رغم أن المصريين ليسوا أكثر شعوب العالم استهلاكًا للشاي. لكنه يمثل عندهم ما هو أكبر بكثير من مجرد مشروب رسمي. فأهميته عند غالبيتهم لا تقل عن القمح والزيوت وغيرها من السلع الاستراتيجية التي يعطيها البنك المركزي حاليًا الأولوية في فتح الاعتمادات المستندية.
كانت تلك الأهمية سبب الصدى الواسع الذي قابل المذكرة التي قدمتها إحدى شركات الشاي الكبرى إلى مجلس الوزراء، تشكو فيها عدم تدبير الدولار اللازم لعمليات استيراد الشاي لمواجهة الاستهلاك المحلي، محذرةً أن المخزون لديها يكفي أقل من شهر.
بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فإن إجمالي واردات مصر من الشاي خلال 9 أشهر 231 مليون دولار. بينما بلغت فاتورة استيراد الشاي، خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام 159 مليون دولار.
شركة العروسة التي تستورد 60% من احتياجات السوق المحلي من الشاي، أكدت في مذكرتها، أنها تعاني في تدبير الدولار اللازم لاستلام مستندات الشحن والتخليص الخاصة باستيراد نحو 6 آلاف طن من الشاي، موجودة في المواني المصري منذ أكثر من شهر.
اعتبرت الشركة أن التأخير في إنهاء الإجراءات قد يؤدي إلى تعرض الكميات الموجودة في المواني المصرية للتلف. فضلًا عن الغرامات التي يتم دفعها بالعملة الأجنبية لشركات الشحن. ما يزيد من تكاليف السلع، ما قد يعرض المستهلك لزيادة في الأسعار.
لماذا الشاي مهم في حياة المصريين؟
ترتبط أهمية الشاي بالنسبة للمصريين لارتباطهم بثقافة المقاهي، التي يبلغ عددها مليوني مقهى في مصر بوجه عام، تستحوذ محافظة القاهرة على 150 ألف مقهى منها، يعمل بها ما يزيد على 2.5 مليون شخص.
الشاي هو المشروب الأرخص الذي يمكن لأي شخص تناوله على المقاهي، حاليًا، حتى مع ارتفاع سعره إلى 3 جنيهات بالمقاهي شديدة الشعبية، التي لم تعد مجرد مكانًا للأشخاص المحالين على المعاش أو العاطلين عن العمل.
تغيرت فكرة المقهى إلى ما يشبه النادي الاجتماعي الذي يقضي فيه الرواد أوقاتهم، مع تبدل العادات الاجتماعية. فالمنازل لم تعد مكانًا لاستقبال اللقاءات. وبالتالي أصبح الشاي على القهوة هو البديل الأرخص.
يقول أحمد فوزي، صاحب مقهى، إن الشاي هو عصب العمل في أي مقهي. فالإقبال عليه يعادل عشرة أضعاف أي مشروب آخر سواء القهوة أو المشروبات الصفراء “ينسون ونعناع وحلبة”.
يضيف أن الجمهور لا يتحمل أي زيادة في الأسعار حاليًا. فكلما ارتفع سعر أرخص مشروب كلما قل قطاع من الرواد المعتادين الذين لن يستطيعوا زيارة المقهى كل يوم، حتى لو كان وسيلة ترقية بالنسبة لبعضهم كموظفي المعاش.
المصريون ثالث الشعوب العربية استهلاكًا للشاي
يحتل المصريون المرتبة الثالثة، عربيًا، في شرب الشاي؛ بحصة للمواطن الواحد تبلغ نحو 900 جرام سنويًا. بينما تأتي السعودية والكويت معًا في المركز الأول، بما يعادل 1.2 كيلو للفرد، والمغرب ثانيًا بنحو كيلو جرام طبقًا لبيانات علن 2020.
يقول نادي عزام، الخبير الاقتصادي، إن الدولة حاليًا ترتب أولويات الاستيراد وفقًا للاحتياجات الأساسية، وفي عرفها الشاي رغم أهميتها المزاجية ووجود استثمارات وعمالة ضخمة تعتمد عليه، في مرحلة ثانية حال مقارنته بالقمح والحبوب والأدوية.
المشكلة بالنسبة للمصريين في ضعف الملاءة المالية التي تحول دون الإقبال على البدائل المحتوية على الكافين. فعبوة الشاي الواحدة وزن 100 جرام تدور في فلك 7 جنيهات، أما عبوة القهوة ذات الوزن المعادل فتتراوح بين 19و27 جنيهًا.
يضيف عزام أن الشاي والقهوة والتبغ كلها مستوردة بنسبة 100% ما يجعلها تشهد ارتفاعات متتالية في الأسعار، بسبب تعقيدات الاستيراد من الخارج. ولكن تصريحات وزير المالية أخيرًا تتحدث عن انفراجة بسوق الاستيراد.
