستيلاء على حوالي خمس أوكرانيا. لقد فاق أداء الجيش الأوكراني كل التوقعات، لكنه قد لا يكون في وضع يسمح له بدحر المكاسب الروسية بشكل سريع وكامل، ويبدو أن الجمود على المدى القريب محتمل”.
محاولات السيطرة الروسية
يؤكد التحليل أنه لا يمكن أبدًا أن تكون سيطرة روسيا على شرق أوكرانيا آمنة تمامًا. فعلى سبيل المثال “استغرق الأمر أكثر من عقد من الاتحاد السوفيتي لقمع التمرد الأوكراني، بعد إعادة بسط سيطرته على أوكرانيا في نهاية الحرب العالمية الثانية. ولن تتعافى الأراضي التي احتلتها روسيا بالكامل من الخراب الاقتصادي الذي سببته الحرب. لا تملك موسكو المال لإحياء المناطق المدمرة التي احتلتها، لكنها -على الأرجح- ستحاول القيام بذلك على أي حال، مما يؤدي إلى إنفاق الموارد الشحيحة”.
يقول: في مواجهة حلف الناتو الأقوى -والذي سيضيف قريبًا السويد وفنلندا كعضوين- ستضطر روسيا إلى إنفاق المزيد على جيشها. واستنزاف خزائنها، وإجبارها على التخلي عن الخدمات الاجتماعية والبنية التحتية والعلوم والتعليم. إن مغامرات بوتين الإمبريالية في الاستيلاء على الأراضي ستجعل روسيا مكانًا أكثر فقرًا وحزنًا وقمعًا وأكثر انعدامًا للأمن وأقل جاذبية للعيش في نهاية المطاف.
وأضاف: حتى لو شق بوتين طريقه نحو شيء يمكن أن يسميه نصرًا قصير المدى في أوكرانيا، فقد خسر روسيا بالفعل على المدى الطويل. إذا استمرت العقوبات الغربية، فسوف يصاب الاقتصاد الروسي بالركود ويذبل. مما يزيد من اعتماده على بكين، وهو احتمال لا يستمتع به سوى قلة في موسكو.
بالفعل، بدأت روسيا في تحويل صادرات الطاقة والمعادن من الأسواق الأوروبية “المعادية” إلى الصين. حيث سيعتمد المستهلكون الروس على الواردات الصينية، لتحل محل المنتجات الغربية التي لم يعد من الممكن الوصول إليها. كذلك، يلعب اليوان -العملة الصينية- الآن دورًا رئيسيًا في المعاملات في بورصة موسكو، وهو دور سيزداد حجمه.
ويشير التحليل إلى أنه “في الواقع، سيستقر الاقتصاد الروسي بعد توزيع النقد والسلع الصينية. وهي ديناميكية ستتيح لبكين قدرًا كبيرًا من النفوذ على موسكو”.
اقرأ أيضا: دور الاقتصاد والتجارة في نشوب الحروب ومنعها.. نموذج الصين وروسيا
البديل للتبعية لبكين
يلفت التقرير إلى أنه، في ظل هذه الظروف، يجب على الولايات المتحدة الاستمرار في بناء قدرات الجيش الأوكراني. مع الحفاظ على العقوبات المفروضة على روسيا وتعزيزها، بما في ذلك ضوابط التصدير على التقنيات المهمة التي تحتاجها روسيا وتكافح للوصول إليها. مثل أشباه الموصلات.
يقول: ستساعد هذه الإجراءات في الحفاظ على المجهود الحربي الأوكراني، مع إضعاف روسيا، لكنها لا تشكل استراتيجية طويلة المدى. لتمهيد الطريق لروسيا غير منحازة في المستقبل، يجب على الولايات المتحدة تجنب التصعيد في أوكرانيا. ودرء زعزعة الاستقرار الكامل لروسيا، وتزويد موسكو ببديل، لاعتمادها المفرط الخطير على بكين.
