سلم المدنيون أنفسهم لقيادة العسكريين ثلاث مرات في محطات فاصلة من التاريخ:

1 – سلموا أنفسهم بمحض إرادتهم لقيادة الضباط في الثورة العرابية 1881- 1882 التي بدأت مدنية ثم انتهت عسكرية، ثم انفرد المدنيون بقيادة النضال الوطني قبل وبعد ثورة 1919 حيث لم يكن للجيش وجود فعال إلا أقرب ما يكون إلى جهاز شرطة عسكرية في خدمة الاحتلال الإنجليزي وكان أكثره يخدم في السودان.

2 – ثم سلموا أنفسهم للمرة الثانية بعد ثورة 23 يوليو 1952، منهم من سلم نفسه عن حسن نية ظنا بأن الضباط سوف يخلعون الملك ثم يعودون للثكنات، فلما أخذوا يفيقون من جهلهم وغرورهم بعد عامين كان الضباط قد أحكموا قبضتهم وتمكنوا من رقبة السلطة دون أدنى مزاحم أو منافس، ومنهم من ظن في نفسه الوصاية على الضباط ودفع ثمن هذا الظن غاليا، ومنهم من وضع نفسه في خدمتهم من باب النكاية في الخصوم السياسيين، ثم في اللحظة التي قرر فيها كل هؤلاء مواجهة الضباط كانوا قد فقدوا ظلهم والكثير من مصداقيتهم فتيسر للضباط التخلص من جميعهم ولم يستغرق ذلك كله أكثر من عشرين شهرا من يوليو 1952- مارس 1954.

3 – ثم نسي المدنيون كل ذاك التاريخ القريب، وذهبوا، قبل، وبعد، 30 يونيو 2013، يستدعون العسكريين، للتخلص من وضع سياسي كان من هندسه وبرمجه وصنعه ببراعة هم العسكريون، فهم الذين أداروا انتخابات الشعب والشورى والرئاسة في 2012، وهم الذين سمحوا لأحزاب أن تتشكل، وأفسحوا لتيارات أن تتصدر، هم من رفضوا أوراق ترشح جنرال كبير للرئاسة كان يمكنه الفوز بجدارة ودون إعادة، وقبلوا أوراق ترشح ثلاثة مرشحين في وقت واحد من الإخوان. مبارك كان يستخدم خطر الإخوان كفزاعة، ثم جاء طنطاوي من بعده ليجعل خطرهم حقيقة واقعة بالفعل، وكان هذا من أخطر التكتيكات العسكرية في إدارة المرحلة الانتقالية، تكتيك عسكري لكن على جبهة سياسية، خطر مصنوع بامتياز، بمعنى أنه كان مقصودا لذاته وبذاته من طرف من أدار الفترة الانتقالية، ثم مصنوع بمعنى أنه كان من الممكن تفادي الوقوع لو كانت إدارة الفترة الانتقالية صنعت حالة من التوازن السياسي المحسوب، بحيث تمنح قدرا عادلا من تمثيل الإسلاميين لا يتجاوزونه، لكنها خاطرت بتسليم البلد لحالة من الاختلال يسيطر فيها تنظيم واحد سيطرة غير ممكنة الاستمرار إلا مع توتر أهلي عنيف، فزحف المدنيون على بطونهم يستدعون العسكريين، وقد اصطفوا على جانبي وزير الدفاع وهو يدشن الديكتاتورية الجديدة في 3 يوليو 2013، اصطف المدنيون تحت أقدام الجنرال على مرأى ومسمع من العالم، وبعضهم يكرر الظن القديم أن الجنرالات سوف يزيلون العقبات ثم يعودون للثكنات، وبعضهم يكرر الخطأ القديم ويظن في نفسه الوصاية على العسكريين، وبعضهم كرر الخطأ القديم وذهب يضع نفسه في خدمة العسكريين من باب النكاية في خصومهم السياسيين، وتكرر بعد 30 يونيو 2013، ما حدث بعد 23 يوليو 1952، سلم المدنيون رقابهم للعسكريين، والعسكريون استقبلوهم ثم استخدموهم ثم سحبوهم ثم اقتادوهم خارج المعادلة السياسية بكاملها، ثم أوصدوا من دونهم الأبواب، ثم تركوهم يطويهم الصمت ثم الخوف ثم العدم.

