إذا اجتهد كاتب فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، أما إذا استخدم اجتهاده وطوع أدواته لبلوغ مآربه الخاصة أو مآرب من يحركه فيتساوى في الإثم مع من يتحرى الباطل ويصيبه.

قراءة ونقد الواقع واستشراف المستقبل تتطلب أن يكون الكاتب ممسكا بأدوات التحليل والاستنتاج من بيانات وأرقام ومعلومات موثوقة ومعطيات حقيقية، فضلا عن إدراكه وفهمه العميق لسياق ما يتناوله من موضوعات. الكثير من كُتابنا وصحفيينا يملكون تلك الأدوات، لكن القليل منهم من يستخدمها لصالح الجمهور ليُنبهه بحقائق ما يجري ويُبصره بالتوابع والنتائج.

بعيدا عن نوايا الكاتب الصحفي عماد الدين أديب، وبغض النظر عن توجهات المنصات الصحفية التي تنشر مقالاته في السنوات الأخيرة ومصادر تمويلها، فإن مقاله «14 سببا لسقوط الحُكّام والأنظمة!» وضع المشرط على مواضع القيح، ووقف على علات دول المنطقة العربية المستعصية والتي تأبى الأنظمة الحاكمة تصريفها وعلاجها وتكتفي بترحيلها أو تخديرها بالمسكنات، ما يؤدي إلى تفاقم الأوضاع شيئا فشيئا، وعندما تصل إلى محطة الانفجار، حينها لا تُجدي مبادرات الإصلاح أو التغيير، «فالطبخة كلها ستكون فشلت» بتعبير أديب.

مقال أديب الذي تناول فيه عوامل وأسباب سقوط الحكام والأنظمة نشره منتصف الشهر الجاري في موقع «أساس ميديا» المملوك للسياسي والكاتب اللبناني نهاد المشنوق النائب السابق عن «تيار المستقبل» والذي تولى حقيبة «الداخلية» مرتين: الأولى عام 2014 في حكومة تمام سلام والثانية عام 2016 في حكومة سعد الحريري.

أثار هذا المقال حفيظة عدد من الكتاب والإعلاميين المصريين والذين يتم التعامل معهم على أنهم «حراس وسدنة المعبد» المُكلفون بالدفاع عن البلاد والهجوم عن كل من يتجاسر على الإساءة إليها أو إلى حاكمها، اعتبر هؤلاء أن مقال أديب «مسيء للدولة المصرية، ويثير التشاؤم، ويمنح أهل الشر الثغرات التي يهاجمون منها النظام المصري».

بدأ أديب مقاله بعدد من الأسئلة المشروعة «ما هي آفة الحكّام العرب؟.. ولماذا تسقط أنظمتهم بشكل تراجيدي؟.. ولماذا لا ينتقل الحكم سلميّا بدون أن يتمّ ذلك بأكلاف باهظة في المال والأرواح؟». معددا 14 سببا يمكنها أن تؤدي لإسقاط الحكام والأنظمة، أبرزها «فساد الحاكم، أو تغاضيه عن فساد بطانته، واعتماده على أهل الثقة رغم ضعف كفاءتهم وفشلهم في التصدي للأزمات، وتحول تلك الفئة إلى خدمة مصالحهم الخاصة، واستقواء بعضهم بقوى إقليمية ودولية، وصراع أجهزة الحكم، وانصراف أجهزة الدولة المعنية بالحفاظ على المال العام بتحقيق المكاسب الشخصية، ومنح الامتيازات الاستثنائية إلى دوائر عائلية أو أجهزة سيادية، وهو ما يؤدي إلى انعدام الرضا الشعبي».

وحذر أديب حكامنا من ألا يحسنوا اختيار فريقهم الأساسي، وألا يتعاملوا مع أعضاء هذا الفريق بناء على مدى التزامهم بالإنجاز، بل على أساس عبارات المديح والولاء الفارغة.

واختتم مقاله قائلا: «يا خوفي الشديد على كثير من أنظمتنا وشعوبنا من الآن حتى منتصف العام المقبل حينما تصبح لقمة العيش وسوء الخدمات واستحالة الحياة اليومية هي وقود اضطرابات اجتماعية مدمّرة».