وأضاف: مع استمرار الحرب في أوكرانيا، كانت الأولوية القصوى للولايات المتحدة وحلفائها في الناتو -وستظل- منع أي نوع من التصعيد. والذي قد يؤدي إلى صراع مباشر بين الناتو وروسيا. لقد أشار الناتو مرارًا وتكرارًا إلى روسيا برغبته في تجنب الصدام حول أوكرانيا، وتتحلى الولايات المتحدة بالصبر . هذه الرغبة هي سبب مقاومة الناتو لمناشدات كييف لفرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا. الأمر الذي من شأنه أن يخاطر بإشراك الطيارين المقاتلين التابعين لحلف شمال الأطلسي في قتال جوي مع القوات الروسية.
مع ذلك، تختبر كل من روسيا وحلف شمال الأطلسي الخطوط الحمراء لبعضهما البعض باستمرار. حيث “تدخل الغرب بشكل تدريجي أكثر جرأة وأكثر انخراطًا في الصراع. قدم معلومات استخباراتية مهمة استخدمها الأوكرانيون لمهاجمة السفن الروسية والأهداف الاستراتيجية الأخرى. كما قدم حلفاء الناتو لأوكرانيا أسلحة متطورة، مثل أنظمة الصواريخ المدفعية عالية الحركة، والتي يستخدمها الجيش الأوكراني لإلحاق أضرار جسيمة بمخازن الذخيرة الروسية والقواعد البعيدة عن الخطوط الأمامية.
حتى الآن، قدر الحلفاء بشكل صحيح أن بوتين -بعد أن فقد ما يقدر بنحو 20% إلى 30% من قوته القتالية- ليس في وضع عسكري لتصعيد الصراع. وأنه ما دام أن بوتين يمكنه تجنب فقدان ماء الوجه علنًا، فمن غير المرجح أن يفعل ذلك.
لكن الاشتباك المباشر لقوات الناتو قد يؤدي إلى إطلاق حلقة من التصعيد، والتي -في أسوأ السيناريوهات- يمكن أن تبلغ ذروتها في صراع نووي.
تجنب انهيار روسيا
خلال نهاية الحرب الباردة، كان الرئيس جورج بوش الأب قلقًا بشأن الانهيار السوفيتي، ليس لأن الاتحاد السوفييتي كان يستحق الحفاظ عليه. ولكن لأن تفكك قوة نووية كبرى كان يخاطر بإطلاق أسلحة نووية ومواد انشطارية فضفاضة، مما أدى إلى انتشار الأسلحة النووية بين الدول. والحث على ظهور شبكات إرهابية وجريمة منظمة جديدة.
لهذا، يؤكد الخبيران ذوا الأصل الروسي أن “النتيجة الأخرى التي يجب على الولايات المتحدة تجنبها هي الانهيار الصريح لروسيا”. حيث يجب أن تستمر الولايات المتحدة في معاقبة بوتين على الحرب في أوكرانيا، لكن يجب ألا يغيب عن بالها حقيقة أن زعزعة استقرار روسيا -أو حتى تقسيمها كما دعا بعض المعلقين- ليس في مصلحتها. فقد يؤدي الانهيار إلى صراع دموي قد يزعزع استقرار أوراسيا لسنوات قادمة.
أيضا، يلفت ألبيروفيتش ورادشينكو إلى أنه لا تزال احتمالية حدوث انتفاضة شعبية في روسيا منخفضة. حيث يبدو أن قبضة بوتين على السلطة -مدعومة بجهاز قمع محلي- تبدو آمنة كما كانت دائمًا. وعلى الرغم من أنها أضعفت القوة الاقتصادية الروسية، إلا أن العقوبات المفروضة حتى الآن على روسيا، لم تتسبب في أي شيء. مثل الدمار والإذلال اللذين عاناهما الروس في التسعينيات، خلال الأزمة الاقتصادية الناجمة عن انهيار الاتحاد السوفيتي.
لذلك “يجب على الولايات المتحدة أن تخطو بذكاء. مدركة أن الانهيار الاقتصادي والفوضى السياسية هي خلفيات سيئة لبناء أنظمة سياسية ليبرالية. لا ينبغي أن يعتبر ظهور دولة ديمقراطية ليبرالية في روسيا ما بعد بوتين حتمية تاريخية. حيث تتمتع المؤسسات القمعية الروسية بقوة بقاء ملحوظة.