تترقب الأوساط الاقتصادية في مصر سياسة البنك المركزي ومحافظه الجديد حسن عبد الله، والخاصة بتحديد سعر الصرف للجنيه المصري أمام الدولار، وهو أحد بنود التفاوض الرئيسية مع صندوق النقد الدولي للحصول على القرض الجديد والتي يكثر الكلام عنها هذه الأيام، وسط تنبؤات وتقديرات متفاوتة حول مدى الانخفاض المتوقع لقيمة الجنيه مرة أخرى خلال نفس العام.

منذ مطلع مارس/آذار الماضي فقدت العملة المصرية حوالي 20% من قيمتها عقب قرار البنك المركزي برفع أسعار الفائدة بنسبة 3% في إطار محاولات السيطرة على التضخم، والحفاظ على ما تبقى من الأموال الساخنة التي سرعان ما فرت من السوق المصرية مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، والتي يقدر حجم خروجها بأكثر من 20 مليار دولار، ما جعل سعر الصرف للجنيه أمام الدولار يتحرك قليلًا ليتجاوز الـ19 جنيها بعد ثباته لفترة طويلة عند مستويات أقل من 16 جنيها.

وبرغم الحملات المستمرة على السوق الموازية لمنع تداول الدولار خارج السوق الرسمية، إلا أن الدولار يتم تداوله بأرقام أعلى من السعر الرسمي، حيث يتم مبادلة الدولار الأمريكي بما يعادل 20 جنيها مصريا، وربما أكثر قليلًا، ثم أصبحت بعض الأسواق والقطاعات الاقتصادية والتجارية تعلن تسعير منتجاتها وخدماتها بما يوازي 23 جنيها للدولار، تمامًا كما أعلنت توكيلات السيارات في نهايات شهر يوليو/تموز الماضي، ولم يحرك أحد ساكنًا تجاه تلك الأنباء، والتي تعكس الفجوة في وفرة المعروض من الدولار، فضلًا عن قيود الاستيراد التي فعلها البنك المركزي عبر التحول إلى الاستيراد عن طريق الاعتمادات المستندية وليست مستندات التحصيل مما ضغط وشدد من حركة الاستيراد وتسبب في تباطؤها بشكل ملحوظ.

إلا أن استمرار تراجع الاحتياطي النقدي من الدولار إلى  33.14 مليار دولار في يوليو/ تموز، وهو أدنى مستوى له منذ يونيو/حزيران 2017، وذلك مدفوعًا بخروج الأموال الساخنة وتعطل مورد السياحة، بالإضافة لزيادة حجم الالتزامات الدولارية على الحكومة المصرية بما يعادل 40 مليار دولار، مطلوبة السداد حتى نهاية عام 2023 من أقساط وفوائد الديون الخارجية، واستيراد الاحتياجات الأساسية من السلع والمواد الأولية، كل هذه المعطيات تعجل من احتياج مصر لقرض صندوق النقد لمنح الاقتصاد الوطني فرصة لالتقاط الأنفاس، وقدرة أفضل على جذب الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة وزيادة الاحتياطي النقدي وإصلاح الهيكل المالي.

في هذا الصدد تباينت التقديرات من الخبراء والمؤسسات الاقتصادية الدولية والأجنبية وشركات البحوث حول قيمة العملة المصرية الحقيقية، فتقديرات الخبير جيمس سوانستون من “كابيتال إيكونوميكس” تجزم بحتمية انخفاض قيمة الجنيه بنسبة 24٪ ويشاركه في هذا التقدير العديد من محللي مؤسسة بلومبيرغ، أما مؤسسات غولدمان ساكس ودويتشه بنك، تقدر ارتفاع الجنيه بأكبر من قيمته بنسبة 10%، بينما سيتي غروب تقدر العملة أقل بنسبة 5٪، وصندوق النقد نفسه يقول أنه على القاهرة  إحراز “تقدم حاسم” على صعيد الإصلاحات المالية والهيكلية.