ووعد وزير المالية محمد معيط، في مؤتمر صحفي حضرته “مصر 360 ” أمس، بحل أزمة السلع المتكدسة بالمواني خلال 72 ساعة. ذلك عبر لجنة مشكلة من وزارتي التجارَة والمالية والبنك المركزي. لكنه لم يعط المزيد من التفاصيل حول كيفية توفير الدولار اللازم لتلك العملية، ولا البضائع التي سيتم منح الأولوية لها.
الشاي في مصر.. من مشروب المستعمر إلى الإدمان
يظهر السياق التاريخي مدى ارتباط المصريين بالشاي منذ أن حل محل القهوة كمشروب الضيافة الرئيسي عند المصريين. فرغم محاولات منعه ومحاربته على مدار عقود، لكنه نجح في البقاء والانتشار.
يوجد جدل حول توقيت دخول الشاي مصر. فالبعض يربطه بعودة الجنود المصريين من الحرب العالمية الثانية، والبعض الآخر يقول إنه دخل مصر عام 1882 عن طريق أحمد عرابي، الذي زار مزارعه بسيلان، وأرسل كميات كبيرة منه إلى أصدقائه في مصر.
اقرأ أيضًا: أزمة في اقتصاد “المزاج”.. السكر والقهوة والشاي في قبضة التضخم العالمي
ارتبط الشاي بمقاهي المدن، التي كانت في البداية أماكن فسيحة يجلس فيها الحضور على الأرض قبل أن تتطور إلى كراسي وجلسات يتم فيها عرص السير الشعبي والغناء والموسيقى والنقاش في السياسة. فارتبط الشاي بالجلوس على المقهى والتحرر من خنقة المنازل. لكن في الريف كان مشروب الجلسات المسائية أمام المنازل، يتم غليه على الفحم المحترق.
قبل دخول الشاي كان المصريون يعتمدون في منازلهم على مجموعة من المشروبات الشعبية مثل الكركديه والينسون والحلبة والجنزبيل. وكان أغلبها يأتي من السودان وحوض وادي النيل.
الشاي.. مشروب متهم دائمًا سياسيًا وصحيًا
في بداية انتشار الشاي، هاجمه السياسيون باعتبار أنه سيكون بديلا استعماريا في مواجهة مشروبات المصرية الأصيله
والغريب أن الاحتلال البريطاني ذاته حارب الشاي حتى أن توماس راسل حكمدار القاهرة، قال في مذكراته، إن ما يسميه الفلاحون بالشاي الأسود يأخذ كثيرًا من أموالهم وصحتهم. وحذر من خطورته، لكن السلطات الصحية زعمت بأن غلي الشاي يؤدي إلى تبخير الكثير من عناصره الضارة.
كما طلب مستشارو الملك فاروق منع استيراد الشاي ووضع ضريبة عالية عليه بحجة تأثيره الضار على سلامة الفلاح المصري، ولإنقاذ اقتصاد مصر الذي يعتمد على ثروة الزراعة.
وأمام انتشار عادة شرب الشاي المغدي، ابتكرت حملة لتعريف المواطنين عبر الرسوم، بكيفية إعداده والتحذير من تدوير بقايا الشاي في البراد بعد غليه، برعاية ماركة شاي أصبحت الأشهر لعقود تحمل اسم “الشيخ الشريب”.
تعلق المصريين بالشاي كان محركًا لربطه بالمعونة الأمريكية. فحينما هددت أمريكيا بقطع المعونة عن مصر قال الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر، إن المصريين يشربون الشاي يوميًا، ومن الممكن أن يقللوا استهلاكهم خمسة أيام في الأسبوع لحين إنهاء بناء بلدهم.
احتياطي يكفي شهرا أم 4 أشهر
أحمد ماهر، عضو شعبة الشاي باتحاد الغرف التجارية، يقول إن الشاي سلعة استراتيجية يسعى المستورودن لتوفيرها. لكنه يؤكد وجود احتياطي كاف يؤمن احتياجات السوق المحلية يصل إلى 4 أشهرَ. رغم تأكيد شركة العروسة -في بيانها- أن الاحتياطي يكفي شهر واحد.
يضيف ماهر أن أسعار الشاي مستقرة في السوق المحلية رغم هبوط الجنيه أمام الدولار وتحرك الأسعار عالميًا، محذرًا من تكالب المواطنين على التخزين. الأمر الذي قد يقلل المعروض ويرفع الأسعار.
تستورد مصر الشاي من كينيا في المقام الأول. وهو منتج متوفر بشدة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية. فموسكو تمثل رقمًا مهمًا في معادلة التصدير الكيني، وتعقد التصدير تسبب في تراجع كبير أسعار التصدير.
ارتبط الشاي بحياة المصريين حتى أنهم الشعب الوحيد الذي ألف أغاني ودون أشعارًا على مزاجه، ما بين “كوباية شاي مع سيجارتين”، وحتى لقاء الأحبة في “قاعد معاي”. لكن أزمة الدولار وتعقيدات الاستيراد قد تجعل أغنيتهم الرسمية القادمة “ما اشربش الشاي”.