***

في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه “الصراع الاجتماعي والسياسي في مصر منذ قيام ثورة 23 يوليو 1952 إلى نهاية أزمة مارس 1954″ الصادرة 1988 يعود المؤلف الدكتور عبد العظيم رمضان عن توجهاته السابقة في الطبعة الأولى من الكتاب ذاته والصادرة في 1975.

في الطبعة الأولى من الكتاب كان يرى أن انتصار ثورة 23 يوليو على القوى الديمقراطية كان مصلحة لمستقبل مصر، ولكنه في الطبعة الثانية توصل إلى العكس، توصل إلى أنه لو كانت القوى الديمقراطية والتقدمية قد انتصرت على ثورة 23 يوليو 1952 لكان ذلك أفضل لمستقبل مصر.

يقول في ص 8 من الطبعة الثانية -مكتبة مدبولي- 1988″ كنت أرى في انتصار ثورة يوليو على القوى الوطنية والتقدمية مما يخدم حركة التاريخ، لكن أصبحت أكثر اقتناعا بأن انتصار القوى الوطنية والتقدمية كان يخدم مستقبل مصر بأفضل مما خدمها انتصار الثورة”.

وفي وجهة نظره، فإن عظمة ثورة 23 يوليو كانت في ثلاثة إنجازات كبرى: كسر احتكار السلاح، القومية العربية، الاشتراكية. ثم يعقب أن سوء إدارة الثورة حولت الإنجازات الثلاثة إلى النقيض تماما.

– يقول في ص 8 من الطبعة الثانية: “كسر احتكار السلاح، وهو إنجاز كبير من إنجازات ثورة يوليو، لم يمنع هزيمة يونيو 1976، ولم يمنع أن تفقد مصر سلاحها وعتادها في سيناء بدون استخدام تقريبا، لأنه لا فائدة من سلاح يعمل تحت قيادة عسكرية جاهلة تركز أبصارها على السيطرة والحكم بأكثر مما تركز على أداء دورها الطبيعي في حماية حدود البلاد”.

– ثم عن القومية العربية يقول: “ثورة القومية العربية كانت إنجازا كبيرا هز قوائم الاستعمار، وبلغت ذروتها بالوحدة المصرية – السورية، لكن الأخطاء الفادحة التي ارتكبت أثناء الوحدة انتهت بها نهاية فاجعة”.

– ثم عن الاشتراكية يقول “أما عن قرارات يوليو الاشتراكية 1961، فقد تمخضت عن رأسمالية دولة لا يوجد وجه شبه بينها وبين اشتراكية حقيقية، وبدورها تحولت إلى رأسمالية فردية بقوانين الانفتاح الاقتصادي 1974، وتوقف التحول الاشتراكي”.

– ثم يقول إن “ثورة يوليو 1952 نقلت الحكم من يد البرجوازية الكبيرة -يقصد كبار الملاك الزراعيين وكبار الرأسماليين الصناعيين- إلى يد البرجوازية الصغيرة، المدنية والعسكرية. لكن هذا لم يتم سلميا، وإنما تم من خلال صراع هائل، بين البرجوازية الكبيرة التي كان في أيديها الحكم، والعناصر البرجوازية الصغيرة التي قامت بالثورة والتي أيدتها”.

– ثم يقول: “ولم يكن هذا الصراع بسيطا، بل كان صراعا مركبا ومعقدا، بسبب التناقضات بين الجناحين الزراعي والصناعي من البرجوازية الكبيرة، واستفادت ثورة يوليو من هذا التناقض، فبدأت بالتخلص من الأولى بالإصلاح الزراعي، ثم ختمت بالتخلص من الثانية بقرارات التأميم الاشتراكي”. ص 11 بتصرف.

