اتخذت مصر، خلال السنوات القليلة الأخيرة، خطوات عدة لدعم نفوذها في قارة أفريقيا، انطلاقًا من اتجاهين رئيسين؛ أولهما تنشيط آليات الاتصال السياسي، وثانيهما دعم الدبلوماسية الاقتصادية، مستثمرة حقيقة أنها تمثل 17% من إجمالي الناتج الأفريقي. إذ بلغت كثافة المشاريع، التي نفذتها مصر في قارتها، ذروتها في العام 2019، بإجمالي 32 مشروعًا. بينما يتوقع أن يزداد التعاون الاقتصادي مع دخول اتفاقية التجارة الحرة حيز التنفيذ. خاصة وأن القاهرة إلى جانب فرصها الاقتصادية المهمة في القارة السمراء، تحاول جذب التأثير الأفريقي المطلوب فيما يتعلق بأزمة سد النهضة، والتي كشفت حجم التباين في المواقف الأفريقية تجاه مصر، في مقابل ما يبدو من نجاح أديس أبابا في بناء جبهة مؤيدة لموقفها، مستغلة ورقة المظلومية لدعم موقفها في أزمة مياه النيل.
يحدث هذا كله وسط تنافس إقليمي كبير على النفوذ، تشهده القارة التي غابت القاهرة عن التأثير فيها لعقود طويلة.
الكل يتنافس على كعكة أفريقيا
فرض التنافس الإقليمي في قارة أفريقيا أن تلعب القاهرة جهدًا مضاعفًا لاستعادة دورها الذي بُني سابقًا على دعم حركات التحرر الوطني. بينما اليوم ومع تراجع هذا الدور -نتاج أسباب عدة- تواجه مصر تحدي ضعف التأثير، الذي ظهر في أشد صوره مع أزمة سد النهضة. إذ لم يبق إلا أن تستعيد ما فقدته قاريًا، خاصة بعدما أضيف إلى التحدي ظهور قوى أقليمية -أبرزها إثيوبيا وتركيا وإسرائيل- طامحة للنفاذ إلى شرق القارة، عبر دبلوماسية المساعدات وتقديم القروض وممارسة الوساطة في النزاعات. ذلك بالإضافة إلى التنافس الدولي بين الصين والولايات المتحدة وروسيا وفرنسا.
اقرأ أيضًا: الاقتصاد أولا.. الخليج وأفريقيا خريطة مزدحمة بالمصالح والفرص والنفوذ
تشكل منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر بؤرة اهتمام كبرى، لاعتبارات جيوسياسية واستراتيجية، كونها تطل على مضيق باب المندب، أحد أهم طرق التجارة البحرية ونقل الطاقة. إذ يمر عبره 25% من الصادرات العالمية و30% من النفط المتجه إلى الغرب (ملياري برميل)، أي يتمركز به ما تصل قيمته 700 دولار مليار في ميزان التجارة سنويًا.
أما الساحل الأفريقي، فهو ملتقى التنافس التركي الإيراني. وقد منحته أزمة الطاقة أهمية كبيرة، مع بدء العمل في خط أنابيب غاز “نيجيريا-المغرب” إلى أوروبا، وفي ذلك ساحة مواجهة للاستحواذ على النفوذ ما بين فرنسا وروسيا.
وبالتالي، أصبحت أفريقيا رقعة نشطة للتنافس الإقليمي والدولي معًا. خاصة في السنوات الأخيرة، نتيجة تقاطع المصالح، ومحاولات إثبات النفوذ، والرغبة في الوصول إلى أكبر قدر من الموارد.