وبالعودة للبنك المركزي والمحافظ الجديد، فإنه يواجه هذا التحدي القاسي ما بين ضرورة تحرير سعر الصرف وفق المعطيات الحالية، وما بين التبعات الاقتصادية والاجتماعية من هذا القرار، والموجة المتوقعة من ارتفاع أسعار السلع مجددًا، مع وصول معدلات التضخم إلى 14.6٪ بنهاية شهر يوليو/تموز الماضي، مدفوعة بارتفاع أسعار الغذاء والوقود وقيود استيراد السلع.

لعل المحافظ الجديد حسن عبد الله يدرك تمامًا الدرس الذي تعلمناه خلال السنوات الماضية، بأن استمرار تثبيت سعر العملة عند مستويات غير حقيقية وضخ هذا الدعم من الاحتياطي النقدي الأجنبي الذي يتراجع بالفعل، على أمل تحسن الظروف في المدى القريب، هو أمر يزيد من قسوة لحظة التعويم أو التخفيض وصدمتها المتوقعة. وهو ما حدث في تعويم 2016 الذي تأخر كثيرًا حتى تسبب في انخفاض قيمة العملة للنصف، مع إجراءات رفع الدعم وتطبيق ضريبة القيمة المضافة، ما رفع من مستويات التضخم على أساس سنوي في بعض أشهر 2017 إلى نسبة 25%، وتسبب في هزات مادية كبيرة للطبقات الفقيرة والوسطى.

لذا ففي الأغلب سيتجه البنك المركزي لاستمرار سياسة التعويم المُدار، والرفع التدريجي لسعر الصرف لتقليل أثر الصدمة التضخمية على المجتمع، وقد يكون هذا الأمر هو محل النقاش الرئيسي مع صندوق النقد الدولي، مع العلم بأن الوضع الحالي بوجود فارق بين القيمة الاسمية للعملة والقيمة الحقيقية لا يمكن ثباته كثيرًا.

حينما تقدم أي دولة لخفض قيمة عملتها فإنها تلجأ لذلك إما مدفوعة برغبتها في مواجهة تزايد التزامات الدول من الديون فتلجأ لخفض العملة للوفاء بالتزاماتها المحلية بتكلفة أقل، وترفع بذلك تكلفة الاستيراد والاستدانة، وإما لرغبة في زيادة ميزتها التنافسية في تنمية صادراتها للخارج لتصبح أقل كلفة على الدول والشركات المستوردة لمنتجاتها المحلية وتجني بذلك مزيد من الصادرات وتنشيط إنتاجها الصناعي.

قد يروج البعض لإيجابيات قرار خفض العملة باعتبارها فرصة لتنمية الصادرات، واضعًا ضمن مبرراته الارتفاع الذي حدث بالفعل في قيمة الصادرات غير البترولية والتي تخطت حاجز ال 30 مليار دولار، مع مزيد من استهداف إحلال الواردات التي تبلغ 70 مليار دولار، لتقليص عجز الميزان التجاري.

لكن حتى يتحقق ذلك فإنه سيستغرق بعض الوقت، وسيؤدي التخفيض في المدى القصير لزيادة عجز الميزان التجاري، لأن أسعار الاستيراد والتصدير الحالية تم ترتيبها في مراحل سابقة من خلال تعاقدات الشركات والمصانع، وبالتالي مع وصول أولى دفعات قرض الصندوق المنتظر وبدأ فك الحظر عن استيراد السلع والمتوقع أن يتم في حدود شهر أكتوبر/تشرين الأول، فإنه ولمدة عام تقريبًا سترتفع أسعار السلع المستوردة، وستزيد أسعار السلع المنتجة محليًا نتيجة زيادة أسعار السلع الوسيطة التي يتم استيرادها من الخارج، والتي تتربع على قمة عرش الواردات المصرية بنسبة 32% تقريبًا، والمواد الخام التي تبلغ نسبتها 11% من الواردات – بحسب البنك المركزي المصري للعام المالي 19/20، وبالتالي فإن أي تحسن سيطرأ على الصادرات السلعية المصرية لن يتم في المدى القصير مع بدء إبرام تعاقدات جديدة في القطاعات الاقتصادية المختلفة، وبافتراض تحسن المؤشرات الكلية للاقتصاد وحدوث بعض الاستقرار في التدفقات المالية من النقد الأجنبي وإعادة بناء الاحتياطي النقدي.