تعليقي على دكتور رمضان يمكن إيجازه في نقطتين:

أ – صحيح أنه تمت إزاحة الطبقة القديمة عن الحكم، لكن لم ينتقل الحكم إلى طبقة جديدة، الحكم لم ينتقل من طبقة إلى طبقة، الحكم انتقل من قوة إلى قوة، من قوة السراي إلى قوة الجيش، من قوة تحكم بالأمر الواقع الذي أقره محمد علي باشا بالذراع وبالخداع وحظي عليه بتوافق دولي في اتفاقية 1840، إلى قوة تحكم بالأمر الواقع فرضته بالسلاح مع توافق دولي وقبول محلي، الحكم انتقل من سلاح محمد علي باشا إلى سلاح الضباط الأحرار، انتقل من السلالة العلوية إلى المؤسسة العسكرية.

ب -الطبقة القديمة -برجوازية زراعية أو صناعية- مع المؤسسة الملكية، كلتاهما كانت قد تحللت حتى تعفنت حتى فقدت مبررات البقاء، ولم يكن لدى هذه ولا تلك همة ولا إرادة تدافع عن نفسها كمصلحة خاصة مباشرة لصيقة بالوجود الذاتي، كذلك لم يكن لدى الطبقة ولا السراي الملكية دافع أخلاقي من شأنه أن يمنحها طاقة الدفاع النبيل عن خيارات عامة، كلتاهما كانت قد أفلست، وهذا الإفلاس كان جواز المرور ثم العبور للضباط الأحرار.

ج – الطبقة البرجوازية ناضلت الاستعمار كما ناضلت السراي الملكية لكنها ذاتها مارست على من دونها من الطبقات بعض استغلال الاستعمار واستغلال السراي معا”، هذه الطبقات التي تعرضت للاستغلال كانت جاهزة لتأييد أي بديل نقيض سواء من الضباط أو من غير الضباط.

***

في ص 97 من كتابه (الديمقراطية ونظام 23 يوليو 1952- 1970) طبعة دار الشروق 2013، يشبه طارق البشري عملية خلع الملك ابن الملك حفيد إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي باشا -يعني خلع سلالة حاكمة المفروض أنها ضربت بجذورها في البلد قرنا ونصف قرن- يشبهه كما لو كان حصوة في طريق عام تمت إزالتها بسهولة دون مشقة ودون حاجة لتوقف العربة عن سيرها، يقول “وكأن خلع الملك كحصاة أزيلت من طريق عام، لم تستدع إزاحتها مجرد أن تقف العربة قليلا”. إذا كان محور النظام وعصبه الصلب يمكن إزالته بهذه الطريقة، دون أن يغضب له الشعب، ودون أن يغضب له المجتمع السياسي، ودون أن تغضب له -علنا- بطانته وحاشيته والطبقة الأوسع المستفيدة منه، إذا كان ذلك كذلك، فأي حديث عن صراع مدني – عسكري هو لغو كلام غير ذي صلة بالواقع.

لم يحدث صراع في اللحظة التي يكون للصراع فيها معنى وقيمة، إنما حدث إما ارتياب وإما ارتياح أو تسليم أو استسلام أو قبول أو تقبل أو ترحيب مؤقت أو دائم، وهذا خلق حالة من الضبابية كافية لينجز الضباط ما أنجزوه، وخير الحروب ما كان تحت الضباط، حتى إذا بدأ الضباب ينقشع وبدأت ملامح الديكتاتورية تتضح معالمها، وحتى إذا بدأت المخاوف الديمقراطية والمدنية تعبر عن نفسها بوضوح، كانت الديكتاتورية العسكرية البازغة في وضع يسمح لها بأمرين: سحق الخصوم السياسيين بكل قوة، ثم سحق الحلفاء المدنيين كذلك بكل قوة، استغناء كامل عن مهادنة االخصوم، واستغناء كامل عن استرضاء الحلفاء. لا فرق عندهم بين ملك ولا باشا ولا أغلبية ولا أقلية ولا وفد ولا إخوان ولا شيوعيين ولا ليبراليين ولا عمال ولا رأسماليين، فقد تم هرس ثم فرم ثم طحن ثم عجن الجميع على قدم المساواة كل في وقته المناسب.