ويمكن تناول أبرز حالات هذا التنافس المتصاعد إقليميًا في مواقف كلًا من إيران وتركيا وإسرائيل ودول الخليج:
إيران:
انطلقت إيران في أفريقيا من أجل الالتفاف على العقوبات الأمريكية وفك الحصار الاقتصادي ومزاحمة التواجد الخليجي. بالإضافة إلى احتواء منافسيها الإقليميين، بما في ذلك إسرائيل وتركيا. ويمثل القرن الأفريقي بوابتها، لذا ترسخت أفريقيا في أجندة السياسة الخارجية الإيرانية وفقًا لاستراتيجية المرشد الإيراني “آية الله على خامنئي” في عام 2012. وقد اعتبر أفريقيا جانبًا رئيسيًا من المدار الجيوسياسي لإيران، على حد وصفه: “القارة الأفريقية هي جزء من الإطار الرئيسي للسياسة الخارجية للدولة”.
وفي 2022، سجلت صادرات إيران إلى أفريقيا نموًا بنسبة 120%، بإجمالي يصل إلى 1.2 مليار دولار. وبلغت واردات أفريقيا إلى إيران حوالي 580 مليار دولار.
وتستهدف إيران حاليًا زيادة التبادل التجاري السنوي مع الدول الأفريقية إلى 5 مليارات دولار بحلول عام 2025. وأنشأت طهران قاعدة عسكرية في إريتريا لترسيخ وجودها وحماية مشاريعها. كما تسعى إلى إنشاء منطقة اقتصادية بهدف توسيع التجارة مع أفريقيا.
الخليج:
اكتسبت العلاقات بين دول الخليج وأفريقيا ديناميكية جديدة في أعقاب التدخل العسكري في اليمن عام 2015. فقد تحولت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى القرن الأفريقي باعتباره مساحة جيواستراتيجية، وكذلك من أجل الحفاظ على عمق استراتيجي آمن في الجنوب الغربي، ومنع توسع النفوذ الإيراني.
كما أشعلت الأزمة الخليجية في 2017 التنافس في منطقة القرن، على وجه الخصوص بين الإمارات والسعودية من جهة وقطر وتركيا وإيران من جهة أخرى.
وتمثل الإمارات الشريك الاقتصادي الأول إقليميًا للدول الأفريقية. ذلك بإجمالي يزيد عن 25 مليار دولار. كذلك تبنى الإمارات رؤيتها داخل المنطقة من خلال استراتيجية السيطرة على المواني البحرية (عدن والمكلا في اليمن، وعصب في إريتريا، وبربرة وبوصاصو في أرض الصومال). فضلًا عن مشاريع الكويت في مجالي المياه والطرق في مالي والسنغال، واستثمارات السعودية مثل مشروع “نيوم” في البحر الأحمر، والربط الملاحي مثل (جيبوتي وجدة وجيزان).
تركيا:
تعتمد سياسة تركيا في منطقة الساحل على توظيف الورقة الدينية، وهي في تنافس حاد مع إيران. كما تركز على التعاون الأمني الثنائي، وتدعم حكومة السراج في ليبيا، لضمان حضورها في شمال أفريقيا، ولها قواعدها العسكرية في طرابلس ومقديشو.
ويبلغ إجمالي حجم التجارة التركية مع أفريقيا 26 مليار دولار في عام 2021. ويقترب الاستثمار الأجنبي المباشر من 10 مليارات دولار. وهي المستثمر الأول فى إثيوبيا بنحو 3 مليارات دولار. كما بلغت قيمة مشاريع المقاولات في القارة 71.1 مليار دولار في عام 2021.
وكذلك تصل الخطوط الجوية التركية إلى 40 دولة أفريقية، وأنقرة من أهم موردي الأسلحة في أفريقيا، حيث استطاعت درونز البيرقدار التركية حسم عديد من الصراعات. لاسيما نزاع رئيس الحكومة الإثيوبي “آبي أحمد” ضد عرقية التيجراي.
إسرائيل:
تقيم إسرائيل علاقات دبلوماسية مع 40 دولة أفريقية. ومؤخرا، ساعدت اتفاقية إبراهام مع المغرب والسودان في نشر حضورها في القارة، باعتبارهما مدخل للتمدد الإسرائيلي من الغرب والجنوب الأفريقي. كذلك تفعل تل أبيب علاقاتها مع دول شمال أفريقيا، وقد سعت للحصول على وضع مراقب في الاتحاد الأفريقي.