الوقت وحده ليس بمثابة علاج مضمون، فالاقتصاد المصري يستطيع إعادة إنتاج نفس الأزمة كل فترة، نتيجة الاختلالات الهيكلية المزمنة به، والتي تستمر رغم تغير الحكومات والمجموعات الاقتصادية بها. فبينما تبلغ الواردات السلعية الاستثمارية والاستهلاكية حوالي 43% من هيكل الواردات، وتشترك جميعها في كونها ذات تقنية تكنولوجية ما مثل السيارات والأجهزة الإلكترونية والكهربائية المختلفة، والتي تمتاز بقيمة مضافة عالية، تفتقر الصادرات المصرية للقيمة المضافة العالية، حيث تحتل صادرات المواد الخام حوالي 42% من إجمالي الصادرات، وهي نسبة كبيرة للغاية، وبالتالي فإن الصادرات مهما تطور حجمها الإجمالي رقميًا فإن قيمتها المضافة الضعيفة لا تضمن استمرار هذه الزيادات ولا تحسن في قدرتها على تقليص فجوات العجز.

ما يزيد أيضًا من العجز المزمن للميزان التجاري هو أن الصناعات التحويلية التي تستورد السلع الوسيطة من الخارج، وتضغط على احتياطيات العملة الأجنبية، أغلب إنتاجها يتم توجيهه للسوق المحلي، نتيجة انخفاض القيمة المضافة في السلع النهائية التي يتم إنتاجها، وبالتالي تقل جودة السلع النهائية المنتجة بالمقارنة مع الدول ذات القيمة المضافة العالية في صناعتها، وبالتالي ما يحدث عمليًا هو أن الطلب على الدولار يتزايد من جهة لاستيراد سلع نهائية للاستهلاك أو مدخلات صناعة لا تعيد إنتاج واستعادة العملة الصعبة من خلال التصدير، وبالتالي فالنقص في العملة الصعبة مزمن، وتضخم السلع النهائية سيظل أمرا حتميا سواءً كان إنتاجها محليًا أو أجنبيًا، ويظل الاقتصاد المصري أكثر اعتمادًا على المصادر التاريخية للنقد الأجنبي من قناة السويس وتحويلات المصريين بالخارج والسياحة، ولم تنجح الصادرات السلعية أو الصناعات التحويلية حتى الآن في تكوين ركن متماسك لمدخلات النقد الأجنبي يمكن الاعتماد عليه بشكل مستدام.

قد ينجح البنك المركزي وأظن أنه يسعى بالفعل للخفض التدريجي لقيمة العملة بدلًا من الصدمة المباشرة، وفي ذات الوقت تجتهد الحكومة في زيادة برامج الحماية الاجتماعية والتأكيد على وفرة السلع الأساسية من ناحية ومن ناحية تحاول بذل مزيد من الجهود لجذب الاستثمارات الأجنبية بكافة الأشكال، وبالتالي فعلى المدى القصير قد ننجو من الوضع الحالي مع بعض المعاناة الاجتماعية.

لكن المخرج الدائم في هذه الأزمات المتكررة يكمن في إجراءات ضرورية مثل تقليل الاستدانة والاعتماد على الأموال الساخنة قدر الإمكان، وضبط الإنفاق الحكومي، وجذب استثمارات أجنبية مباشرة تعطي قيمة مضافة للاقتصاد، مع سياسات أكثر أهمية وتمثل إنقاذ حقيقي عبر تعميق الصناعة المحلية وتطوير إنتاجية الأفراد والشركات، والتوسع في إنتاج السلع الوسيطة التي لا تتطلب محتوى تكنولوجي معقد، وإحلال الواردات بقدر الإمكان لوقف النزيف الدولاري المزمن، وتحسين البيئة الاستثمارية وتطوير التعليم الفني، ما يمثل إطار عام لسياسة تنموية ناجحة وليست سياسة إطفاء لحرائق متجددة.