على عكس دكتور عبد العظيم رمضان الذي غير موقفه من ثورة يوليو 1952، فإن طارق البشري عاش ومات على موقف ثابت منها، فهو معها إلا فيما يتصل بالديمقراطية وحكم الدستور، ثم هو أكثر تفهما ولا أقول أكثر تبريرا، وهو في موقفه من ثورة يوليو 1952 يشبه تماما موقفه من نضال حزب الوفد وزعامة سعد زغلول ومصطفى النحاس، فهو في كلا الحالين يحمل للوفد مثلما يحمل لثورة يوليو درجة رفيعة من الاحترام والتقدير.

ومثلما نقلت موقف دكتور رمضان باختصار عن الفترة من 1952- 1954 وهي الفترة التي تأكد فيها انتصار الديكتاتورية العسكرية البازغة على بواقي الديمقراطية الآفلة، أنقل كذلك، رؤية طارق البشري.

فهو يرى ما حدث بين التاريخين عملية ثورية أنجزت هدفين: إسقاط النظام القديم أي الخصوم، ثم حسم الصراع مع الحلفاء، والحلفاء كانوا الإخوان ومصر الفتاة والحزب الوطني والشيوعيين والسياسيين المستقلين من كارهي الوفد.

يقول في ص 96: “هذه العملية الثورية بشقيها – إسقاط الخصوم ثم استبعاد الحلفاء- حدثت في ثورة 23 يوليو، خلال الفترة من تاريخ قيامها حتى أواخر عام 1954، على أن مما تميزت به ثورة 23 يوليو أن الجهاز السياسي الذي قام بها، وهو الضباط الأحرار، كان أقرب ما يكون إلى عينة سياسية ثورية، وأبعد من أن يكون تجسيما لقوة سياسية ذات ثقل في التعبير عن مصالح سياسية واجتماعية محددة، كان جهازا منفردا محدودا جدا في عدد أعضائه، وقد ضرب النظام القائم وسيطر عليه في ساعات معدودة، وبهذه الضربة الحاسمة التي تمت في الساعات القليلة، قبيل فجر 23 يوليو، جرت حركة الصراع السياسي والاجتماعي على مدى العامين التالين، جرت من مواقع مختلفة تماما، إذ صار لقيادة الثورة اليد العليا في إدارة الصراع.

ثم يقول في ص 97: “وإن القوى الحفيظة على النظام القديم لم يُظهر أي منها عزما على التحرك، ولا هم باتخاذ إجراء ما يشكل نوعا من الخطر على قوة الثورة الوليدة، كان وضع تلك القوى – يقصد الملك والبرجوازية الزراعية من كبار الملاك والبرجوازية الرأسمالية الصناعية وتمثلاتها في الوفد وأحزاب الأقلية الموالية للملك – هذه القوى كانت قد تآكلت منابتها عبر المرحلة السابقة، ولم يعد لديها ما تقدر به أن تقيم الأود (يقيم الأود معناها يصلح الاعوجاج أو يصلح الأمر)، أحدقت بها الأزمات منذ الأربعينيات، فبدت عشية الثورة في وضع تهتكت فيه روابطها التنظيمية، وانعكس ذلك في شدة الوهن والإعياء في مواجهة ما تقتضيه احتمالات الموقف الخطير ليلة 23 يوليو، أو في الاستجابة للنذر المستبينة، سواء من وزير الداخلية، أو من رئيس الوزراء، أو من قيادة الجيش”.

ثم يقول: “لقد تفكك النظام السياسي والاجتماعي، وظهرت حركة الجيش، واعتلت قيادتها السلطة بنفر قليل من الأنصار، وأُعلن عنها -يقصد الثورة- وتكونت وزارة جديدة من السياسي المخضرم علي ماهر تحت الهيمنة الفعلية “لحركة الجيش” وخُلع الملك فاروق بعد أربعة أيام، وبدا للكافة أن نظاما جديدا يقوم، وكل ذلك جرى في سهولة ويسر، وعلى صورة أقرب إلى رتابة الحياة اليومية، وكأن ما حدث مجرد تغيير وزاري، أو مجرد حركة تنقلات في قيادة الجيش، وكأن خلع الملك كحصاة أزيلت من طريق، لم تستدع أزاحتها مجرد أن تقف العربةُ قليلا”.