وتعكس هذه الدبلوماسية النشطة مدى الحرص الإسرائيلي على إيجاد موطئ قدم في ساحة التنافس الإقليمي في أفريقيا كرقعة إضافية لنشر الحضور الإسرائيلي، الذي ظل معزولًا عن هذه القارة لسنوات.
كما تسعى إسرائيل لتأمين حركة الشحن الدولي إلى ميناء إيلات، وتأمين خطوط الاتصال مع الوكلاء وشبكة المصالح غير الرسمية في المنطقة.
إثيوبيا:
على مدار السنوات الخمسة عشر الماضية، كان الاقتصاد الإثيوبي من بين الأسرع نموًا في العالم (بمتوسط 9.5 % سنويًا)، فيما تقدر أغلب التقارير الدولية أن إثيوبيا قوة صاعدة في أفريقيا، كونها تضع خطوات نحو توسيع نفوذها، لاسيما في منطقة شرق أفريقيا. وهي تحافظ على قدر حيوي من العلاقات مع القوى الكبرى على رأسها الولايات المتحدة.
ومنذ توتر العلاقات الأمريكية الإثيوبية على خلفية الحرب مع قوات التيجراي، استهدفت روسيا استثمار ذلك التوتر لصالحها، ما تبين في زيارة وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” الأخيرة .
وتحرص إثيوبيا على بناء علاقات قوية مع الدول الأفريقية المجاورة، لاسيما جيبوتي والصومال؛ للاستفادة من سواحلهما.
أيضًا، حرص آبي أحمد على تطبيع العلاقات مع إريتريا لإنهاء عداء دام عقدين، ما أكسبه نفوذًا دوليًا تمثل في حصوله على جائزة نوبل للسلام. وقد عمل على حشد الدعم الأفريقي في مواقف إثيوبيا الخلافية مع الدول الأخرى، لاسيما في أزمة سد النهضة، بينما استفاد من عودة العلاقات مع إريتريا في دعم قواته عسكريًا ضد التيجراي.
وتسعى إثيوبيا لأن تكون مركزًا حيويًا لاقتصاديات القرن الأفريقي، وتعزيز خطوات التعاون الدولي لتكون مفتاح القرن الأفريقي لجميع الشركاء الدوليين والإقليميين، وتأمين العديد من المواني البحرية في المنطقة؛ لضمان تجارة خارجية مستدامة. وهي تعتمد بشكل كبير على جيبوتي وكينيا للوصول إلى البحر.
مصر في أفريقيا
تعاني الدول الأفريقية أزمات ترتبط بسوء استغلال الموارد ونقص الخبرات والقدرات الفنية. وهو ما تحاول القاهرة استغلاله بدعم التعاون في عدة اتجاهات، أهمها الاقتصادي الذي ارتكز على مشروعات المياه والكهرباء والطاقة، بما تحمله من أهمية استراتيجية تساعد في تحسين صورة القاهرة كشريك اقتصادي يسعى للتعاون وتعزيز التنمية. كذلك، تأتي مشروعات الربط البري والبحري كأدوات للتبادل التجاري والربط بين مصر ودول حوض النيل من جهة، ومصر وشمال ووسط وباقي القارة من جهة أخرى.
ويمكن في هذا السياق إيضاح العلاقات الاقتصادية المصرية الأفريقية من خلال مرتكزاتها ومجالات التعاون وكذلك التحديات التي تواجهها، فيما يلي:
الاتفاقيات المنظمة للعلاقات الاقتصادية
وقعت مصر عدة اتفاقيات تجارية تعمق أشكال التعاون بينها وبين دول القارة، منها:
اتفاقية أغادير لإنشاء منطقة تجارة حرة لتجارة الحرة بين مصر والأردن والمغرب وتونس. وقد جرى التأكيد على تفعيلها في منتدى الأعمال المصري التونسي المشترك المنعقد في مايو/ أيار 2022.