لم تصل رسالة أديب «التشاؤمية» إلا بعد أسبوع من تاريخ نشرها، فقامت عليه الدنيا وتسابق «السدنة» في الهجوم عليه والطعن فيه والتشكيك في إخلاصه ونواياه، عبرت تلك الحالة عن تصاعد منسوب القلق والتوتر في بعض دوائر السلطة في مصر، «فهل يُعبر الكاتب والناشر والمنتج الفني المصري الذي يقضي معظم أوقاته في الخارج عن مقاصده ويطرح مخاوفه، أم إنها مخاوف ورسائل تحذير قوى إقليمية أو دولية تم بثها عبر كاتب بوزن أديب حتى تُحدث الصدى المطلوب؟.. وهل تملك تلك القوى من المعلومات والبيانات والاستنتاجات ما لا نملكه في مصر؟.. وهل يستهدف إحداها إزاحة بعض النافذين في دوائر صنع القرار نتيجة مشاحنات وخلافات تصاعدت مؤخرا في الفضاء العام وبلغت ذروتها بإعلان أحد الشخصيات الخليجية النافذة إلى تصفية أعماله في القاهرة؟».. إلى آخر تلك التساؤلات التي أُعيد إنتاجها بصيغ ومفردات مختلفة في مجالس الكُتاب والمثقفين والمراقبين خلال الأيام الماضية.

الحقيقة، أن أديب لم يأت بشيء جديد، فالرجل طرح معادلة بسيطة أقرب لـ«1+1=2»، وأشار إلى أن تحقق معظم النقاط الـ14 في أي دولة يعني أن السقوط صار على مرمى حجر، فما أن يبلغ التفكك مداه تقف الدول على حافة الانفجار.

الاستنتاجات التي وصل إليها أديب والمخاوف التي حذر منها، طرحها وتناولها بتجرد وحسن قصد المئات من الكتاب والساسة في بعض المواقع والمنصات الصحفية التي لا تزال متمسكة بمنح المتلقي محتوى به قدر من التنوع. القضية إذن ليست فيما طُرح، لكن في شخص من طَرح ذاك الرجل الذي يملك امتدادت وعلاقات إقليمية يعلمها القاصي والداني، ومن «مؤيدي نظام 30 يونيو»، لكنه يمهد من خلال كتابته لـ«إثناء الرئيس السيسي عن الترشح لدورة رئاسية جديدة في 2024»، على ما ذكر أحدهم في إحدى وصلات الهجوم.

أمام هذا الهجوم، نشر أديب مقالا آخر مطلع هذا الأسبوع وصف بأنه «محاولة اعتذار» عن سوء الفهم الذي تسبب فيه مقاله السابق، أعلن فيه حبه واحترامه للرئيس السيسي الذي ضحى وتحمل مسئولية البلاد في مرحلة صعبة، محذرا مما سماه بـ«المشروع الشرير» والذي يقضي بتحميل الرئيس فاتورة الأزمة الاقتصادية الضاغطة التي تسببت بها الحرب الروسية – الأوكرانية.

تحت عنوان «وصيتي الأخيرة لبلادي ورئيسي» حاول أديب أن يُنزه الرئيس السيسي عن الأخطاء التي تسبب فيها بعض «مساعديه المخلصين لكنهم ليس على المستوى المطلوب من الكفاءة» لذا فيجب عليه تغييرهم، لافتا إلى أن الترويج لمقولة «عدم اختيار الحكم لأولويّات الإنفاق هو سبب الأزمة»، أحد عناصر المشروع الشرير الذي يستهدف «خلق حالة عدم استقرار ضاغطة تبدأ في الشهور المقبلة وتتصاعد تدريجيا حتى موعد الانتخابات الرئاسية المصرية المقبلة».

عاد أديب إلى اسطوانة انتهت صلاحية تشغيلها منذ فترة ليست بقليلة، عندما تحدث عن أن «الخطر الأعظم» الذي يواجه مصر دولة وشعبا ورئيسا، هو إصرار بعض الكتل والدول «إخوان، وقطر، وتركيا، والحزب الديمقراطي الأمريكي» على استثمار الأزمة الضاغطة لتحقيق هدفها القديم، لا تريد تلك القوى أن «ترى مصر قوية ولا تسعى للاعتراف بنجاح مشروع الرئيس الإصلاحي لكنها في الوقت ذاته تخشى من انهيار مصر بالكامل»، وتحاول رهن القرار المصري بالعوز الاقتصادي والحاجة المالية.