***

ضباط يوليو 1952، يختلفون عن ضباط العرابيين1881، يختلفون عن ضباط المشير 2011.

1 – العرابيون كانت تقع عليهم مظالم داخل الجيش، وهذا هو دافعهم الأول الذي ضمهم إلى الثورة المدنية البازغة، كانت لهم مصلحة مباشرة كعسكريين يتم التمييز ضدهم لصالح الضباط من ذوي الأصول التركية والشركسية، هذا التمييز ضد الضباط المصريين أو أبناء الفلاحين بمصطلحات ذلك الزمان يعود إلى النشأة الأولى للجيش الحديث، فقد قام على مدربين أوروبيين وأتراك، ثم ضباط من الممالك البيض المجلوبين من القوقاز وجورجيا وبلاد الشركس، ثم جنود من العبيد السود المجلوبين من أفريقيا، كان الجيش باختصار شديد مؤسسة من العبيد البيض كضباط ثم العبيد السود كجنود تحت قيادة أوروبية – تركية، حتى إذا بدأ تجنيد الفلاحين المصريين كان عليهم معاناة التعايش مع هذه التركيبة، فلاهم أوروبيون ولا أتراك ولا حتى مماليك بيض، كذلك هم ليسوا من الرقيق المجلوب من أفريقيا، كان عليهم أن يقاسوا أعباء رحلة شاقة من الصعود والحراك المهني داخل الجيش، لم يحصلوا عليه إلا بالتدريج بعد الثورة العرابية، وبعد أن سعى الإنجليز لتمكين المصريين لصنع توازن مع الضباط من أتراك وشراكسة.

2- ضباط يوليو 1952 حركتهم مثل عليا بمصطلحات ذلك الزمان، حركتهم دوافع وطنية، لم تكن لهم كضباط مظلمة فئوية أو مهنية، لكن على امتداد عقد الأربعينيات كانوا جزءا من الحالة الوطنية العامة، بدأت بتعاطفهم مع الملك ضد الوفد حين حاصرت دبابات الاحتلال القصر الملكي لإجبار الملك على تعيين حكومة وفدية 4 فيراير 1942، ثم انتهت بكراهيتهم للملك والوفد والإنجليز وأركان النظام كله، فقرروا تصفية الجميع، وكان التوقيت مثاليا، وكانت الثمرة ناضجة، فسقط الملك، وسقط الوفد، وسقطت كل الأحزاب، ورحل الاستعمار. بهذه الروح العالية، وبهذه الفدائية السامية أنجزوا هذه الغايات المدنية، لكنهم في مقابل ذلك فشلوا فشلا ذريعا في مهمتهم الأساسية وفي واجبهم العسكري، فقد انهزموا مرتين، وانسحبوا من الميدان مرتين، وخسروا سيناء كاملة مرتين، لم يستعدوا للحربين، ولم يقاتلوا في الحربين، ولم يحسنوا الانسحاب في المرتين، حدث هذا في 1956 ثم 1967، ومن هنا فإن جسارة الجنرالات العظماء في حرب أكتوبر 1973 تستمد عظمتها ونبلها وشرفها ليس فقط فيما أصابت به العدو من خسائر مادية وأدبية، لكن قبل ذلك، وبعد ذلك، بما حفظته وصانته وخلدته من شرف العسكرية المصرية العظيمة.