اتفاقية السوق المشتركة لدول شرق وجنوب أفريقيا (الكوميسا). وتستهدف تكوين اتحاد جمركي وسوق مشترك بين الدول الأعضاء، وتعفي السلع المتداولة بينها من الرسوم الجمركية.
اتفاقية التجارة الحرة القارية الأفريقية، والتي دخلت حيز التنفيذ في 30 مايو 2019. وتجعل السوق الأفريقي مفتوحًا أمام المنتجات المصرية. وبذلك تضيف لمصر ما لا يقل عن 32 شريكًا تجاريًا جديدًا.
اقرأ أيضًا: 12 توصية لإضفاء الفاعلية على السياسة المصرية تجاه أفريقيا.. ورقة سياسات جديدة من “دام”
مؤشرات ومجالات التعاون
يقدر حجم التبادل التجاري بين مصر وأفريقيا نحو 5 مليار دولار. وبلغ إجمالي قيمة الصادرات إلى دول الاتحاد الأفريقي 3.9 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2021. وسجل ارتفاعًا بنسبة 37.8%، طبقًا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021. بينما تستهدف مصر مضاعفة صادراتها إلى 10 مليار دولار بحلول عام 2025.
تبلغ الاستثمارات المصرية المباشرة في أفريقيا حوالي 7.9 مليار دولار، وهي بشكل رئيسي في قطاع البنية التحتية؛ مثل مشروع الربط البري “القاهرة-كيب تاون”، وكذلك طريق “القاهرة –دكار”.
كما وقعت مصر اتفاقية مع السودان لرفع قدرة ربط شبكة الكهرباء إلى 300 ميجاوات. كما شاركت في بناء محطة Julius Nyerere للطاقة وسد Stiegler’s Gorge في تنزانيا. إلى جانب مشروع للربط المائي بين بحيرة فيكتوريا والإسكندرية.
وتمتلك مصر مزارع في توجو وإريتريا، ومصايد أسماك في الجزائر وملاوي وزيمبابوي، ومزرعة ماشية في أوغندا. وقد أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي، في منتدى الاستثمار الأفريقي 2018 (AIF)، عن إنشاء صندوق ضمان مخاطر الاستثمار للتشجيع على الاستثمار في أفريقيا.
دوافع وتحديات
انطلق التفاعل المصري مع دول أفريقيا من عدة متغيرات؛ منها أسباب سياسية، والحاجة إلى تفعيل الدور، غير التنافس الإقليمي والدولي في القارة. وهناك أيضًا الأسباب الاقتصادية. وكل هذه الأسباب تشتبك مع هدف استعادة الدور وتقوية موقفها في سد النهضة، وتحقيق تنمية معتمدة على التكامل الإقليمي.
وهناك تشابك بين ما هو أمني وسياسي واقتصادي في علاقات مصر بالدول الأفريقية. خاصة في ظل التنافس الإقليمي في القارة.
وعلى الرغم من الجهود المصرية الجادة لإعادة ترسيخ وجودها في أفريقيا سياسيًا واقتصاديًا، تقع أمام القاهرة عدة تحديات، منها الدول المنافسة على النفوذ أفريقيًا مثل إثيوبيا، وخارج القارة كما هو الوضع مع تركيا وبعض دول الخليج، وضعف الحوكمة والمؤسسية كسمة عامة في أغلب الكيانات والحكومات الأفريقية. ومؤخرًا تداعيات اقتصادية تتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية، وتحديات أمنية تتعلق بضعف تحقيق الاستقرار وسلامة المشروعات.
ورغم التحديات إلا أن هناك إمكانات لتوسيع التعاون بين مصر ودول القارة، وفقًا لقدراتها الاقتصادية المتاحة، واستخدام أدوات ضمنها المنتديات والمؤتمرات، وتفعيل الشراكات الاقتصادية، واستثمار اتفاقية التجارة الحرة القارية، التي يمكن أن تساهم في تعزيز هذا التعاون.