اللافت أن أديب لم يأت على ذكر أي دور لقوى ودول أخرى تخشى أيضا من انهيار مصر وتساعد على تعويمها من آن إلى آخر، لكنها بنفس المنطق ولذات الأسباب تعمل على إبقائها مقيدة ليظل قرارها السياسي مرهونا بحاجتها إلى تلك الدول.

أسهب أديب في شرح عناصر وأهداف «المشروع الشرير» أو «المخطط الكوني» الذي يستهدف الدولة المصرية، ولأنه يثق في قدرة الرئيس بشكل مطلق فيعلم أنه قادر على التعامل مع هذا المخطط، لكنه طالبه بتغيير فريق المساعدين «أهمّ عنصر أتخوّف منه شخصيّا هو القدرة على التصدّي لأزمة كونيّة خطيرة وثقيلة وطارئة بنفس العقليات وفريق المساعدين السابق».

واقترح أديب على الرئيس تصعيد فريق جديد من المساعدين «إنّ أزمة شديدة وصعبة تحتاج إلى فريق جديد من المساعدين المناسبين للتصدّي لها»، واضعا صفات وشروطا يجب أن تتوفر في هذا الفريق «الصدق، النزاهة المطلقة وتغليب المصلحة العامة على الخاصة، وأن يكونوا على حجم التحديات»، داعيا إلى «ألا تكون هناك مراكز قوى في مصر نهائيا سوى الشعب»، مؤكدا أنه لا ينزع الوطنية أو الكفاءة من أحد، «لكن نقول إنّه حان وقت التغيير الشامل بهدف الإصلاح الإنقاذي».

اقرأ أيضًا: فورين بوليسي: توقفوا عن تمويل مشروعات مصر “المظهرية” الشعب في معاناة

أكمل أديب بمقاله الثاني ما يريد أن يقول في الأول، أزال اللبس بالشرح والتفصيل وتحديد الهدف، فالأزمة ليست في الرئيس ولا في سياسات وتوجهات وأولويات إنفاق نظامه، الأزمة حسبما كشفت القراءة المتصلة للمقالين في فريق المساعدين أو من سماهم الرجل «مراكز القوى» التي ليست على قدر الحدث لذا فيجب المسارعة باستبدالها بفريق قادر على مواجهة المؤامرة الكونية، وما بين السطور متروك لفطنة القارئ فلا يحتاج فهمه لشرح أو تبسيط.

أزمة بلادنا ليست في سلطتها فقط، بل أزمتها أيضا في كتابها ومفكريها ومثقفيها الذين ينطق بعضهم بما يعتقد أنه صحيح، فيما لا ينطق كثيرهم سوى بالوحي الذي يأتيهم من دوائر عدة، الفريق الأول لا يحكم تحليلاته واستنتاجاته إلا المعطيات والمعلومات والضمير المهني والمصلحة العامة، أما الفريق الثاني فلا حاكم له إلا توجهات وأهداف كُفلائه، حتى لو تطابقت معطياته وتوقعاته مع الفريق الأول.

بداية الحل للأزمات التي تواجهنا لن يكون بإعادة الحديث المستهلك عن المؤامرات الكونية التي تحاك ضدنا، ولا بالانخراط في معارك جانبية تلفت الانتباه وتشتت الرأي العام، العلاج الحقيقي لمشاكلنا يبدأ من التشخيص الدقيق والوقوف على الأسباب التي أوصلتنا إلى هنا، فإذا ما اعترفنا أن غياب السياسة والاستئثار بالقرار والانفراد بالسلطة هو ما أوصلنا إلى تلك الحالة، فعلينا أن نبادر بتمهيد الطريق لتنفيذ أجندة إصلاح ديمقراطي حقيقي بما يضمن إتاحة بدائل تملك برامج وحلول مختلفة يمكن للرأي العام اختيار الأصلح من بينها.