3 – ضباط المشير 2011، لم تكن عليهم مظالم مثل العرابيين، ولم تكن لهم مثاليات عليا مثل ضباط يوليو، كانوا طبقة تملك السيادة ولو لم تكن تباشر الحكم، كانت طبقة “مُلك” بضم الميم وبالمعنى الحرفي الذائع في الثقاقة الشعبية والدينية السائدة، لم يمانعوا في سقوط الملك، وكان مبارك من طول المكث في السلطة العليا قائد سلاح ثم نائب رئيس جمهورية ثم رئيس جمهورية ثلث قرن موصول كان قد سكنه الإحساس بالمُلك، ملك على عرشه مستقر مطمئن مثل أي ملك عربي ورث العرش عن أبيه وجده، وكانت حاشيته وبطانته تتصرف مثل حاشية ملك وبطانته، وكذلك كانت أسرته الصغيرة جزءا من المجتمع الملوكي العربي، وحتى بعد رحيله تبدو عليهم – دون تكلف منهم – أنهم أمراء من ملكية سقطت. لم يمانع ضباط المشير من الاستغناء عن الملك الذي سقط، لكنهم قرروا عدم الاستغناء عن المُلك.

في الحالات الثلاث اختلفت الدوافع لكن اتفقت الطبيعة العسكرية في أمرين:

– القفز على السلطة طالما يوجد ضعف أو فراغ مدني يغري بذلك.

– اللجوء إلى الديكتاتورية طالما هي ممكنة وطالما يوجد ما يستدعيها.

***

عندنا، وعند غيرنا، في الشرق والغرب، قفز العسكريين على السلطة وارد، بل وسهل في حالتين:

الأولى: عندما تفقد السلطة القائمة احترامها لدى مواطنيها وقد حدث هذا في 1952.

الثانية: عندما تسيطر حالة الانقسام على القوى المدنية البديلة وقد حدث هذا في 2011.

في المرتين، قبض العسكريون على السلطة، رغم أن مصر عند منتصف القرن العشرين حتى 1952 كان فيها واحدة من أنشط حالات الغليان السياسي ذي الطابع المدني في العالم، وهو ما تكرر في العقد الأول من هذا القرن حتى 2011، في الحالتين لم ينجح بديل مدني في إغلاق الطريق أمام الحل العسكري.

ثم عندنا، وعند غيرنا، في الشرق والغرب، بعد القفز على السلطة يكون التحدي الأكبر الذي يواجه العسكريين هو تبرير هذا الفعل، تبريره لأنفسهم، ثم للشعب، ثم للعالم.

ومن يقرأ في تاريخ آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية يكتشف أن العسكريين – كل العسكريين – في ذلك واحد لا يكادون يختلف بعضهم عن بعض في هذا الأمر.

في ص 309 من كتابة ” علم الاجتماع العسكري: التحليل السوسيولوجي لنسق السلطة العسكرية ” الصادر عن دار المعارف 1980م، يقول الأستاذ الدكتور أحمد إبراهيم خضر أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة أن هناك العديد من الأسباب التي يركز عليها العسكريون لتبرير التدخل في السياسة ثم القفز على السلطة، هذه الأسباب يوردها كالتالي.

1 – أن الحكومة المدنية فشلت في تحقيق الأهداف التي ترجوها الأمة.

2 – أن الحكومة المدنية قامت بأفعال غير قانونية تتعارض مع المبادئ الدستورية.

3- الأحزاب والجماعات القائمة تصرفت بما يهدد الأمن القومي للبلاد وشجعت ععلى العنف وعدم الاستقرار السياسي.

4 – أن الحكومة المدنية قد تبنت وطبقت سياسات أدت إلى انهيار اقتصادي.

5 – أن الحكومة قد فشلت في تخطيطها لبرامج الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي.

6 – يؤكد العسكريوع عزمهم على إزالة الفساد واستئصال عناصر الهدم في الدولة وعلاج الخلل السياسي.

7 – يلزمون نفسهم بمعاداة النظام القديم أكثر من إلزام أنفسهم ببناء مجتمع أفضل ومختلف.

***

بعد عشرين يوما من 23 يوليو 1952 وقعت أحداث كفر الدوار،

وبعد عشرين يوما من 3 يوليو 2013م كان طلب التفويض،

ماذا كان يعني هذان الحدثان؟

في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.